السبت، 18 شوال 1445هـ| 2024/04/27م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

(سلسلة أجوبة العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير  على أسئلة رواد صفحته على الفيسبوك " فقهية و فكرية")

 

1 - التقليد وترك رأي مجتهد إلى مجتهد آخر

 

2 - تحقيق أكثر من قيمة في عمل واحد

 

إلى : Hijazi Shaheen

 

 

 

 

السؤال:

 

 


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


أولا... أنار الله بصركم وبصيرتكم... وشد على أياديكم ونصركم


عندي عدة تساؤلات مهمة عن كتب الحزب وأنا ابن الحزب وأرجو الله أن تكون إجاباتكم مثلجة للصدر كما عهدناكم


1_ ورد في كتاب نظام الإسلام: (والمُقَلِّدُ إِذَا قَلَّدَ بَعْضَ المُجـْتَهِدِينَ في حُكْمِ حَادِثَةٍ مِنَ الحَوَادِثِ وعَمِلَ بِقَوْلِهِ فِيهَا، فلَيْسَ لَهُ الرُجُوعُ عَنْهُ في ذَلِكَ الحُكْمِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ مُطْلَقَاً.)


كلمة "مطلقا" هنا لم أرَ فيها ما تربينا عليه أننا حينما نعلم خطأ ما نتركه وننتقل للصواب فكيف إذا قلدت شيخا علمت فيما بعد أنه فاسق منافق هل أبقى على تقليدي له؟ هل إذا علمت أن هذا المجتهد الذي قلدته كان ضعيفا أبقى على تقليدي؟ هل إذا تبين لي مثلا أن الذي أخذت منه مسألة تحريم أمر معين كان مستدلا في تحريمه لحديث ضعيف جدا... هل أبقى على الذي أخذته منه ؟!

 


2_ ورد في كتاب نظام الإسلام أيضا أنه يجوز تنازل المجتهد لمصلحة المسلمين ﻭﺫﻟﻚ ﻛﻤﺎ ﺣَﺼَﻞَ ﻣﻊ ﻋﺜﻤﺎﻥَ ﻋﻨﺪ ﺑﻴﻌﺘﻪ.
أريد أن أرى تخريج هذه القصة فحين البحث عنها لم أرَ تصحيحا لها بل رأيت أنها لا تصح فهل من روايات أخرى صحيحة؟ مع دليل إجماع الصحابة على جواز التقليد إن سمحتم

 


3_ هل العمل الواحد نستطيع أن نحقق به أكثر من قيمة أم لا فمثلا لو درست علما معينا وقصدت فيه رضا الله وكسبا ماديا) انتهى.

 


الجواب:

 

 


(وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

 


أولاً: موضوع التقليد: قبل أن أجيبك على سؤالك حول كلمة "مطلقاً" أذكر لك ما يلي:


1- أدلة جواز التقليد هي من الكتاب وبإجماع الصحابة:

 


أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. فأمر سبحانه وتعالى من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه. فالآية تقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. فجاءت كلمة فاسألوا عامة، أي اسألوا لتعلموا أن الله لم يبعث إلى الأمم السابقة إلا بشراً، فهو متعلق بالمعرفة وليس متعلقاً بالإيمان. وأهل الذكر وإن كان المشار إليهم في الآية هم أهل الكتاب فإنه جاء الكلام أيضاً عاماً فيشمل كل أهل ذكر. والمسلمون أهل الذكر لأن القرآن ذكر قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾. فالعالمون بالأحكام الشرعية هم من أهل الذكر سواء أكانوا عالمين علم اجتهاد أم علم تلقٍ. والمقلد إنما يسأل عن الحكم الشرعي في المسألة أو المسائل.


