مباحث في الإيمان - الفرق بين التصديق الجازم والتصور، ح4
- نشر في ثقافية
- قيم الموضوع
- قراءة: 918 مرات
لا تمنع المعون والماعون، حتى ينعاك الناعون. إن مثل توسعتك على أخيك وقد أضاق، وحقنك ماء وجهه أن يهراق. مثل العين الغديقة، في حرّ الوديقة. ذاك من ذوائب الخير والنواصي، وحقيق أن يطول به التواصي.
أطواق الذهب في المواعظ والخطب
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ
جاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي
قَوْلُهُ : ( قَالَ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا) أَيْ سَابِقُوا وُقُوعَ الْفِتَنِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاهْتَمُّوا بِهَا قَبْلَ حُلُولِهَا
(هَلْ تَنْظُرُونَ إِلَّا إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ)
قَالَ الْقَارِي : خَرَجَ مَخْرَجَ التَّوْبِيخِ عَلَى تَقْصِيرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ , أَيْ مَتَى تَعْبُدُونَ رَبَّكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَعْبُدُوهُ مَعَ قِلَّةِ الشَّوَاغِلِ وَقُوَّةِ الْبَدَنِ فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَ كَثْرَةِ الشَّوَاغِلِ وَضَعْفِ الْقُوَى ؟ لَعَلَّ أَحَدَكُمْ مَا يَنْتَظِرُ إِلَّا غِنًى مُطْغِيًا اِنْتَهَى . وَقَوْلُهُ مُنْسٍ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ , وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِمُشَاكَلَةِ الْأَوْلَى , أَيْ جَاعِلٌ صَاحِبَهُ مَدْهُوشًا يُنْسِيهِ الطَّاعَةَ مِنْ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ , وَالتَّرَدُّدِ فِي طَلَبِ الْقُوتِ
(أَوْ غِنًى مُطْغٍ) أَيْ مُوقِعٍ فِي الطُّغْيَانِ
(أَوْ مَرَضٍ مُفْسِدٍ) أَيْ لِلْبَدَنِ لِشِدَّتِهِ أَوْ لِلدِّينِ لِأَجْلِ الْكَسَلِ الْحَاصِلِ بِهِ
(أَوْ هَرَمٍ مُفْنِدٍ) أَيْ مَوْقِعٍ فِي الْكَلَامِ الْمُحَرَّفِ عَنْ سُنَنِ الصِّحَّةِ مِنْ الْخَرِفِ وَالْهَذَيَانِ . وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْفَنَدُ بِالتَّحْرِيكِ الْخَرَفُ وَإِنْكَارُ الْعَقْلِ لِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ , وَالْخَطَأُ فِي الْقَوْلِ وَالرَّأْيِ . وَالْكَذِبُ كَالْإِفْنَادِ , وَفَنَّدَهُ تَفْنِيدًا كَذَّبَهُ وَعَجَّزَهُ , وَخَطَّأَ رَأْيَهُ كَأَفْنَدَهُ . وَلَا تَقُلْ عَجُوزٌ مُفَنَّدَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ذَاتَ رَأْيٍ أَبَدًا
(أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ) بِجِيمٍ وَزَايٍ مِنْ الْإِجْهَازِ , أَيْ قَاتِلٍ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى تَوْبَةٍ وَوَصِيَّةٍ . فَفِي النِّهَايَةِ : الْمُجْهِزُ هُوَ السَّرِيعُ , يُقَالُ أَجْهَزَ عَلَى الْجَرِيحِ إِذَا أَسْرَعَ قَتْلَهُ , أَوْ الدَّجَّالِ أَيْ خُرُوجِهِ فَشَرٌّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ بِصِيغَةٍ الْمَجْهُولِ , أَوْ السَّاعَةِ أَيْ الْقِيَامَةِ
(فَالسَّاعَةُ أَدْهَى) أَيْ أَشَدُّ الدَّوَاهِي وَأَقْطَعُهَا وَأَصْعَبُهَا
(وَأَمَرُّ) أَيْ أَكْثَرُ مَرَارَةً مِنْ جَمِيعِ مَا يُكَابِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الشَّدَائِدِ لِمَنْ غَفَلَ عَنْ أَمْرِهَا , وَلَمْ يَعُدَّ لَهَا قَبْلَ حُلُولِهَا . وَالْقَصْدُ الْحَثُّ عَلَى الْبِدَارِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ حُلُولِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَأُخِذَ مِنْهُ نَدْبُ تَعْجِيلِ الْحَجِّ .
