- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2024-01-03
جريدة الراية : في ذكرى فتح القسطنطينية معانٍ ودلالاتٌ
بعد حوالي ثمانية قرون ونصف، تحققت بشارة الرسول ﷺ؛ أي في الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة 857هـ، المُوافق للتاسع والعشرين من أيَّار سنة 1453م، حيث بشّر الرسول الأكرم ﷺ بفتحها، ومدح جيشها وأميرها: عن عبد الله بن بشر الغنوي، حدثني أبي، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ». قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
واليوم نعيش أجواء هذه الذكرى الطيبة، وقد عصفت بنا الكروب والنكبات والأحداث الجسام، وآخرها ما يجري في الأرض المباركة، أرض الأقصى والمسرى، في غزة هاشم وباقي الأرض المباركة؛ من قتل وتشريد، وانتهاك للأعراض والحرمات، وكل المحرمات بحق المسلمين على أيدي أشد الناس عداوة لأمة الإسلام؛ اليهود!!
ولكن رغم الألم وعظم المصاب الذي نرزح تحته وفي أجوائه المحيطة نريد أن نقف على بعض المعاني العظيمة لهذا الفتح العظيم؛ لعله يحيي ويوقظ في هذه الأمة المعاني نفسها التي أحياها هذا الفتح ومن قبله البشارة العظيمة، ولعله كذلك يحيي فيها البشارة الثانية التي لم تتحقق بعد، وهي فتح رومية التي سئل عنها الرسول ﷺ في الموضوع نفسه وبرواية أخرى عندما سئل عليه الصلاة والسلام: أي المدينتين تفتح أولا يا رسول الله: قسطنطينية، أو رومية؟ فقال رسول الله ﷺ: «مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً، يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ» رواه الإمام أحمد.
إن في مناسبة هذا الفتح الكبير معاني عظيمة؛ نريد أن نقف عند بعضها؛ ومنها:
1- إن هذه الأمة أمة عظيمة كريمة، لا تنهزم بشكل دائم، ولا تفنى ولا تزول. فهي كما وصفها ربها عز وجل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ووصفها فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾، وكما وصفها رسولها ﷺ فقال: «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» رواه الترمذي. وقال: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ» رواه الإمام أحمد. فهذه الأمة أبدا لا ولن تموت، وستظل أمة معطاءة؛ رغم كل الكروب والمصائب والنكبات. وليس ذلك إلا لأمة الإسلام. فقد مرت في كروب كبيرة، ولكنها سرعان ما عاودت، ونهضت على أقدامها: مثل ما حصل في الغزو الصليبي لديار الإسلام من سنة 1096م إلى 1272م، أي حوالي مئتي عام. واحتل الصليبيون المسجد الأقصى المبارك؛ وهو جزء من عقيدتها حوالي تسعين عاما، لم يرفع فيه أذان ولم تقم فيه صلاة!
ثم جاء الغزو التتاري بعد ذلك واستمر من سنة 616هـ بغزو بخارى في الشرق إلى 658هـ حتى معركة عين جالوت في فلسطين وهزيمتهم هزيمة منكرة. وقد احتل في هذه الفترة واغتصب معظم ديار الإسلام، وحرق وخرّب معظم حواضر المسلمين في بغداد وحلب وغيرهما... وجاء في العصر الحديث الاستعمار العسكري لمعظم ديار الإسلام؛ إلا أن الأمة وقفت في وجهه وأخرجته من ديارها، وبذلت في سبيل ذلك ملايين الشهداء!!
2- إن الصفات التي اتصف بها صاحب الفتح محمد الفاتح رحمه الله، كانت مطابقة لوصف الرسول ﷺ؛ فكان نعم الأمير لنعم الجيش، حيث صمم على تحقيق البشرى، ونوال قصب السبق لصاحب البشرى؛ فطبق القرآن والسنة، وجعل اللغة العربية لغة الدولة، وحث على العلم والفهم؛ وخاصة أحكام الجهاد والاستشهاد، وأعد عدة كافية من جميع النواحي. وليس مثل هؤلاء المتشبهين كذباً بالعثمانيين ويقولون إنهم على طريقهم وطريقتهم؛ فتنكروا لحكم القرآن، وزجوا في السجون بكل من يدعو لتطبيق القرآن، وفتحوا البلاد والعباد للعهر والرذيلة، وصاروا يتسابقون ويتودّدون ويتذللون لدخول اتحادات الكفر والإجرام مثل الاتحاد الأوروبي. وأبقوا تركيا تحت سطوة حلف الأطلسي وشروطه المعادية لأمة الإسلام. ثم جاءت ثالثة الأثافي؛ الجسر الجوي والبحري لمساعدة كيان يهود بمستلزمات الحرب ضد إخوانهم من أهل غزة هاشم!