وأما إجماع الصحابة فقد صح عن عمر أنه قال لأبي بكر: "رأينا تبعٌ لرأيك" وصح عن عمر أنه كان إذا أعياه أن يجد في القرآن والسنة ما يقضي به إذا ورد عليه الخصوم نظر هل كان لأبي بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به. وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يأخذ بقول عمر رضي الله عنه. وكان ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة في حوادث متعددة ولم ينكر عليهم منكر، فكان إجماعاً سكوتياً. وكذلك فإن موضوع بيعة عثمان رضي الله عنه بموافقته على شرط تقليد أبي بكر وعمر... الذي طلبه منه عبد الرحمن بن عوف كان على ملأ من الصحابة دون إنكار، فهو إجماع للصحابة في جواز تقليد المجتهد لغيره من المجتهدين، وهو أوْلى في جواز تقليد غير المجتهد للمجتهدين.

 


2- ثم إن كل من تبع غيره يكون مقلداً، فالعبرة باتباع الغير. وعلى ذلك فالناس في معرفة الحكم الشرعي شخصان، أحدهما المجتهد، والثاني المقلد، ولا ثالث لهما. لأن الواقع أن المرء إما أن يأخذ ما توصل إليه هو باجتهاده، أو ما توصل إليه غيره باجتهاده، ولا يخرج الأمر عن هذين الحالين. وعلى هذا فكل من ليس بمجتهد مقلد مهما كان نوعه، سواء أكان هذا المقلد غير المجتهد متبعاً، أي يقلد المجتهد مع معرفة دليله، أم كان أمياً عامياً، أي يقلد المجتهد دون معرفة دليله، وإنما لثقته فيه... والمجتهد يجوز له تقليد غيره من المجتهدين في أية مسألة لم يسبق أن اجتهد فيها، ويكون حينئذ مقلداً في هذه المسألة، لأن الاجتهاد فرض على الكفاية وليس فرض عين، فإذا سبق أن عرف الحكم الشرعي في المسألة فلا يجب على المجتهد أن يجتهد فيها، بل يجوز له أن يجتهد ويجوز له أن يقلد غيره من المجتهدين في هذه المسألة.

 


3- إذا اجتهد المجتهد في مسألة فلا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أدّاه إليه اجتهاده، ولا يجوز له ترك ظنه أو ترك العمل بظنه في هذه المسألة إلا في أربع حالات:

 


إحداها - إذا ظهر له أن الدليل الذي استند إليه في اجتهاده ضعيف، وأن دليل مجتهد آخر غيره أقوى من دليله. ففي هذه الحالة يجب عليه ترك الحكم الذي أداه إليه اجتهاده في الحال، وأخذ الحكم الأقوى دليلاً.

 

 


ثانيتها - إذا ظهر له أن مجتهداً غيره أقدر على الربط، أو أكثر اطلاعاً على الواقع، وأقوى فهماً للأدلة، أو أكثر اطلاعاً على الأدلة السمعية، أو غير ذلك، فرجّح في نفسه أن يكون هو أقرب إلى الصواب في فهم مسألة معينة، أو في فهم المسائل من حيث هي، فإنه يجوز له أن يترك الحكم الذي أدّاه إليه اجتهاده، ويقلد ذلك المجتهد.


ثالثتها - أن يتبنى الخليفة حكماً يخالف الحكم الذي أداه إليه اجتهاده. ففي هذه الحال يجب عليه ترك العمل بما أداه إليه اجتهاده والعمل بالحكم الذي تبناه الإمام، لأن إجماع الصحابة قد انعقد على أن "أمر الإمام يرفع الخلاف" وأن أمره نافذ على جميع المسلمين.

 


رابعتها - أن يكون هناك رأي يراد جمع كلمة المسلمين عليه لمصلحة المسلمين. فإنه في هذه الحالة يجوز للمجتهد ترك ما أدى إليه اجتهاده، وأخذ الحكم الذي يراد جمع كلمة المسلمين عليه، وذلك كما حصل مع عثمان.

 


4- والمقلد إذا قلد بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث وعمل بقوله فيها، فلا يجوز له الرجوع عن ذلك الحكم إلى غيره إلا بمرجح من المرجحات التي تتصل بطلب مرضاة الله سبحانه، ومن هذه المرجحات:

 


الأعلمية والفهم. فقد أخرج الحاكم في المستدرك وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ" عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ» فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ: «هَلْ تَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَتِ النَّاسُ...». وعلى هذا فيرجح المقلد من عرفه بالعلم.