وَمِنْ ذلكَ أيضاً وصيّةُ الرّسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لأبي ذرٍّ الغَفارِيِّ
يا أبا ذرّ: احْفَظْ ما أُوْصيكَ به تَكُنْ سعيداً في الدّنيا والآخِرَة
يا أبا ذرّ: نِعْمَتانِ مَغبونٌ فيها كثيرٌ من النّاس: الصحّةُ والفَراغ
يا أبا ذرّ: اغتنِمْ خمساً قبل خمس: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبل سَقَمِكَ وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قبل شُغْلِكَ، وحياتَكَ قبل موتِك
يا أبا ذرّ: إيّاكَ والتّسويفَ في عَمَلِك، فإنّكَ بيومِكَ، ولستُ بما بَعْدَهُ، فإنْ يَكُنْ غَدٌ لَكَ فَكُنْ في الغَدِ كما كنتَ في اليوم، وإنْ لم يَكُنْ غداً لم تندمْ على ما فَرَّطْتَ اليوم
يا أبا ذرّ: كمْ من مُسْتَقْبِلٍ يوماً لا يَسْتَهِلُّهُ، وينتظرُ غداً فلا يَبْلُغُهُ
يا أبا ذرّ: لو نظرتَ إلى الأجلِ ومسيرِهِ لأبْغَضْتَ الأملَ وغُرورَه
يا أبا ذرّ: كُنْ كأنّكَ في الدنيا غريب، أو كعابرِ سبيل، وعُدَّ نفسَكَ من أصحابِ القُبور
يا أبا ذرّ: إذا أصبَحْتَ فلا تُحدِّثْ نفسَكَ بالمساء، وإذا أمْسَيْتَ فلا تُحدِّثْ نفسَكَ بالصّباح، وخُذْ من صِحَّتِكَ قبلَ سَقَمِك، ومن حياتِكَ قبلَ موتِكَ، فإنّكَ لا تدري ما اسْمُكَ غداً
يا أبا ذرّ: إيّاكَ أن تُدْرِكَكَ الصَّرْعَةُ عند العَثْرَة، فلا تُقالُ العثرةُ ولا تُمَكِّنُ من الرَّجعَة، ولا يَحْمِدْكَ مَنْ خَلَّفْتَ بما تَرَكْتَ، ولا يَعْذُرْكَ مَنْ تَقَدَّمَ عليهِ بما اشْتَغَلْتَ به
يا أبا ذرّ: كُنْ على عُمُرِكَ أشحَّ منكَ على دِرْهَمِكَ ودينارك
يا أبا ذرّ: إنّ حقوقَ اللهِ جلَّ ثناؤُهُ أعظمُ من أنْ يقومَ بها العبادُ وإنّ نِعَمَ اللهِ أكثرُ مِنْ أنْ يُحْصِيَها العباد، ولكن أمْسَوْا وأصْبَحُوا تائبين
يا أبا ذرّ: حاسِبْ نفسَكَ قبلَ أنْ تحُاسِبَ فهو أهوَنُ لِحِسابِكَ غداً، وزِنْ نفسَكَ قبلَ أنْ تُوزَن، وتجهَّزْ للعَرْضِ الأكبرِ يومَ تُعرَضُ لا تَخفَى منكَ على اللهِ خافية
ومن ذلك أيضاً:
{ يا أيُّها الناسُ تُوبوا إلى اللهِ قبلَ أن تموتوا، وبادِروا بالأعمالِ الصّالحةِ قبلَ أن تُشْغَلُوا، وصِلُوا الذي بينكُمْ وبينَ ربِّكُمْ بكثرَةِ ذِكرِكُمْ له وكثرَةِ الصّدقةِ في السّرِّ والعَلانِيَةِ تُرْزَقُوا، وتُنْصَرُوا، وتُجْبَرُوا }
إنّ هذه الكلماتِ من الحبيبِ المصطفى صلى اللهُ عليه وسلم تُغنِي عن الشّرحِ والتّفصيل؛ فهي سهلةُ الفَهمِ وقويّةُ التّأثير. وإنّنا بحاجةٍ لِوِقْفَةٍ صادقةٍ مع أنفُسِنا لعلّنا نتداركُ ما فاتَنا من تقصيرٍ في حقِّ أنفُسِنا ... تقصيرٍ في ما شرَعَ اللهُ سبحانه لنا من أحكامٍ على المستوى الفرديِّ كالصلاةِ والصّومِ والزّكاةِ والحجِّ وصِلَةِ الرَّحِمِ والصّدقِ وغيرِ ذلك، وتقصيرٍ في ما شرَعَ اللهُ سبحانه لنا من أحكامٍ على المستوى الجماعيِّ كالعملِ لاستئنافِ الحياةِ الإسلاميّةِ بمبايعةِ خليفةٍ للمسلمين يحكُمُنا بشرعِ ربِّ العالمين، فاستَبِقُوا الخيراتِ أيّها المسلمون.