السبت، 10 ذو القعدة 1445هـ| 2024/05/18م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام (ح225) يجوز للدولة أن تحمي من الأرض الموات ومن الملكية العامة، يمنع كنـز المال ولو أخرجت زكاته

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام

 (ح225)  يجوز للدولة أن تحمي من الأرض الموات ومن الملكية العامة،

يمنع كنـز المال ولو أخرجت زكاته

 

الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ. 

 

أيها المؤمنون:

 

 

السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ" وَمَعَ الحَلْقَةِ الخَامِسَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "يَجُوزُ لِلدَّولَةِ أَنْ تَحْمِيَ مِنَ الأَرْضِ الـمَوَاتِ وَمِنَ الـمِلْكِيَّةِ العَامَّةِ، يُـمْنَعُ كَنْـزُ الـمَالِ وَلَو أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ".

نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ الرَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ الـمِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:

 

المادة 141: يَجُوزُ لِلدَّولَةِ أَنْ تَحْمِيَ مِنَ الأَرْضِ الـمَوَاتِ، وَمِمَّا هُوَ دَاخِلٌ فِي الـمِلْكِيَّةِ العَامَّةِ لِأَيَّةِ مَصْلَحَةٍ تَرَاهَا مِنْ مَصَالِـحِ الرَّعِيَّةِ.

 

المادة 142: يُـمْنَعُ كَنْـزُ الـمَالِ وَلَو أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ.

 

وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجًا وَدُستُورًا، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَامًا لِلْحَياَة، أَيُّهَا الـمُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا الـمُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا، وَهَاتَانِ هُمَا الـمَادَّتَانِ: الوَاحِدَةُ وَالأَربَعُونَ بَعْدَ الـمِائَةِ، وَالثَّانِيَةُ وَالأَربَعُونَ بَعْدَ الـمِائَةِ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَاتَينِ الـمَادَّتَينِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:

 

أولًا: المادة 141: دَلِيلُهَا مَا رُوِيَ عن النبي r أَنَّهُ قَالَ: «لَا حِمَى إِلاَّ للهِ وَلِرَسُولِهِ». أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جُثَامَةَ، وَالحِمَى هُوَ أَنْ يَـحْمِي شَيئًا مِـمَّا هُوَ لِعَامَّةِ الـمُسْلِمِينَ فَيَمْنَعَ النَّاسَ مِنهَا وَيَـخْتَصَّ بِهَا، فَقَدْ نَهَى الرَّسُولُ r عَنْ ذَلِكَ أَيْ حَرَّمَهُ فَلَا يَحِلُّ لِشَخْصٍ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَا يَحِلُّ لِلخَلِيفَةِ كَذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يـَحِلُّ مَا حَرَّمَهُ اللهُ، وَمِنْ هُنَا جَاءَ مَنْعُ الدَّولَةِ مِنْ أَنْ تُـمَلِّكَ أَحَدًا شَيئًا مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ فِي الـمِلْكِيَّةِ العَامَّةِ تَـمْلِيكًا يَـمْنَعُ بِهِ غَيرَهُ مِنَ الانتِفَاعِ بِهِ.

 

أَمَّا الدَّولَةُ نَفْسُهَا أَيِ الخَلِيفَةُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَـخْتَصَّ بِشَيءٍ مِنَ الأَرْضِ الـمَوَاتِ، وَمِمَّا هُوَ دَاخِلٌ فِي الـمِلْكِيَّةِ العَامَّةِ لِـمَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِـحِ الـمُسْلِمِينَ لَا لِنَفْسِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابنُ عُمَرَ قَالَ: «حَمَى النَّبِيُّ r النَّقِيعَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ». (أَخرَجَهُ ابنُ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ)، وَالنَّقِيعُ مَوضِعٌ يَنْتَقِعُ فِيهِ الـمَاءُ فَيَكْثُرُ فِيهِ الخِصْبُ لِـمَا يَسْتَقِرُّ فِيهِ مِنَ الـمَاءِ. أَيْ مَرَاعِي خِصْبَةٌ، وَرَوَى أَبُو عُبَيدٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبدِ اللهِ ابنِ الزُّبَيرِ أَحْسَبُهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أَتَى أَعْرَابِيٌّ عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِلادُنَا قَاتَلْنَا عَلَيْهَا فِي الجَّاهِلِيَّةِ، وَأَسْلَمْنَا عَلَيْهَا فِي الإِسْلاَمِ، عَلامَ تَحْمِيهَا؟ قَالَ: فَأَطْرَقَ عُمَرُ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ وَيَفْتُلُ شَارِبَهُ، وَكَانَ إِذَا كَرِبَهُ أَمْرٌ فَتَلَ شَارِبَهُ وَنَفَخَ، فَلَمَّا رَأَى الأَعْرَابِيُّ مَا بِهِ جَعَلَ يُرَدِّدُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ: الْمَالُ مَالُ اللهِ، وَالْعِبَادُ عِبَادُ اللهِ، واللهِ لَوْلاَ مَا أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا حَمَيْتُ مِنَ الأَرْضِ شِبْرًا فِي شِبْرٍ». 

