- الموافق
- 2 تعليقات
بسم الله الرحمن الرحيم
2016-05-18
جريدة الراية: قمة لندن: مكافحة للفساد أم تكريس له؟
لعقود خلت كان الشائع في العالم أن الفساد موجود فقط في الدول القائمة في العالم الإسلامي وفي الدول "النامية" الأخرى، إلى أن بدأت تتكشف حقائق تتعلق بالفساد الموجود في الدول الرأسمالية سواء في أمريكا أو في الدول الأوروبية. وقد كشفت وثائق بنما عن أحد أوجه هذا الفساد. وفي هذا المجال قال صندوق النقد الدولي إن الفساد في القطاع العام يكبد الاقتصاد العالمي خسائر تقدر بـ1.5 تريليون إلى تريليوني دولار سنويا في صورة رشى، ويتسبب في تكاليف ضخمة أكبر تتمثل في إضعاف النمو الاقتصادي وفقدان إيرادات ضريبية واستمرار الفقر. وقالت مديرة الصندوق كريستين لاغارد في مقال مرفق بورقة بحثية إن "الفقر والبطالة يمكن أن يكونا أعراض الفساد المزمن". وذكرت أن تكلفة الرشاوى وحدها تزيد على 2% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، ولأن هذه الأموال ملوثة فإنها تخرج من الاقتصادات إلى الملاذات الضريبية، مما يعني أنها لا تسهم في النمو.
وقد أُعلن أن قمة لندن التي انعقدت بتاريخ 2016/5/12 جاءت لتعالج الفساد المستشري، وقد أكدت القمة على أهمية إنشاء مركز تنسيق دولي لمكافحة الفساد، وأيضًا لإنشاء مركز لتبادل البيانات بين الدول، فضلاً عن إنشاء مركز لمساندة الدول التي تعاني من الفساد.
ولا يخفى على أحد أن الفساد الذي تتحدث عنه القمة هو جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي الفاسد، الذي يجعل الغاية تبرر الوسيلة، ويجعل الحل الوسط هو الحل الأمثل بدلا من الحل الصحيح، ويجعل من القيمة المادية هي القيمة الوحيدة التي يتعامل معها النظام مطيحة بالقيم الروحية والمعنوية والخلقية إلا إذا حققت قيمة مادية ربحية، ويجعل النفعية هي مقياس الأعمال دائما. فمثل هذا النظام لا يمكن إلا أن ينتج فسادا.
والدول الرأسمالية الكبرى طالما تحدثت عن فساد الدول الضعيفة والنامية، وكيف أن حكامها ولغوا في دماء الأموال والعباد، بيد أن هؤلاء الحكام ليسوا إلا عملاء وأدوات للغرب المستعمر الظالم، وما تمكينهم من الفساد المستشري إلا من أجل ضمان تبعية بلدانهم للغرب ليستبيحوا منها ما يشاؤون. فبريطانيا حين تمكن حكام الخليج وبروناي ونيجيريا وغيرهم من جمع ثروات هائلة من أموال شعوبهم إنما ليمكنوا بريطانيا وشركاتها من نهب أضعاف أضعاف ما يجنيه الحكام من ثروات شعوبهم. وأمريكا ما كانت لتذر حكام السعودية وأفغانستان والعراق ليلغوا في أموال النفط والمخدرات إلا لتكون أمريكا وشركاتها الرأسمالية أكبر الناهبين لأموال الشعوب. وإلا كيف يمكن أن يتصور أن ينتهي حسني مبارك في مصر بأكثر من مئة مليار دولار في دولة ترزح تحت ديون طائلة!!
ومع ذلك فقد بقيت أمريكا وعالمها الرأسمالي البشع يحاول أن يخفي سوأته وراء منظمات دولية كحقوق الإنسان والشفافية والعفو وغيرها، وهو الذي يديرها ويوجهها كيف يشاء ليظهر للعالم أن الفساد مستوطن في العالم الذي سماه تارة ثالثا وتارة ناميا وأخرى متخلفا، وأن كرامة الإنسان تهدر في نيجيريا وكينيا وسوريا وأفغانستان وتشيلي، وأن السعودية تظلم فيها النساء وتطبق فيها أحكام عقوبات جائرة. هكذا عمدت أمريكا وبريطانيا وفرنسا إلى إخفاء الحقائق وتزييف الوقائع إلى أن اضطرت أخيرا لكشف جزء يسير من حقيقة الفساد على أرضها، دون أن تعترف أن نظامها واستعماره وقيمها هي سبب كل فساد في الأرض.
وأدون هنا غيضاً من فيض فساد الغرب ونظامه الجائر ومحاولته إظهار الفساد في عباءة القديس. فإبراهام لنكولن الذي اشتهر بتحرير العبيد في أمريكا، لم يكن قراره المشهور إلا لضرب صناعة القطن في ولايات أمريكا الجنوبية لتمكين العبيد من الفرار من الجنوب إلى الشمال لرفد صناعة الآلات بأيد عاملة رخيصة. فبدلاً من أن يقال دعم لنكولن مصانع الشمال بالعمالة الرخيصة على حساب زراعة القطن: قيل حرر العبيد! وفي مطلع القرن العشرين حين تم إصدار قانون حظر الكحوليات سنة 1920 في أمريكا قيل إن أمريكا اتجهت خطوة خلقية إلى الأمام، والحقيقة أنها عملت على ضرب صناعة الخمر والنبيذ التي بدأت تنافس أكبر مستوردي النبيذ من عائلة كندي. فما أن ارتفع الحظر سنة 1922 على يد روزفلت حتى غدت شركات كندي المنتجة والمستوردة للخمور من أكبر الشركات العالمية في هذا المجال دون منافسة تذكر. وليست هذه إلا أمثلة من واقع الفساد والظلم في النظام الرأسمالي. وما زلت أذكر جيدا كيف عمدت شركة موتورولا (التي كانت عملاقة الاتصالات) سنة 2000 إلى عقد صفقات وهمية كاذبة من أجل رفع أسهم شركتها بمقدار الضعف. ولعل أكبر عملية فساد منظم في تاريخ أمريكا الحديث ما قامت به شركة آرثر اندرسون من تمكين شركة إنرون العاملة في مجال الطاقة من إخفاء أكثر من 100 مليار دولار ما أدى إلى أزمة عملت إدارة بوش جاهدة على احتوائها وإخفائها.
وما أوراق بنما التي اشتهرت حديثا ومن قبلها تسريبات ويكيليكس إلا مظهر واحد من مظاهر الفساد المستشري في الغرب والذي أزكم أنوف الخاصة والعامة ولم يعد بالإمكان التستر عليه، خاصة وأن الدول الرأسمالية نفسها بدأت تعاني من فقدان كثير من الأموال التي كانت من المفروض أن تعود لخزائنها. وقبل بضع سنين حين قرر البنك المركزي في قبرص تقاضي عمولات كبيرة على الأموال المودعة لديها، لم تخف الحكومة الروسية رضاها عن العملية إذ إن غالبية الأموال كانت أموالا روسية هاربة من الضرائب.
فالفساد في النظام الرأسمالي ليس حديثا ولا طارئا، بل هو جزء من النظام نفسه. والفساد ليس ماليا فحسب، بل هو متشعب في جميع جزئيات النظام السياسية والاجتماعية وغيرها. أليس زواج المثليين جنسيا فساداً؟ أليست الديمقراطية التي تجعل الإنسان إلهاً وربا فساداً؟ أليس استعمار الشعوب وقهرها ومنعها من تبني النظام الذي تريد فسادا وظلما؟ أليس إنشاء أجهزة تجسس عالمية وبثها في الأرض والفضاء لتحصي أنفاس الناس حتى الحكام فسادا؟ أليس اختراع أنظمة إرهابية وإلباسها أثوابا إسلامية فسادا وظلما؟ فأي فساد تريد أمريكا وأوروبا أن تحارب؟!
إن أشد أنواع الفساد الذي تمارسه أمريكا وبريطانيا في العالم اليوم هو محاربتها للإسلام، الدين الذي جاء ليجتث الفساد من جذوره، ولم يكافئ فاسدا ولا مفسدا والله تعالى يقول في معرض الهجوم على فرعون ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾.
إن اجتثاث الفساد من الأرض لا يمكن أن يتم إلا باجتثاث مصدره أولا وهو النظام الرأسمالي الفاسد ومن ثم استبدال نظام عادل به، يقوم على نظام مصدره رب العالمين الذي ليس بينه وبين أحد من الخلق نسب ولا مصاهرة، ولا يتنازعه هوى ولا ميل، ولا تعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا تأخذه سنة ولا نوم، وهو حي قيوم، تقوم بأمره السماوات والأرض. وما ذلك على الله بعزيز.
د. محمد ملكاوي
المصدر: جريدة الراية
2 تعليقات
-
جزاكم الله خيرا وبارك جهودكم
-
بوركت كتاباتكم المستنيرة الراقية، و أيد الله حزب التحرير وأميره العالم عطاء أبو الرشتة بنصر مؤزر وفتح قريب إن شاء الله