 


ثم العدالة في من يقلده المقلد ويأخذ العلم عنه... فلا يؤخذ العلم الشرعي من المعروف بفسقه.

 


ثم اقتران الحكم بالدليل، فلو كان المقلد يقلد عالماً دون معرفة دليله ثم تيسر له بالعلم والتعلم معرفة أدلة مجتهد آخر فيجوز لهذا المقلد أن يتبع الحكم المقترن بالدليل، ويترك الحكم الذي كان قد أخذه دون معرفة دليله.

 


وهناك مرجحات كثيرة معتبرة تختلف باختلاف أحوال المقلدين، حتى إن الأمي تكفيه في أخذه الحكم ثقته واطمئنانه بقول ذلك العالم الذي يأخذ الحكم منه. وهكذا فإن المقلد يجوز له ترك المجتهد الذي يقلده والانتقال إلى مجتهد آخر إذا كان لديه مرجح من المرجحات التي تتصل بطلب مرضاة الله سبحانه، أي لا ينتقل من مجتهد إلى آخر دون مرجح، لأن هذا يعني انتقالاً بالهوى، وهذا منهي عنه، قال تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾.

 


5- والآن نناقش سؤالك وهو ما ورد في نظام الإسلام (والمُقَلِّدُ إِذَا قَلَّدَ بَعْضَ المُجـْتَهِدِينَ في حُكْمِ حَادِثَةٍ مِنَ الحَوَادِثِ وعَمِلَ بِقَوْلِهِ فِيهَا، فلَيْسَ لَهُ الرُجُوعُ عَنْهُ في ذَلِكَ الحُكْمِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ مُطْلَقَاً.)، وكأنك فهمت منها أنه لا يجوز للمقلد الرجوع عن ذلك الحكم إلى غيره إلى أن تقوم الساعة، وذلك من كلمة مطلقاً! وهذا غير صحيح، ولو رجعت إلى سطر أو سطرين قبل ذلك لوجدت ما يلي: (وعَلَى ذَلِكَ فالحُكْمُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الَّذِي استنبطهُ مُجْتَهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاجتهادِ، وهُوَ في حَقِّهِ حُكْمُ اللهِ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ ويَتَّبِعَ غَيْرَهُ مُطْلَقَاً، وكذَلِكَ هُوَ في حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ حُكْمُ اللهِ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ.) وهنا كما ترى فقد ذكر في حق المجتهد أيضا (لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ ويَتَّبِعَ غَيْرَهُ مُطْلَقَاً) مع أنه في الصفحة السابقة قد ذكر في الكتاب نفسه ما يلي: (فالمُكَلَّفُ إِذَا حَصَلَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاجتهاد بِتَمَامِهَا في مَسْأَلَةٍ مِنَ المَسَائِلِ أو في المَسَائِلِ جَمِيعِها فَإِنِ اجتهد فِيهَا وأَدَّاهُ اجتهادهُ إِلَى حُكْمٍ فِيهَا، فَقَدْ اتَّفَقَ الكُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنَ المُجْتَهِدِينَ، في خِلافِ ما أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ ظَنِّهِ إِلاَّ في أَرْبَعِ حَالاَتٍ...). أي أن قوله "لا يجوز له مطلقاً" لم يمنع من قوله "إلا في أربع حالات".


وهكذا فإن كلمة "مطلقاً" لا تمنع من حيث الأصول ولا من حيث اللغة عدم التقييد، فهذا مثل النص المطلق، فإذا قُيد فيحمل المطلق على المقيد، مثلاً قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك﴾ [البقرة: 196] ففي الآية، (صيام، صدقة، نسك) نكرات مثبتة فهي لفظ مطلق، وقد قيِّد بالحديث الذي قيد الصيام بثلاثة أيام والصدقة بثلاثة آصع والنسك بشاة «فَاحْلِقْ رَأْسَكَ، وَأَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ انْسُكْ نَسِيكَةً» قَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: «أَوِ اذْبَحْ شَاةً» أي اذبح شاة، والفرق ثلاثة آصع. رواه مسلم من طريق كعب بن عجرة.


ومثلاً روى ابن عمر: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مِنَ الْمُسْلِمِينَ» متفق عليه. فكلمة (صاعاً) نكرة مثبتة فهي لفظ مطلق. وقد قُيِّدت بصاع المدينة وليس بأي صاع بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم «الْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» أخرجه أبو داود، فكان (الصاع) أي المكيال الذي أقره الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاع أهل المدينة الذي هو خمسة أرطال وثلث (بالرطل البغدادي القديم)، وهذا هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول مالك وأهل الحجاز. وهو اليوم بالنسبة للقمح (2.176) كيلو غراماً.


وهكذا فإن كلمة "مطلقاً" لا تمنع التقييد، وهذا واضح في نظام الإسلام، وفي الصفحات نفسها التي نقلت منها سؤالك، فهو قد بين أن للمجتهد أن يرجع عن رأيه في أربع حالات مع أنه ذكر (وهُوَ في حَقِّهِ حُكْمُ اللهِ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ ويَتَّبِعَ غَيْرَهُ مُطْلَقَاً)، وهكذا بالنسبة للمقلد، سوى أن المرجحات التي تجيز للمقلد أن يترك الرأي الذي اتبعه تختلف عن المرجحات للمجتهد، فالمجتهد يركز على الأدلة ومحاكمتها، وأما المرجحات للمقلد سواء أكان متبعاً أو أمياً "عامياً" فهي كما ذكرنا آنفاً.


وخلاصة القول أنه لا يجوز للمقلد أن يترك رأي المجتهد الذي قلده مطلقاً من غير موجب أما إذا وُجد موجب فيجوز "أو يجب حسب المرجح" له أن يترك رأي المجتهد الذي قلده ويأخذ برأي غيره وفق المرجحات التي بيناها والحالات التي ذكرناها، سواء أكان ذلك بالنسبة للمجتهد أم بالنسبة للمقلد، وذلك لأن كلمة "مطلقا" لا تمنع التقييد فهي كالنص المطلق الذي يمكن أن يقيَّد.

 


والآن بعد أن أجبتك على موضوع "مطلقاً"، فإني ألفت نظرك إلى أن صيغة سؤالك لم تكن حسنة... فأنت بدل أن تسأل عن مدلول كلمة "مطلقاً" الواردة في تلك الجملة، بدلاً من ذلك فإنك قررت معناها كما مر بخاطرك، ولم تكتف بذلك بل رتبت أسئلة تقريرية كأن المعنى الذي مرّ بخاطرك صحيح، فقلت في السؤال: (كلمة "مطلقا" هنا لم أرَ فيها ما تربينا عليه أننا حينما نعلم خطأ ما نتركه وننتقل للصواب فكيف إذا قلدت شيخا علمت فيما بعد أنه فاسق منافق هل أبقى على تقليدي له؟)! أفلا ترى أن صيغة السؤال هكذا ليست حسنة يرحمك الله؟!


ثانياً: موضوع تنازل عثمان رضي الله عنه عن رأيه وتقليد أبي بكر وعمر... وفق الشرط الذي قدمه إليه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أمام ملأ من الصحابة، ووافق عليه عثمان رضي الله عنه دون إنكار من الصحابة... هذه القصة التي سألت عنها هي أمر نُقل باستفاضة، وأذكر لك بعض ما نقل:


- جاء في كتاب "أصول السرخسي" لصاحبه محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي (المتوفى: 483هـ):


(ثمَّ عمر جعل الْأَمر شُورَى بعده بَين سِتَّة نفر فاتفقوا بِالرَّأْيِ على أَن يجْعَلُوا الْأَمر فِي التَّعْيِين إِلَى عبد الرَّحْمَن بَعْدَمَا أخرج نَفسه مِنْهَا فَعرض على عَليّ أَن يعْمل بِرَأْي أَبي بكر وَعمر فَقَالَ أعمل بِكِتَاب الله وبسنة رَسُول الله ثمَّ أجتهد رَأْيِي وَعرض على عُثْمَان هَذَا الشَّرْط أَيْضا فَرضِي بِهِ فقلده) انتهى.


- ورد في البداية والنهاية لابن كثير "فَقُمْ إِلَيَّ يَا عَلِيُّ، فقام إليه تَحْتَ الْمِنْبَرِ فَأَخَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَايِعِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وسنَّة نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا وَلَكِنْ عَلَى جُهْدِي مِنْ ذَلِكَ وَطَاقَتِي..." انتهى


- ورد في تاريخ الرسل والملوك للطبري: "وَدَعَا عَلِيًّا، فَقَالَ: عَلَيْكَ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلَنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ الْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ؟ قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَفْعَلَ وَأَعْمَلَ بِمَبْلِغِ عِلْمِي وَطَاقَتِي..." انتهى


- ثم إنه أمر معروف مشهور حتى في معاهد الأبحاث في العصر الحديث، فقد ورد في مجلة الجامعة الإسلامية للمدينة المنورة عمادة البحث العلمي - 1423 هـ / 2002م ما يلي:


"فقد جمع عبد الرحمن بن عوف المسلمين في المسجد.. ثم نادى عليا، وكان عبد الرحمن قد فوِّض لاختيار الخليفة، على أن يتبعه المسلمون في بيعة من يبايعه، ووضع عبد الرحمن يده في يد علي قائلا نبايعك على أن تعمل بكتاب الله وسنة رسوله واجتهاد الشيخين - يقصد أبا بكر وعمر - فلم يوافق عليّ على اجتهاد الشيخين وقال: بل أجتهد رأيي، فدفع عبد الرحمن يده ونادى عثمان رضي الله عنه فقبل اجتهاد الشيخين" انتهى


وكما ترى فإن هذه الروايات مذكورة في الكتب المعتبرة، ولو لم ترد إلا في أصول السرخسي لأمكن الاعتماد عليها... وهي تفيد تنازل عثمان عن رأيه...


- ومع أن هناك روايات صحيحة لم تذكر أن عبد الرحمن بن عوف بدأ بعلي وسأله ثم انتقل بعده إلى عثمان، وإنما تقول تلك الروايات أنه بدأ بسؤال عثمان ابتداء دون أن يسأل عليا، ولكنها تذكر أن عبد الرحمن بن عوف أخذ بيد عثمان واشترط عليه فقبل على ملأ من الصحابة دون إنكار، فالشرط ثابت في جميع الروايات سواء أكانت تلك التي بدأ فيها عبد الرحمن بن عوف بعلي أم كانت تلك التي بدأ فيها عبد الرحمن بن عوف مباشرة بعثمان رضي الله عنهم أجمعين:


أخرج البخاري في صحيحه (...عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا... حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ، قَالَ المِسْوَرُ: طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ البَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ: «أَرَاكَ نَائِمًا فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ... فَقَالَ: «ادْعُ لِي عَلِيًّا»... ثُمَّ قَالَ: «ادْعُ لِي عُثْمَانَ»... فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ... فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا»، فَقَالَ "لعثمان": أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، وَأُمَرَاءُ الأَجْنَادِ وَالمُسْلِمُونَ) انتهى

 


