- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2024-03-13
جريدة الراية: ما سر استمرار تركيا في علاقاتها التجارية مع كيان يهود رغم استياء أهلها؟!
يسيطر الغضب على الشارع التركي احتجاجا على استمرار العلاقات التجارية والاقتصادية مع كيان يهود بجانب العلاقات السياسية والأمنية، رغم مرور أكثر من 150 يوما على بدء عدوانه على غزة، وسياسة التجويع التي يرتكبها الاحتلال بحق سكانها المحاصرين. فلماذا لا تقطع تركيا هذه العلاقات؟! بل إن رئيسها أردوغان يحرص على استمرارها رغم تظاهره أنه يتبنى قضية فلسطين وأهلها وأنه السلطان العثماني القادم لإنقاذهم!!
نبدأ القصة من الموقف المشرف للسلطان العثماني خليفة المسلمين عبد الحميد الثاني رحمه الله، عندما رفض عروض اليهود بملايين الليرات الذهبية مقابل إعطائهم موطنا بفلسطين، وقوله لهم إذا هدمت الخلافة فإنهم سيحصلون عليها مجانا. وقد حافظ عليها العثمانيون كما حافظوا على الخلافة وذادوا عن المسلمين وديارهم وحملوا الراية مئات السنين فاتحين البلاد ناشرين الإسلام.
وبالفعل بدأ تسلسل الأحداث لضياع فلسطين عندما أعدّت بريطانيا مصطفى كمال لهدمها، والمعروف أنه من يهود الدونمة، فارتكب أول خيانة عندما كان على رأس الجيش العثماني في فلسطين، فتمارض ولم يستعد لمقاومة المعتدين الإنجليز وسلمهم إياها في خريف عام 1917، ولم تكن الدولة العثمانية على علم بعمالته للإنجليز الذين أعلنوا في الوقت نفسه وعد بلفور لليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين، وأقرهم عليها رسميا بمعاهدة لوزان.
وعندما أعلن عن قيام كيان يهود سارعت تركيا إلى الاعتراف به في آذار 1949، وبدأت حكوماتها بارتكاب الخيانات بتعزيز علاقاتها بالكيان. فوقعت حكومة مندريس عام 1958 مع الكيان اتفاقية التعاون ضد التطرف والنفوذ السوفياتي في الشرق الأوسط. ووقعت حكومة أربكان 11 اتفاقية تعاون أمني وعسكري واقتصادي مع كيان يهود عام 1996. وبناء عليها بدأت التدريبات العسكرية المشتركة، وبدأت تركيا بشراء الأسلحة من كيان يهود وتصليح معداتها العسكرية لديه. ووقعت حكومة أجاويد "اتفاقية التجارة الحرة التركية (الإسرائيلية)" عام 2000.
وقام أردوغان بزيارة لكيان يهود عام 2005، وبدأ يعزز العلاقات معهم، كما بدأ يلعب دور السمسار للمصالحة بين النظام السوري وكيان يهود. وقد خفض التمثيل الدبلوماسي على إثر حادثة سفينة مافي مرمرة عام 2010 ومن ثم عاد للتطبيع عام 2015، ولكن العلاقات التجارية التي تدعم كيان يهود لم تتوقف. ومن ثم تم تخفيض المستوى الدبلوماسي على أثر الملاسنات بين نتنياهو وأردوغان، وأعيد رفعه، واستقبل أردوغان رئيس كيان يهود هرتسوغ عام 2022 كاستقبال الأبطال والأباطرة!
اجتمع أردوغان مع نتنياهو في نيويورك في أيلول 2023 واتفق معه على زيارة لكيان يهود، فعندما اندلعت حرب غزة يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ألغى الزيارة. ورغم المجازر التي ارتكبها كيان يهود في غزة لم يخفض التمثيل الدبلوماسي هذه المرة! واستمرت كافة العلاقات وخاصة التجارية على الوتيرة نفسها. ويظهر أن أمريكا طلبت منه ذلك ضمن خطتها لحماية كيان يهود وتأمين الدعم له كونه قاعدتها الرئيسية في المنطقة، وليكن ذلك وسيلة ضغط على حكومة نتنياهو لتنصاع لإدارة بايدن.
فأردوغان تبنى الجمهورية العلمانية والكمالية وسياستها الداخلية والخارجية التي رسمها مصطفى كمال، وتُرك لحكامها هامش اللعب على عواطف الناس الإسلامية واستغلالها من أجل الوصول إلى الحكم وتنفيذ هذه السياسة.
فمن أهم أسس السياسة التركية الخارجية:
1- الاندماج في الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي. ولهذا تبنت تركيا كل ما عند الغرب من قيم وأنظمة وأفكار منذ عهد مصطفى كمال وأدخلها حلف سعد آباد الإنجليزي عام 1937. ودخلت الناتو عام 1953، وحلف بغداد الإنجليزي عام 1955. ودعمت العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ومنذ عام 1959 بدأت تعمل على دخول الاتحاد الأوروبي. وفي عهد أردوغان عززت علاقاتها بأمريكا وشاركتها في كل أحلافها ونفذت كل خططها في المنطقة، وراجعت رسميا عام 2005 لدخول الاتحاد الأوروبي.
2- المحافظة على العلاقات مع كيان يهود، وقد لخصناها في الأعلى.
3- المحافظة على حدود تركيا كما رسمت في اتفاقية سايكس بيكو وسجلت في الميثاق الوطني، ويقتضي ذلك التصدي لأي عمل لإعادة وحدة البلاد الإسلامية.
4- محاربة الأخطار القادمة من سوريا والعراق، والتي تعني محاربة أي تغيير جذري للعودة للإسلام وإقامة الخلافة. ولهذا حارب أردوغان الثورة السورية التي أخذت طابعا إسلاميا، وذلك بأسلوب خبيث حيث ادّعى مناصرتها حتى خدع الكثير من أهلها، ووجه إليها طعنة غدر أشد من غدر النظام السوري وإيران وحزبها اللبناني وروسيا وأمريكا.
ورغم أن موقف أهل تركيا المسلمين ضد هذه الأسس ويريد الإسلام ولا يريد الغرب بشقيه ويريد الوحدة الإسلامية وعودة الإسلام إلى الحكم، ويتبنى قضية فلسطين وأهلها وهو ضد كيان يهود الغاصب، إلا أن موقفه لم يزحزح النظام عن الاستمرار بها. وأقصى ما فعله أحيانا هو خفض التمثيل الدبلوماسي دون قطع العلاقات الدبلوماسية وسحب الاعتراف بالكيان الغاصب، مع استمرار كافة العلاقات وخاصة التجارية. لأن موقف الناس لا تتبعه أعمال سياسية مخلصة قوية تؤثر على النظام وتزحزحه عن موقفه. خاصة وأن الأحزاب السياسية المشاركة في اللعبة السياسية تتخذ مواقف كاذبة ومخادعة للناس تجاه كيان يهود والأمور الأخرى لكسب الأصوات، حتى إذا وصلت إلى الحكم نفذت سياسة النظام كما فعل حزب أربكان وحزب أردوغان.
فأردوغان رغم أن حرب غزة قد فضحته، كما فضحته مواقفه الأخرى تجاه ابن سلمان والسيسي وبشار أسد، فلا يستحي من مواقفه المتلاعبة الخيانية ويبيع كل من يثق به، لأن مصالحه أهم من غزة وفلسطين وأهلها، فلو كان يهمه أمرها لقام وقطع كل هذه العلاقات كأدنى فعل يمكن أن يفعله. إذ إنه ارتبط بأمريكا وتعهد لها بالحفاظ على كيان يهود والسير في فلكها حتى تدعمه للوصول إلى الحكم، وذلك خلال لقاءاته مع المسؤولين الأمريكيين عندما كان يرأس بلدية إسطنبول. ولم يعمل أدنى عمل لتغيير النظام التركي نحو الإسلام، بل فعل العكس، فعمل على تأكيد الكمالية والديمقراطية والعلمانية وإقناع الناس بها على أنها لا تخالف الإسلام كذبا وزورا بعدما كانوا يعتبرونها كفرا بواحا.
ولهذا فغضب أهل تركيا لا يتحول إلى عمل منتج، إلا إذا عملوا على تغيير النظام من جذوره، والإتيان بقيادة إسلامية سياسية مخلصة واعية تتصدى لسياسته وتوجد الرأي العام وتقود الناس ضد هذه السياسة وتسند عملها إلى العقيدة، حتى يكون موقفهم عقائديا ثابتا، وقد بدأ حملة الدعوة للخلافة السير في هذه الطريق، فطوبى لهم.
بقلم: الأستاذ أسعد منصور
المصدر: جريدة الراية