 

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الحِمَى لِلدَّولَةِ، أَيْ يَـجُوزُ أَنْ تَـخْتَصَّ الدَّولَةُ بِشَيءٍ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ فِي الـمِلْكِيَّةِ العَامَّةِ كَمَرَاعِي الـمَاشِيَةِ لِصَالِـحِ الـمُسْلِمِينَ. وَقَدْ سَارَ الصَّحَابَةُ بَعْدَ الرَّسُولِ r عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ عَامٌّ لِكُلِّ خَلِيفَةٍ أَنْ يَفْعَلَهُ.

 

ثانيا: المادة 142: دَلِيلُهَا قَولُ اللهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ). (التوبة 34) فَإِنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى تَحرِيمِ كَنْـزِ الـمَالِ مُطْلَقًا. وَهِيَ أَيِ الآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الكِتَابِ فَإِنَّ لَفْظَهَا عَامٌّ، وَنَحْنُ مُخَاطَبُونَ بِهَا كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الآيَةِ إِذْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ). (التَّوبَةُ 34). وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الآيَةَ قَدْ حَرَّمَتْ كَنْـزَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ تَحْريمًا عَامًّا سَوَاءٌ أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ أَمْ لَـمْ تُـخْرَجْ هُوَ مَا يَأْتِي:

 

أولًا: عُمُومُ هَذِهِ الآيَةِ، فَنَصُّ الآيَةِ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ كَنْـزِ الـمَالِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ مَنْعًا بَاتًّا. فَالـمَصِيرُ إِلَى أَنَّ الكَنْـزَ مُبَاحٌ بَعْدَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ تَركٌ لِـحُكْمِ الآيَةِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيهِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً. وَهَذَا لَا يُصَارُ إِلَيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَصْرِفُهَا عَنْ مَعْنَاهَا أَوْ يَنسَخُهَا، وَلَـمْ يَرِدْ أَيُّ نَصٍّ صَحِيحٍ يَصْرِفُهَا عَنْ مَعْنَاهَا، وَلَا يـُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَصْرِفُهَا عَنْ مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّـهَا قَطْعِيَّةُ الدَّلَالَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الدَّلِيلُ الَّذِي يَنْسَخُهَا، وَلَا يُوجَدْ دَلِيلٌ يَنْسَخُهَا، فَيَبقَى حُكْمُهَا ثَابِتًا، وَهُوَ تَحرِيمُ كَنْـزِ الـمَالِ وَلَو أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ، أَيْ تَحرِيمُ كَنْـزِ الـمَالِ مُطْلَقًا.

 

ثانيًا: رَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r كَيَّةٌ، قَالَ: ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : كَيَّتَانِ»، وَأَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ نَحْوَهُ إِلَى أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ. وَهَذَا يَعنِي تَحرِيمُ كَنْـزِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ مُطْلَقًا وَلَو كَانَ دِينَارَينِ، وَلَو كَانَ دِينَارًا وَاحِدًا، مَا دَامَ يَكُونُ كَنـزًا، أَيْ خَزْنًا لِلمَالِ لِغَيرِ حَاجَةٍ يُرَادُ إِنْفَاقُهُ عَلَيهَا. وَالرَّسُولُ قَالَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَينِ الرَّجُلَينِ؛ لِأَنـَّهُمَا كَانَا يَعِيشَانِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَعِنْدَهُمَا التِّبْرُ، فَقَالَ: «كَيَّةٌ» وَقَالَ: «كَيَّتَانِ» يُشِيرُ إِلَى قَولِهِ تَعَالَى: (يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ). (التوبة 35) الَّتِي هِيَ قِسْمٌ مِنْ آيَةِ الكَنْـزِ، أَيْ يُشِيرُ إِلَى آيَةِ الكَنْـزِ. فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحرِيمِ الكَنْـزِ تَـحْرِيمًا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَبَلَغَ نِصَابَ الزَّكَاةِ أَمْ لَـمْ يَبْلُغْ، وَسَوَاءٌ أَزُكِّيَ أَمْ لَـمْ يُزَكَّ، فَالكَنْـزُ كُلُّهُ حَرَامٌ.

 

maram225

 

ثالثًا: إِنَّ العَطْفَ فِي قَولِهِ تَعَالَى: (وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ) (التوبة 34) مُغَايِرٌ لِقَولِهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ) (التوبة 34) فَتَكُونُ الآيَةُ بِـمُقْتَضَى ذَلِكَ تَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمَينِ اثْنَينِ: أَحَدِهِمَا كَنْـزُ الـمَالِ، وَالثَّانِي عَدَمُ الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَنَصُّ الآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الوَعِيدَ بِالعَذَابِ الأَلِيمِ مُنْصَبٌّ عَلَى هَذَينِ الأَمْرَينِ: أَيْ الَّذِينَ يَكْنِـزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةِ، وَالَّذِينَ لَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَبَشِّرْهُمْ بِالعَذَابِ الأَلِيمِ. وَمِنْ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَنْ لَـمْ يَكْنِـزْ، وَلَكِنْ لَـمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَشْمَلُهُ الوَعِيدُ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَكِنَّهُ كَنَـزَ الـمَالَ فَإِنَّهُ يَشْمَلُهُ الوَعِيدُ أَيْضًا. قَالَ القُرْطُبِيُّ: "فَإِنَّ مَنْ لَـمْ يَكْنِـزْ وَمَنَعَ الإِنْفَاقَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ". وَالـمُرَادُ بِالآيَةِ مِنْ قَولِهِ: (فِي سَبِيلِ اللَّـهِ) الجِهَادُ لِأَنَّهَا مُقْتَرَنِةٌ بِالإِنْفَاقِ. وَكَلِمَةُ (فِي سَبِيلِ اللهِ) إِذَا قُرِنَتْ بِالإِنْفَاقِ كَانَ مَعْنَاهَا (الجِهَادُ) إِلَّا إِنْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهَا عَنهُ.

 

وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ عبارة (وَلَا يُنفِقُونَهَا) لَا تَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَنَـزُوهَا وَأَنفَقُوا مِنهَا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَشْمَلُهُمُ العَذَابُ. فِإِنَّهُ لَيسَ مَعْنَى الآيَةِ: وَمَنْ كَنَـزَ الـمَالَ بِأَنْ لَـمْ يُنْفِقْ مِنهُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُ بِالعَذَابِ، بِمَعْنَى أَنَّ العَطْفَ عَطْفٌ تَفسِيرِيٌّ، فَيَكُونُ الـمَالُ الـمَكنُوزُ إِذَا أُنْفِقَ مِنهُ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يُعَذَّبُ كَانِزُهُ، بَلْ مَعْنَاهَا مَنْ كَنَـزَ فَبَشِّرْهُ بِالعَذَابِ، وَمَنْ لَـمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُ بِالعَذَابِ.فَالعَطْفُ عَطْفُ مُغَايَرَةٍ، وَلَيسَ عَطفًا تَفْسِيرِيًّا. وَبِهَذَا يَكُونُ تَحرِيمُ الكَنْـزِ تَحرِيمًا مُطْلَقًا سَوَاءٌ أُنفِقَ مِنهُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْ لَـمْ يُنْفَقْ، وَيَكُونُ تَحرِيمُ الكَنْـزِ شَيئًا، وَتَحرِيمُ عَدَمِ الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ شَيئًا آخَرَ. وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ لِلعَيَانِ أَنَّ الآيَةَ قَدْ حَرَّمَتْ كَنْـزَ الـمَالِ وَلَو أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ، وَلَو أُنْفِقَ مِنهُ فِي سَبِيلِ اللهِ.

 

رابعًا: رَوَى البُخَارِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا؟ قَالَ: "كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ) (التوبة 34)".

 

قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الكِتَابِ، فَقُلْتُ:"نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ: أَنِ اقْدَمِ الـمَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ" فَقَالَ لِي: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، «فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الـمُنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ».

 

فَخَلافُ أَبِي ذَرٍّ وَمُعَاوِيَة إِنَّـمَا كَانَ فِي حَقِّ مَنْ نَزَلَتِ الآيَةُ لَا فِي مَعْنَاهَا، فَلَو كَانَ لَدَى مُعَاوِيَةُ أَوْ لَدَى عُثْمَانَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِأَنَّ مَا أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ لَيَسَ بِكَنْزٍ، أَيْ خِلَافَ رَأْيِ أَبِي ذَرٍّ لَاحْتَجَّ بِهِ مُعَاوِيَةُ، وَلأَسْكَتَ أَبَا ذَرٍّ بِهِ أَوْ لَاحْتَجَّ بِهِ عُثْمَانُ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمُومَ الآيَةِ، وَإِطْلَاقَهَا لَـمْ يَكُنْ فِيهِ خِلَافٌ بَينَ مُعَاوِيَةَ وَأَبِي ذَرٍّ أَوْ بَينَ عُثْمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ، وَأَنَّهُ لَـمْ يَثْبُتْ عِندَهُمَا حَدِيثٌ خِلَافَ ذَلِكَ.وَمِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الآيَةَ عَامَّةٌ جَاءَتْ لِجَمِيعِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَضْرُوبَةً أَمْ غَيرَ مَضْرُوبَةٍ، وَسَوَاءٌ أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُمَا أَمْ لَـمْ تُخْرَجْ، وَسَوَاءٌ أَبَلَغَتْ نِصَابًا أَمْ لَـمْ تَبْلُغْ. وَعَلَيهِ فَالكَنْـزُ كُلُّهُ حَرَامٌ.

 

أيها المؤمنون:

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

آخر تعديل علىالأربعاء, 11 كانون الثاني/يناير 2023

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع