Logo
طباعة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قبسات من تفسير قول الله تعالى: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ﴾

 

يذكر الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى في تفسيره قول الله تعالى: ‌﴿هُدىً ‌لِلنَّاسِ ‌وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ﴾، يقول: هما حَالَانِ مِنَ (الْقُرْآنِ) إِشَارَةً بِهِمَا إِلَى وَجْهِ تَفْضِيلِ الشَّهْرِ بِسَبَبِ مَا نَزَلَ فِيهِ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ.

 

ثم يقول: وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى الْأَوَّلِ: مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّتِي لَا تُنَافِي الْعَامَّةَ، وَبِالْبَيِّنَاتِ مِنَ الْهُدَى: مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْهُدَى الْخَفِيِّ الَّذِي يُنْكِرُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِثْلَ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُجَجِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَالْفُرْقَانُ مَصْدَرُ فَرَقَ وَقَدْ شَاعَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَيْ إِعْلَانِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْبَاطِلِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَالْمُرَادُ بِالْهُدَى الْأَوَّلِ: ضَرْبٌ مِنَ الْهُدَى غَيْرُ الْمُرَادِ مِنَ الْهُدَى الثَّانِي، فَلَا تِكْرَارَ.

 

كما جاء في زهرة التفسير للإمام أبي زُهرة رحمه الله تعالى قوله: وإن اختصاص شهر رمضان بالصوم؛ لأنه نزل فيه القرآن فيه تذكير بمبدأ الوحي، واحتفال بأكبر خير نزل في الأرض وهو بعث النبي ﷺ، فإنه نور الأرض وإشراقها، والاحتفال به احتفال بنعمة الهداية، ونعمة الخروج من الظلمات إلى النور، ونعمة إرسال نبي الرحمة، فقد قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.

 

ولقد ذكر الإمام الرازي في تفسيره الكبير ما خلاصته: إنه في شهر رمضان نزلت هداية الله تعالى من السماء إلى الأرض فناسب ذلك أن يفرض فيه الصوم؛ لأن الصوم فبما فيه من إمساك عن شهوتي البطن والفرج، وفيه علو من الأرض إلى السماء بالتجرد الروحي الذي كان في الصوم، ولقد قال النبي ﷺ في هذا الشهر الذي هو احتفال بذكرى البعث المحمدي: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ رَمَضَانَ، وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».

 

وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه هدى للناس، فقال: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ أي حال كونه هاديا للناس؛ لأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، وهو معجزة الله تعالى الكبرى وهو بهذا هداية وتوجيه إلى مقام الرسالة المحمدية، وهو مع ذلك فيه آياته البينات؛ ولذا قال تعالى: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى﴾ أي أن آياته بينات واضحة من الهدى وهو الشريعة التي جاء بها، والفرقان أي الأمر الفارق بين الحق والباطل، والظلم والعدل، والشورى والاستبداد، والإصلاح والإفساد، وعمران الأرض وخرابها.

 

ويعقّب الشيخ الشعراوي بكلام نفيس في تفسيره هذه الآية، فيقول رحمه الله تعالى: "ويقول الحق: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ﴾. ونعرف أن كلمة ﴿هُدًى﴾ معناها: الشيء الموصل للغاية بأقصر طريق، فحين تضع إشارات في الطريق الملتبسة، فمعنى ذلك أننا نريد للسالك أن يصل إلى الطريق بأيسر جهد، و"هدى" تدل على علامات لنهتدي بها يضعها الخالق سبحانه، لأنه لو تركها للخلق ليضعوها لاختلفت الأهواء، وعلى فرض أننا سنسلم بأنهم لا هوى لهم ويلتمسون الحق، وعقولهم ناضجة، سنسلم بكل ذلك، ونتركهم كي يضعوا المعالم، ونتساءل: وماذا عن الذي يضع تلك العلامات، وبماذا يهتدي؟ إذن فلا بد أن يوجد له هدى من قبل أن يكون له عقل يفكر به، كما أن الذي يضع هذا الهدى لا بد ألا ينتفع به، وعلى ذلك فالله سبحانه أغنى الأغنياء عن الخلق ولن ينتفع بأي شيء من العباد، أما البشر فلو وضعوا "هدى" فالواضع سينتفع به، ورأينا ذلك رأى العين؛ فالذي يريد أن يأخذ مال الأغنياء ويغتني يخترع المبدأ الشيوعي، والذي يريد أن يمتص عرق الغير يضع المبدأ الرأسمالي، ومبادئ نابعة من الهوى، ولا يمكن أن يُبرئ أحد من فلاسفة المبادئ نفسه من الهوى: الرأسمالي يقنن فيميل لهوى نفسه، والشيوعي يميل لنفسه، ونحن نريد مَن يُشرع لنا دون أن ينتفع بما شرع، ولا يوجد من تتطابق معه هذه المواصفات إلا الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يشرع فقط، وهو الذي يشرع لفائدة الخلق فقط.

 

والذي يدلك على ذلك أنك تجد تشريعات البشر تأتي لتنقض تشريعات أخرى، لأن البشر على فرض أنهم عالمون فقد يغيب عنهم أشياء كثيرة، برغم أن الذي يضع التشريع يحاول أن يضع أمامه كل التصورات المستقبلية، ولذلك نجد التعديلات تجرى دائما على التشريعات البشرية؛ لأن المشرع غاب عنه وقت التشريع حكم لم يكن في باله، وأحداث الحياة جاءت فلفتته إليه، فيقول: التشريع فيه نقص ولم يعد ملائماً، ونعدله.

 

إذن فنحن نريد في من يضع الهدى والمنهج الذي يسير عليه الناس بجانب عدم الانتفاع بالمنهج لا بد أيضا أن يكون عالما بكل الجزئيات التي قد يأتي بها المستقبل، وهذا لا يتأتى إلا في إله عليم حكيم، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، ستتبعون السبل، هذا له هوى، وهذا له هوى، فتوجد القوانين الوضعية التي تبددنا كلنا في الأرض، لأننا نتبع أهواءنا التي تتغير ولا نتبع منهج من ليس له نفع في هذه المسألة، ولذلك أقول: افطنوا جيداً إلى أن الهدى الحق الذي لا أعترض عليه هو هدى الله، ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾. والقرآن في جملته "هدى" والفرقان هو أن يضع فارقاً في أمور يلتبس فيها الحق بالباطل، فيأتي التنزيل الحكيم ليفرق بين الحق والباطل". انتهى كلام الشعراوي.

 

تكشف لنا هذه المفاهيم المستنبطة من هذه الآية الكريمة المكانة الرفيعة التي يحظى بها شهر رمضان كونه الشهر الذي نزل فيه القرآن العظيم، هدى للناس ودليلاً لهم لما يُحييهم الحياة الطيّبة، حتّى إنّ الله عزّ وجل جعله شهراً مُختصّاً بعبادة هي رُكن من أركان الإسلام، ألا وهي الصوم، وكأنّ الله تعالى فرض علينا هذه العبادة شكراً له على ما أنعم علينا من الهداية إلى ما فيه صلاح الدنيا والدين والدار الآخرة، وهذا ما تشير إليه آخر الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.

 

وبعد هذا البيان يظهر لنا مدى تقصير كثير من المسلمين وقصور فهمهم للحكمة من نزول القرآن الكريم، حيث يقتصرون على حفظه وتلاوته وتحبيره، غير آبهين لتعطيل أحكامه في الدولة والمجتمع، وغير عاملين لاستئناف الحياة الإسلامية التي تجعل القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة مصدر التشريع، ودستور الهداية والفلاح، فلا خير في أمّةٍ هجرت كتاب ربّها، واستبدلت أحكام البشر الوضعية به. ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾.

 

ولأجل تلك الغاية السامية قام حزب التحرير، يستنهض هِمم المخلصين، ويبثّ الوعي في أبناء الأمّة التي غُيّب عنها نظام حُكمها الذي ارتضاه الله لها كما غُيّبت عنها الكثير من المفاهيم الإسلامية، وأصبح كثير من أبنائها يهتمون بالقشور عن البذور، وينشغلون بالفرع عن الأصل، فضاعوا وضاعت كلمتهم بين الأمم.

 

فحريٌّ بالمسلم وهو يتلو آيات الصيام أنْ يُدرِك الحكمة من فرض الصيام في شهر نزول القرآن الكريم، والإشارات القرآنية التي وردت في آيات الصيام، وأنْ تبعث فيه الهمّة للعمل مع الثلّة المُخلصة التي تهدف إلى استئناف الحياة الإسلامية لتتحقق الهداية لأمّة الإسلام بهُدى القرآن، وتعود خير أمّة أخرجت للناس.

 

﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

بلال زكريا

 

وسائط

Template Design © Joomla Templates | GavickPro. All rights reserved.