3- إن وحدة الأمة عبر العصور كانت تسبق التحرير في كل العصور التي حصل فيها الغزو؛ فقبل تحرير الأرض المباركة من الصليبيين حصلت الوحدة بين مصر والشام، وجاءت الجيوش زاحفة إلى حطين. وقبل تحريرها من المغول كان الأمر كذلك. وقبل فتح القسطنطينية كانت الدولة موحدة؛ تشمل كل العالم الإسلامي؛ لا فرق بين عربي وتركي... وهكذا إذا أرادت الأمة تحرير فلسطين من جديد.
4- إن سبب الغزو على الأمة كان قعودها عن الجهاد، وتفرقها وهذا مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. فما يحصل في كل بلاد المسلمين ومنها فلسطين هو بسبب قعودها عن الجهاد وتقصيرها بإيجاد من يوحد الأمة تحت راية واحدة؛ في ظل دولة واحدة تطبق الإسلام وتحمل راية الجهاد.
5- إن التاريخ يتكرر ولكن بصورة أخرى هذه الأيام؛ فالأمة اليوم ممزقة مفرقة بسبب غياب حكم الله عز وجل ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين﴾. فبسبب فرقتها تجرأ عليها اليهود، ومنعوها من إدخال حتى الدواء لإخوانهم من أهل غزة!!
6- أخلاق الإسلام في التعامل مع الشعوب الأخرى، مقارنة مع الكفار؛ هي كالفرق بين الظلام والنور. ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، أو كالفرق بين الميت والحي. فقد رأينا كيف أن المسلمين في كل حروبهم وفتوحاتهم تقيدوا بأخلاق الإسلام؛ فلم يقتلوا شيخا ولا امرأةً ولا طفلا، ولا عابدا في صومعة، ولم يهدموا كنيسة ولا معبدا. وأمنوا الناس داخل كنيسة أيا صوفيا، ولم يقتلوا أحدا بعد فتح القسطنطينية، ودخول الجيش الإسلامي فيها. ورأينا كذلك في غزة كيف أن المجاهدين لم يؤذوا كلبة كانت مع الطفلة المأسورة؛ حفاظا على مشاعرها! وفي المقابل رأينا كيف أن اليهود يتعاملون بوحشية مع الأسرى؛ فيعرونهم من ملابسهم، ويجبرونهم على الجلوس في المطر والبرد؛ عدا عن تعذيبهم بكل ألوان العذاب. وليس فقط اليهود فأمريكا في فيتنام قتلت، واغتصبت النساء وكذلك في أبي غريب في العراق...
7- التهاوي الحضاري والأخلاقي الغربي، والتناقض في الفكر والمعايير... كل ذلك سيؤدي إلى انهيار هذه النظم. وهذا ما هو حاصل اليوم؛ فأمريكا قائدة المعسكر الرأسمالي تكيل بمكيال في أوكرانيا، وفي غزة تكيل بمكيال آخر، وتستخدم الفيتو في مجلس الأمن هنا ولا تستخدمه هناك. ناهيك عن وقوف دول الغرب مع كيان يهود بشكل سافر صريح رغم أنه معتدٍ، وأهل غزة معتدى عليهم.
وفي الختام نصل إلى الحقيقة المهمة وهي أن هذه الأمة وحدها القادرة على تحقيق العدل، وأن أسباب عودتها خير أمة ما زالت قائمة، وسوف تعود لتحرّر الأرض المباركة أولا ويكون مركزها الخلافة كما وعد الله سبحانه وبشر رسوله ﷺ، وأن روما ستفتح بجيش جرار ينطلق من الأرض المباركة، وأن ما يحصل في الواقع إنما هي مبشرات لعودة هذه الأمة كما كانت. ومنها فساد اليهود ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾ وانتشار الظلم والشدة والقهر في بلاد المسلمين ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾، وتهاوي الفكر الغربي، والسقوط الأخلاقي ﴿قدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾. وغير ذلك من مبشرات...
فنسأله تعالى أن يكرمنا عما قريب بعزة هذه الأمة تحت راية الإسلام؛ في ظل خلافة الإسلام؛ لتعاود سيرة الفتح، ونشر الهدى، ويكرمها بتحقيق البشارة الثانية (فتح روما)، وانطلاق الجيش الإسلامي؛ من مقر الخلافة في القدس.
بقلم: الأستاذ حمد طبيب – بيت المقدس
المصدر: جريدة الراية