- وأخرج عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه قال (... عن المسور بن مخرمة قال: أتاني عبد الرحمن بن عوف ليلة الثالثة من أيام الشورى، بعدما ذهب من الليل ما شاء الله، فوجدني نائما فقال: أيقظوه، فأيقظوني فقال: ألا أراك نائما، والله ما اكتحلت بكثير نوم منذ هذه الثلاث... اذهب فادع لي فلانا وفلانا - ناسا من أهل السابقة من الأنصار... ثم قال: ادع لي عليا... ثم قال: ادع لي عثمان... ثم قال: أما بعد، فإني نظرت في الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل يا علي على نفسك سبيلا، ثم قال: عليك يا عثمان عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن تعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبما عمل به الخليفتان من بعده قال: نعم، فمسح على يده فبايعه، ثم بايعه الناس، ثم بايعه علي ثم خرج...) انتهى

 

 


والخلاصة فإن قبول عثمان شرط التنازل عن رأيه... مذكور في جميع الروايات سواءٌ أكان فيها مقال كما يزعون أم كانت صحيحة ليس فيها مقال، فقد ورد في هذه الروايات كلها أن عبد الرحمن بن عوف اشترط على عثمان في بيعته بما عمل به الخليفتان، ووافق عثمان رضي الله عنه، أي أن أي قضية تحدث في عهد عثمان لا يجتهد فيها بل يقلد أبا بكر وعمر في تلك القضية إذا كانت قد حدثت في عهدهما وحكما فيها، فهو شرط في تقليد أبي بكر وعمر في قضايا معينة، ووافق عثمان رضي الله عنه على ذلك دون إنكار من الصحابة، فكان إجماعا.

 


ثالثاً القيمة:

 

 


بالنسبة لسؤالك عن كونك درست علما معينا وقصدت فيه رضا الله وكسبا ماديا، هل تكون حققت قيمتين...

 


للجواب على هذا السؤال، لا بد من توضيح الأمور التالية:

 


1- إن الأصل في الأفعال التقيد، ولذلك فكل فعل يقوم به الإنسان يجب أن يكون وفق الحكم الشرعي لهذا العمل، ففي العبادات يلتزم بذلك، وفي المعاملات والتجارة كذلك، وأيضاً في الأخلاق، وإغاثة الملهوف...الخ.

 


أي أن الواجب على العبد أن يدرك صلته بخالقه عند القيام بكل عمل... وبطبيعة الحال، فإن التزام الحكم الشرعي له بإذن الله أجر "الجنة"، ورضوان من الله أكبر.

 


2- القيمة هي اصطلاح له معنى، وهو قصد العامل من العمل، أي ما يريد تحقيقه من فعله، فلا بدّ أن يكون لكل عامل قصد قد قام بالعمل من أجله. وهذا القصد هو قيمة العمل. ولذلك كان حتماً أن تكون لكل عمل قيمة يراعي الإنسان تحقيقها حين القيام بالعمل، وإلا كان مجرد عبث. ولا ينبغي للإنسان أن يقوم بأعماله عبثاً من غير قصد، بل لا بد أن يراعي تحقيق قيم الأعمال التي قصد القيام بالعمل من أجلها. هذا هو معنى مصطلح القيمة.

 


3- باستقراء وقائع جميع الأعمال وما يبرز عليها من غرض القائم بها يتبين أن المقصود منها والبارز عليها هو:

 


إما أن تكون قيمة مادية، كالأعمال التجارية والزراعية والصناعية ونحوها، فإن المقصود من القيام بهذه الأعمال هو إيجاد فوائد مادية منها، وهي الربح، وهي قيمة لها شأنها في الحياة... وإما أن تكون قيمة العمل إنسانية كإنقاذ الغرقى وإغاثة الملهوفين، فإن المقصود منها إنقاذ الإنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه أو أي اعتبار آخر غير الإنسانية... وإما أن تكون قيمة العمل خُلُقية، كالصدق والأمانة والرحمة، فإن المقصود منها الناحية الخُلقية بغض النظر عن الفوائد وبغض النظر عن الإنسانية، إذ قد يكون الخُلق مع غير الإنسان، كالرفق بالحيوان والطير، وقد تحصل من العمل الخُلقي خسارة مادية، ولكن تحقيق قيمته واجبة، ألا وهي الناحية الخُلقية... وإما أن تكون قيمة العمل روحية كالعبادات، فإنه ليس المقصود منها الفوائد المادية، ولا النواحي الإنسانية ولا المسائل الخلقية، بل المقصود منها مجرد العبادة، ولذلك يجب أن يراعى تحقيق قيمتها الروحية فحسب بغض النظر عن سائر القيم. وهذه القيم ليست متفاضلة ولا متساوية لذاتها، لأنّه لا توجد بينها خصائص تتخذ قاعدة لمساواتها ببعضها أو تفضيل بعضها على بعض، وإنّما هي نتائج قصدها الإنسان حين القيام بالعمل. ولذلك لا يمكن وضعها في ميزان واحد، ولا تقاس بمعيار واحد، لأنّها متخالفة إن لم تكن متناقضة.

 

 


ولكن جميع هذه الأفعال التي تحقق القيمة المادية أو الإنسانية أو الخلقية، كلها يجب أن يلتزم المسلم فيها بالحكم الشرعي لنوال رضوان الله سبحانه... أي أن رضا الله متحقق بإذنه سبحانه للمسلم الملتزم بالحكم الشرعي في جميع القيم.

 


4- وعليه فإن سؤالك عن التعلم لمهنةٍ مثلاً من أجل أن تتوظف فتكسب مادياً، فأنت تقصد تحقيق القيمة المادية، وأما رضا الله سبحانه فهذا نتيجة الالتزام بالأحكام الشرعية، وهو متحقق بإذن الله في كل قيمةٍ، ما دام الإنسان يقوم بالعمل امتثالاً لأمر الله سبحانه، وهذه تتعلق بمسألة الأحكام الشرعية، وليس بمسألة القيمة، أي أنت بامتثالك الحكم الشرعي تحقق رضا الله في القيمة المادية والقيمة الروحية والقيمة الخلقية والقيمة الإنسانية...

 


وبناء عليه فإن رضا الله سبحانه ليس قيمة منفصلة عن القيم الأربع، بل هو متحقق في كل قيمة من القيم الأربع إذا التزم العبد بالحكم الشرعي خلال سعيه لتحقيق هذه القيم. ويبدو أنك ظننت أن تعلمك مهنة لتتوظف فتحقق قيمة مادية، فأنت كذلك بالتزام الحكم الشرعي في طلبك العلم تحقق رضا الله الذي اعتبرته قيمة روحية، والأمر ليس كذلك، بل رضا الله ليس خاصا بقيمة ما، بل مصاحب لجميع القيم ما دام المسلم خلال تحقيقه لهذه القيم يلتزم بالحكم الشرعي:

 


• فرضا الله متحقق بإذنه سبحانه في حالة التزام الحكم الشرعي للتاجر في تجارته الذي يحقق القيمة المادية...

 


• ورضا الله متحقق بإذنه سبحانه في حالة التزام الحكم الشرعي للمصلي في صلاته الذي يحقق القيمة الروحية...

 


• ورضا الله متحقق بإذنه سبحانه في حالة التزام الحكم الشرعي للصادق في كلامه الذي يحقق القيمة الخلقية...

 


• ورضا الله متحقق بإذنه سبحانه في حالة التزام الحكم الشرعي عند إغاثة الملهوف لتحقيق القيمة الإنسانية...

 


والخلاصة فأنت بتعلمك مهنة لتتوظف تحقق قيمة مادية، وترضي الله سبحانه ما دمت تطلب العلم بالتزام الحكم الشرعي، ولكن لا يقال إنك بتعلمك هذه المهنة تحقق قيمة مادية، وكذلك قيمة روحية كأنك تصلي أو تصوم... فالقيمة اصطلاح وتُصرف إلى المعنى الاصطلاحي وتقف عنده.

 


أسأل الله سبحانه أن يكون في هذا الجواب الكفاية.

 

 

 

 

أخوكم عطاء بن خليل أبو الرشتة


رابط الجواب من صفحة الأمير على الفيسبوك

 

رابط الجواب من موقع الأمير


رابط الجواب من صفحة الأمير على الغوغل بلس

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع