السبت، 11 شوال 1445هـ| 2024/04/20م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
  •   الموافق  
  • 1 تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وضعيّة المدرّس في تونس تنحدر من "الوقار" إلى الاستهتار

 

قُــمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّــهِ التَّبْجِيلَا *** كَادَ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَـكُونَ رَسُــولًا

 

أَعَلِمْتَ أَشْرَفَ أَوْ أَجَلَّ مِنَ الَّذِي *** يَبْنِي وَيُنْشِئُ أَنْفُساً وَعُقُولًا

 

لعلّ هذه الأبيات الشعرية شهادة راسخة بذاكرتنا على المنزلة المبجّلة و"المقدّسة" للمعلّم التي تناقلتها الأجيال حيث استجاب فيها الشاعر أحمد شوقي للثّوابت الأخلاقية والفكرية التي عاش بها مجتمعنا الإسلامي، وللأسف اليوم وقد فقد المدرس هذه الثروة المعنوية العظيمة فضاعت هيبته واندثر وقاره حتّى أصبحت مثل هذه المقولات بمثابة مقاطع فنية "كالمألوف" تردّدها بعض الألسنة والبعض الآخر يستهزئ بها ويحّرفها. وتحوّلت هذه النظرة المشوهة إلى ظاهرة متفشّية في واقعنا وجزء من أزمة قطاع التعليم بأكمله نظرا لدوره المحوري داخل المؤسسة التعليمية فهو الذي يباشر العلاقة مع المتعلّم والولي والإدارة وهو الذي يتحمّل تبعاتها.

 

لذا حريّ بنا أن نتساءل: أليس بالتعليم وبأجهزته والثقافة التي يعمل على حفظها في صدور أبنائنا يتشكّل العمود الفقري للأمّة؟ فماذا يحصل لو فُقد مفصل من مفاصله؟ ألا يمكن أن نعتبر أن الدّور الذي أنيط بالمعلم هو أحد أهم المفاصل والذي لا بّد من الحفاظ عليه كي تستمرّ الحركة؟ ولكن من المتسبّب في خلق هذه المعاناة؟ أهو المدرّس نفسه أم المتعلّم أم المجتمع أم النظام الذي يحتويهم جميعا؟

 

وحتى نجيب عن هذه التساؤلات لا بدّ أن نقارن بين وضعيّتين عاشهما المدرّس في ظلّ الإسلام طوال عقود الخلافة وفي ظلّ ما يسمّى بالدّولة "الوطنية" منذ زمن الاستعمار أي ما بعد هدم الخلافة.

 

وضعيّة المدرّس في ظل دولة الإسلام:

 

فمن المعلوم أن الإسلام كعقيدة انبثق عنها نظام حياة يعالج كل مشاكل الإنسان استجابة من الخالق لحاجياته الضرورية والكمالية دعا إلى طلب العلم وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة، وبما أن هذا الأمر الرباني يتحقق بوجود "علماء" فقد أولاهم الرعاية والمهابة حيث اعتبرهم ورثة الأنبياء، ففي الحديث النبوي «إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»، وهم أهل خشية من الله عز وجل ومميزون عن غيرهم من عامة الناس إذ يقول تعالى في محكم آياته ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وحتى لا نقع في تحريف الآيات فهؤلاء العلماء الذين مجّدهم الإسلام ليسوا العلماء بالإطلاق ذوي شهادات عالية أو مختصّين في مجالات علمية نادرة بل هم الطائفة الذين علموا فعملوا فسخّروا علمهم عبادة لله وكانوا من العالمين القانتين. وتاريخ الدولة الإسلامية زاخر بهؤلاء العلماء الأمجاد الّذين تجسّدت فيهم العقليّة الإسلامية فأفادوا الناّس بعلمهم والنفسيّة الإسلامية فامتثلوا لأوامر ربّهم. ثم إن بعض العواصم والمدن الإسلامية التي توافد عليها الناس للتزوّد بالعلم والثقافة خير دليل على وجودهم وأثرهم في حياة الأمة ولا شكّ أن أرض الزيتونة أنموذج برّاق في إنجاب ثلّة بارزة من هؤلاء الأمجاد في وقت حاربت فيه الكنيسة البابوية كل نفَس علميّ وحركة تفكير مخالفة لها واتهمت العلماء بالزندقة وعملت على إبادتهم حتّى عرفت هجمة الدولة الدينية على العلم آنذاك "بالأصولية" التي حاولوا تلبيسها على الإسلام من قبل عبيد الغرب المضبوعين بالحضارة الغربية وما أكثرهم في بلادنا!

 

كما أن الشّواهد لا تحصى في عصور الخلافة (الأموية، والعباسية، والعثمانية) على إيلاء العلماء العناية والمهابة حتى إنهم لا يتغيّبون عن مجالس الخلفاء والسلاطين كمعلّمين وناصحين ومربّين وحتّى مستشارين؛ فهذا هارون الرشيد اتخذ الكسائي معلماً لابنيه الأمين والمأمون، وفي يوم انتهى درسه فاستبق الاثنان إلى نعليه كل يريد أن يكون له السبق في تقديمهما إليه واختلفا ثم اتّفقا على أن يقدم كلُّ واحدة له. وعلم الرشيد فطلب الكسائي فلمّا مثل بين يديه سأله: من أعزّ الناس؟ قال الكسائي: لا أعلم أعزّ من أمير المؤمنين! فقال الرشيد: إن أعزّ الناس من يتسابق على حمل نعليه وليّا عهد المسلمين، فأخذ الكسائي يعتذر خشية أن يكون قد أخطأ. فقال الرشيد: لقد سرّني ما قاما به. إن المرء لا يكبر عن ثلاث صفات: تواضعه لسلطانه، ولوالديه، ولمعلّمه.

 

فالأمّة الإسلامية الحيّة طوال عصور الخلافة أبدت حرصها على التقدّم والتميّز بين الأمم بقدر اهتمامها بالعلماء والمعلّمين حتّى تجذّر هذا العرف وتوارثته الأجيال بل بقي أثره للآن لدى عدد من الناس رغم مضيّ عقود على هدم الخلافة.

 

وضعيّة المدرّس منذ الاستعمار وبعد "الاستقلال" المزعوم!

 

لا شكّ أنّ المستعمر لم يستهدف المدرّس في ذاته لأنّ مشروعه أعمق وأكبر فسهامه المسمومة صوّبها لأمّة بأكملها بثقافتها وثرواتها البشرية والمادية والمعنوية للقضاء على كل مقوّماته كي لا تستعيد نهضتها، وما حالة المدرّس المترهلّة اليوم في بلادنا المستعمرة إلا مجرّد عيّنة عن المأساة التي يعيشها عامّة الناّس كما تشكّل عيّنة أخرى عن فساد المنظومة التعليمة باعتبارها طرفا مساهما فيه سواء بالطوع أو الإكراه. وكلمحة عن هذه المعاناة يمكن نتحدّث على جانبين:

 

- الجانب المادّي: فأجرة المدرّس لا تكاد تكفيه لسد حاجياته الأساسية وهو مضطرّ للاقتراض للحصول على سكن أو سيّارة أو حتى للتداوي في المستشفيات الخاصة.. وهو راتب لا يمكن مقارنته بما يتقاضاه أحد النواّب أو أيّ موظّف في بنك. فأين هم الذين يتّبعون خطا الغرب ويعتبرونه أنموذجا لسياساتهم؟ فهل اتّبعوا ما أقرّته المستشارة ميركل بألمانيا حينما طالب القضاة وكبار المسؤولين تسوية رواتبهم وميزاتهم بالمعلّمين فردّت عليهم "أيعقل أن تكونوا في منزلة واحدة مع من علّموكم؟" أم أن هذه المقاربة لا تجوز؟!!

 

كما أنّ الكلّ يدرك مشقة المهنة فهي الوحيدة التي تستوجب وقت عمل إضافي (في البيت) يضاهي الزمن المدرسي؛ فالمدرّس ملزم بإعداد الدروس وتصحيح الامتحانات وتطوير معارفه وتحيين معلوماته لتواكب متغيّرات الواقع. وهذا أمر لا يتحقّق إلاّ على حساب التزاماته العائلية والشّخصية ومنها الصّحية. لذا فلا داعي للتحجّج بمنحه العطل المدرسية فهي حقّ وليست هبة من أحد.

 

- الجانب المعنوي: فالمدرّس بلا شكّ لم تستثنه ظاهرة العنف المتفشّية في المدارس أو بقية المؤسسات، وفي هذا الصّدد سجلّت إحصائيات شنيعة؛ فقد كشف تقرير المرصد الوطني للعنف المدرسي بتاريخ 2014/12/05 أنّ حالات العنف بصنفيه (اللفظي والمادّي) داخل المدرسة التونسية بلغت 52 بالمائة، ويأتي العنف المقترف من قبل التلاميذ ضدّ المربين في مقدّمة الحوادث مقارنة بالعنف بين التلاميذ حيث بلغت نسبة اعتداء التلاميذ على المربّين 25 بالمائة ونسبة الاعتداء من الأولياء 4.2 بالمائة، كما أكّد هذا التقرير أنّ 1 إلى 5 بالمائة من المدرّسين يتغيّبون عن المدرسة خوفا من العنف الّذي يحدث بداخلها. علاوة عن توعّك حالته الصحّية والنفسية الناتجة عن الانفعالات التي كثيرا ما يتعرّض لها أثناء عملية التدريس. ولكن لا بدّ أن لا نتغاضى عن العنف الصّادر عن المدرّس نفسه أو التجاوزات التي يقوم بها البعض في حقّ المتعلّمين والّتي يمكن أن تكون بدورها سببا من أسباب تفشّي هذه الظاهرة كالتمييز بين التلاميذ أو إكراههم على الدروس الخصوصية أو الحالات الشاذة من التحرش وغيرها من الممارسات اللّاأخلاقية ممّا يزيد في تعمّق الأزمة. فصورة المعلّم "القدوة" والمعلّم "المحترم" اختفت تماما وراء تدخّل أطراف هجينة لتكريس أساليب مائعة وسلوكيّات عقيمة ومناهج "مستوردة" في ظلّ ما أسموه بالإصلاح التربوي!

 

إنّ هذه الصورة القاتمة للمدرّس والمستساغة من الواقع الضنك مطابقة للمقولة "صلاح الأرض بصلاح الزرع وفسادها يفسد الزرع"، فإذا كان النظام الذّي يرعى مصالح النّاس فاسدا من جذوره بقوانينه وبرامجه ووكلائه فكيف سيوجد الرفاه والأمن والعيش الكريم لسائر الفئات المجتمعية؟ وكيف سيحرص على بناء أمة خيّرة بالاعتماد على فضلات الغرب وثقافته القذرة تكرّس مفاهيم ما أنزل اللّه بها من سلطان من ديمقراطية وحريّات مزعومة وحقوق موهومة؟ وكيف لهذا النظام المسلّط على رقابنا أن ينهض بأمّة لا زالت عقيدتها تنبض "لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه" وهو الذي أعلن الحرب عليها ومعاداتها منذ بزوغ فجرها حتى تستسلم لهم وترتدّ عن دينها؟ أهو الغبيّ؟ أم نحن الّذين ننتظر منه صلاح الأغبياء؟ وإذ يقول المولى العزيز ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة]. لعلّ مناّ من لا يزال يعيش على كذبة الاستقلال ومنّا من يحلم "بالمهديّ" لتخليصنا، والبعض ينساق كالقطيع وراء الرّويبضات المتنفّذة خوفا وجبنا. فسياساتهم مكشوفة في ظلّ اتفاقيّات علنية مع صندوق النقد الدّولي والصندوق الأوروبي والمنظّمات العالمية التي تخدم مصالح الغرب بامتياز فهي التي تقرّر برامج التدريس وشروط الانتداب داخل المؤسسات والرّواتب وتفرض خصخصة القطاعات العموميّة ومن ضمنها مؤسسة التعليم.

 

ثمّ لا بدّ أن نعرّج على الدّور الّذي أنيط بالنقابات لستر عورات النظام بامتصاص غضب منخرطيها من المدرّسين رغم أنّها تبدي العكس بالتطاول على السلطة فهي تدّعي الرّحمة بالدّفاع عن مصلحة المدرّس وتبطن النقمة؛ فنجدها تستعرض عضلاتها بين الفينة الأخرى بإعلان الإضرابات التي بلغت أشدّها هذه السنة الدراسيّة أو باتّخاذ قرارات متعجرفة (حجب الأعداد) في حقّ التلميذ ممّا يدعم أكثر المؤسّسات الخاصّة التي يلجأ لها الوليّ مُكرها. فتتفاقم أزمة المدرّس حتّى أصبح يقبع في "قفص الاتّهام" من قبل الوليّ والتلميذ والمجتمع كونه مسؤولاً عن تعطّل الدّروس علاوة عن الازدراء منه معتبرين مطالبه ماديّة لا غير، فبعد أن أفنى عمره لينشئ جيلا مغذّيا بالعلم والمعرفة يجني منه أهمّ ثروة وهي الثروة المعنويّة من تبجيل واعتراف بالجميل. فالمدرّس والتلميذ كلاهما الضحيّة، لأنّ التواطؤ جار بين النقابة والوزارة من أجل خدمة نظام رأسماليّ تتحكّم به لوبياّت المال، وخير مثال على هذا التواطؤ والخذلان غنيمة الإضرابات التي يقتسمها الطرفان ويرمى بالفتات للمدرّس الذي يتوهّم حريّة الإرادة ويستنشق روح النضال. فهناك شهادات حيّة من أطراف نقابيّة متقاعدة تؤكّد أنّه بعد كلّ إضراب يقع إسنادهم منح واستضافتهم في النزل الفخمة والرّحلات السياحيّة كتثمين لمجهوداتهم النضاليّة!! وأيّ نضال؟؟

 

ختاما فإنّ مكانة المدرّس وهيبته أصبحا قاب قوسين أو أدنى من الانقراض ما لم يوجد النظام الذي يرعى مصالح الناس حقّ الرعاية ليعيد لكلّ ذي حقّ حقّه ويسمو بأجيالنا للعمل نحو خيريّة أمّتنا آملين أن يكون شباب حزب التحرير هم الجيل الذي يخلّصها من براثن العلمانيّة وحالة الضنك باستئناف النظام الربّانيّ في ظلّ دولة الخلافة الراشدّة على منهاج النبوّة. ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾.

 

كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

الأستاذة إيمان بوظافري

مسؤولة لجنة الاتصالات للقسم النسائي في ولاية تونس

 

1 تعليق

  • Mouna belhaj
    Mouna belhaj الثلاثاء، 08 أيار/مايو 2018م 18:19 تعليق

    بارك الله فيك أستاذة ايمان لهذا النقل المميز للواقع المرير الذي يعيشه المعلم والطالب وكذلك الولي فالكل ضحية نظام قذر يسر الله باقتلاعه من جذوره واستبدله بنظام العدل والرحمة

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع