الأربعاء، 25 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/27م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

جــواب ســؤال: قضية البشير مع المحكمة الدولية، وحقيقة تخفيف التصعيد بين أوروبا وأمريكا حول السودان

 

 

 

السؤال:

 

إلى أين وصلت قضية البشير مع المحكمة الدولية بالنسبة لأحداث دارفور؟  وهل ما يلاحظ من تخفيف حدة التصعيد بين أوروبا والولايات المتحدة يعني قرب وصولهم إلى حل وسط في هذه القضايا؟

 

 

الجواب:

 

أولاً: حتى يمكن الجواب على السؤال، فإنه يجب استعراض أحداث القضية ومتعلقاتها: 

1- المحكمة الدولية هي من صنيع الأيادي الأوروبية كي تحفظ مصالحها تحت غطاء القانون الدولي ولكي تواجه الهجمة الأمريكية. وقد نشأت المحكمة الدولية في عام 1998 فيما يسمى بمعاهدة روما. وذلك لملاحقة الأشخاص الذين يقومون بجرائم خطيرة وذات اهتمام دولي، من مثل الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، بحيث تقوم بمحاكمة الشخصيات التي تقوم بتلك الجرائم كخيار أخير، بعد أن تفشل محاكم الدول المحلية من اتخاذ أي إجراء فاعل.

2- وقعت الولايات المتحدة الأمريكية على معاهدة روما في 31/12/2000 ثم صادق عليها كلينتون قبل مغادرته للمكتب الرئاسي، إلا أن الكونغرس الأمريكي لم يصادق على المعاهدة. وقبل افتتاح المحكمة بقليل في عام 2002 سحب جورج بوش توقيع بلاده من على المعاهدة. وبعد ذلك أصدر جورج بوش قوانين حماية الجنود الأمريكيين، ومنع اعتقال المحكمة للأمريكيين وعدم خضوعهم لإجراءاتها القضائية، ومنذ ذلك الحين أصبحت أمريكا معادية للمحكمة.

3- وعلى الرغم من عدم توقيع أمريكا على معاهدة روما، وكذلك عدم توقيع السودان عليها، إلا أن الاتحاد الأوروبي، وبخاصة فرنسا ثم بريطانيا، قد نجح في إيجاد ضغوط شعبية محلية وعالمية من أجل إصدار قرار من مجلس الأمن بتحويل قضية دار فور إلى المحكمة الدولية، مبررا تحويلها إلى مجلس الأمن مع أن السودان غير موقع على المعاهدة، مبررا ذلك بإحدى مواد المعاهدة التي تنص على حق المحكمة في متابعة أي قضية إذا رأت المحكمة أنها تهدد السلم والأمن العالميين. ولإثبات ذلك، فقد استغل الأوروبيون، وبخاصة فرنسا، أحداث دار فور، وضَخَّمت ما وقع فيها من جرائم...، وأوجدت رأيا عاما بأن ما يحدث في دارفور يهدد السلم والأمن العالميين بسبب ملايين المهجرين ومئات الألوف من القتلى والجرائم الفظيعة التي تصل للإبادة الجماعية وجرائم الحرب... وركَّزت فرنسا وبريطانيا على الجرائم المنسوبة إلى حكومة السودان ومنظمة الجنجويد المرتبطة بالحكومة، وتغاضت عن جرائم حركات التمرد المدعومة من أوروبا، وبخاصة من فرنسا.

4- وهكذا أوجدت فرنسا وبريطانيا تعاطفا شعبيا مع أحداث دارفور ضد حكومة البشير،  لدرجةٍ ألجأت أمريكا عند التصويت على قرار مجلس الأمن  رقم1593 في آذار 2005 القاضي بإحالة القضية إلى المحكمة الدولية، ألجأت أمريكا إلى الاكتفاء بالتغيب دون استعمال حق النقض مع أنها تعلم أن القرار هو صناعة أوروبية وموجه ضد نفوذها في السودان! وهكذا فقد حصل القرار المذكور على 11 صوتا من دون معارضة له، بل بغياب أربع دول هي "الجزائر والبرازيل والصين والولايات المتحدة"، مع أن أمريكا أثناء مداولات القرار كانت تهدد الدول بعدم التصويت، لكن الرأي العام الذي أوجدته فرنسا وبريطانيا ضد حكومة البشير بسبب جرائم دارفور، كان من القوة بمكان بحيث لم تجرؤ الولايات المتحدة على معارضة قرار إحالة قضية دارفور للمحكمة الدولية، بل اكتفت بالغياب.        

5- في شباط 2007 طالب مدعي عام المحكمة الدولية "لويس مورينو اوكامبو" من المحكمة إصدار مذكرة اعتقال بحق كل من وزير الداخلية الأسبق أحمد محمود هارون، وعلي محمود علي قائد قوات الجنجويد والذي يعرف أيضا (بعلي كوشايب) ، إلا أن السودان رفضت مذكرة المحكمة. وفي نيسان 2007 أصدرت المحكمة مذكرة الاعتقال بحق الاثنين، واحتوت المذكرة على 42 تهمة من ضمنها تهمة القتل والاضطهاد والتعذيب بحق هارون، بينما احتوت المذكرة على 50 تهمة من ضمنها القتل والاعتداء على المدنيين عن قصد بحق علي. إلا أن السودان رفضت مباشرة تسليم كلا المتهمين.

6- أصرت السودان على عدم تسليم المتهمين خلال الشهور الثمانية التي تلت مذكرة الاعتقال بالرغم من الضغوط الأوروبية الشديدة عليها، وأخيراً وفي تشرين الثاني 2007 طالبت دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتهم بريطانيا مجلس الأمن ممارسة مزيد من الضغط على السودان. حيث قال السفير البريطاني جون ساورز"إنه من العار على مجلس الأمن أن يكون أحد المتهمين بانتهاك حقوق الإنسان معيناً وزيرا في الحكومة السودانية، وأنا قلق من أن تقرير المدعي العام الذي سيقدمه لمجلس الأمن الشهر القادم لن يحتوي على كثير من التفاؤل". وتبع هذا تحركات سريعة من قادة المتمردين في دارفور من الموالين لبريطانيا وفرنسا في مطالبتهم مجلس الأمن اتخاذ إجراءات سريعة. وصرح أحد قادة المتمردين في حركة تحرير الشعب السوداني عبد الواجد النور لصحيفة منبر السودان بالقول "إن تحقيق السلام في دارفور يتطلب إنهاء حالة ثقافة الحصانة للشخصيات في دارفور" وأضاف" بأن على مجلس الأمن التأكد من تعاون السودان مع مذكرة الاعتقال التي استندت لقرار مجلس الأمن رقم 1593. وحذر من أن عدم اتخاذ إجراءات حازمة من مجلس الأمن سيكون برهانا على عجز المجلس في حل المشكلة". وفي الثالث من كانون الأول 2007 دعت حركة التمرد في دارفور (حركة العدل والمساواة) المجتمع الدولي للوقوف مع المحكمة الدولية في عملها المتعلق بدارفور، حيث قال الناطق الرسمي باسم الحركة أحمد حسين أحمد لصحيفة منبر السودان " لا يمكن تحقيق السلام الدائم بدارفور من دون فرض العدالة" وفي هذه الأثناء قال المدعي العام "اوكامبو" بأنه يُحَضِر لقضية جديدة؟

7- بالإضافة إلى ذلك، فإن البرلمان الأوروبي قد دعا في 22/5/2008 إلى تجميد أرصدة القادة السودانيين الذين لا يتعاونون مع المحكمة الدولية. وكشف المدعي العام الرئيسي للمحكمة من أنه سيعلن عن قضية جديدة بحق مسئولين كبار في الحكومة السودانية. وفي اجتماع قمة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية قالت السفيرة الفرنسية لدى الأمم المتحدة جين-موريس روبرت " أن فرنسا والاتحاد الأوروبي جاهزتان لاتخاذ مزيد من الإجراءات القاسية ضد الحكومة السودانية إن استمرت السودان في عدم التعاون، إن جميع القادة الأوروبيين يساندونني، إنها المرة الأولى التي تفصح فيها الدول الأوروبية الست (الدول الست في الأمم المتحدة) على أن قرار مجلس الأمن يجب أن يُحترم" 

8- وبالفعل ففي 14/7/2008 تمكن الاتحاد الأوروبي ومن خلال المحكمة الدولية من اتهام عمر البشير. فقد اسند المدعي العام مورينو اوكامبو عشر تهم لعمر البشير: ثلاثة منها إبادة جماعية، وخمسة جرائم ضد الإنسانية وجريمتا قتل. وتوقع القضاة بأنهم سيستغرقون شهوراً في دراسة البينات قبل إصدار قرار الاعتقال للبشير.

وهكذا نجح الأوروبيون بإصدار قرار بملاحقة البشير، وبالتالي توجيه ضربة إلى نفوذ أمريكا في السودان بإضعاف عميلها البشير الذي أصبح متهما بجرائم حرب وملاحقا من المحكمة الدولية!

9- قامت أمريكا خلال ذلك بمحاولات لعدم تفعيل قرارات المحكمة الدولية وبخاصة المتعلقة  بالملاحقة الجدية للبشير، آخذة في الاعتبار نجاح أوروبا في إثارة الرأي العام ضد جرائم دارفور وضد حكومة البشير، وكذلك الاحترام الدولي لتحقيقات المحكمة...، ولهذا قامت بما يلي:

أ- صرحت إدارة جورج بوش في 26/04/2008م بان واشنطن تحترم تحقيقات محكمة لاهاي فيما يتعلق بالأعمال الوحشية في منطقة دارفور.

ب- دقت ناقوس الخطر على تطورات عملية السلام في دارفور إذا ما استمرت المحكمة الدولية في ملاحقة فعلية لمزيد من المسئولين في السودان، حيث صرَّح المبعوث الأمريكي السابق للسودان "اندرو ناتاسيوس" بالقول" إذا نفذت المحكمة الدولية تهديداتها التي وردت في الصحف عن عزمها على ملاحقة مزيد من الشخصيات الدبلوماسية في السودان فإننا ندفع بالبلد إلى حالة فوضى ودمار"

ثم ضاعفت من هذه التصريحات بعد اتهام المحكمة الدولية للبشير صراحة، وصارت الولايات المتحدة تركز على أن ملاحقة البشير ستجعل عملية السلام في دار فور في مهب الريح...

ج- حركت أمريكا عملاءها في أفريقيا والعالم العربي لتأجيل إصدار المحكمة مذكرة اعتقال البشير، وأرسلت أمريكا عمرو موسى لحث السودان على محاكمة "هارون وعلي" في محكمة افريقية أو محكمة سودانية، مستغلة في ذلك المادة رقم 16 في معاهدة روما التي تنص على أن المحكمة غير مخولة بالنظر في القضايا التي يُنظر فيها من قبل المحاكم المحلية. وقد ساند هذه الخطوة كل من الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية وحركة عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي وتنزانيا وكينيا وأوغندا...

10- لقد أثرت هذه المحاولات في ضغوطات أوروبا، ولذلك فقد سلطت عملاءها على انتقاد من يساند السودان حيث قال رئيس حركة العدل والمساواة " أخشى أن تتورط الجامعة العربية في التآمر مع الحكومة السودانية ضد أهل دارفور، مما يؤدي إلى كارثة على المدى البعيد " وقال منتقداً الاتحاد الأفريقي" المادة الرابعة من قانون الاتحاد تنص على تدخل الاتحاد في أي قضية يُنتهك فيها حقوق الإنسان من قبل أية دولة عضو في الاتحاد، ومن ضمن ذلك جرائم الحرب والإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية، فلماذا إذا لا يطبق الاتحاد هذه المادة؟ هل يظن الاتحاد أن الوضع في دارفور ليس مأساويا بما فيه الكفاية بعد خمس سنين؟"

11- ومع ذلك فقد أدركت أوروبا، وبخاصة فرنسا، أن تحريك أمريكا للإتحاد الإفريقي مؤثر، ولذلك عقدت لقاءات مع ممثلي الاتحاد الإفريقي، وعرضت في هذه اللقاءات أمورا "مكاسب" تريد تحقيقها في مقابل "تليين" موقفها ...، ثم خلصت إلى أنه لابد من الالتقاء مع أمريكا في منتصف الطريق، وان استمرارها في الشوط إلى منتهاه ليس مجديا، لا من حيث ملاحقة البشير، ولا من حيث الإصرار على تسليم المتهمين "هارون وعلي" للمحكمة الدولية، ولكن مقابل مكاسب تحققها في المباحثات، كما جاء في تصريحات مسئوليها. وهناك مؤشرات على ذلك:

أ- صرحت مؤخرا السفيرة الفرنسية لدى الأمم المتحدة جين- موريك روبرت " عقدنا لقاءات مكثفة مع ممثلين في الاتحاد الأفريقي،... ورسالتنا للسودان هي أن تُوقف السودان القتل و العمليات العسكرية في دارفور... وأن تقوم بما تستطيع لوقف المعاناة البشرية وتسهيل إيصال المعونات الإنسانية لدارفور... والسماح لجميع الأحزاب السياسية بالانضمام للتباحث السياسي... وتحسين علاقاتها مع تشاد"

ب- في 15/07/2008م قالت كل من السفيرة الفرنسية (جين- موريس روبرت) والسفير البريطاني (جون) "لم يفت الأوان بعد على السلطات السودانية لتتعاون مع المحكمة الدولية في اتهامها لوزير الداخلية الأسبق أحمد هارون وقائد قوات الجنجويد علي كوشايب"، أي أن البشير يستطيع تجنب اعتقاله إذا سلم كل من أحمد وعلي. ولتسويق هذا العرض أمرت بريطانيا ليبيا وأفريقيا الجنوبية وقطر بالتدخل في القضية.

ج- في 27/7/2008 كشف وزير خارجية السودان النقاب عن إرادة بريطانيا وفرنسا تعاون السودان مع المحكمة الدولية وتسليم كلا المشتبهين للمحكمة. وأشار إلى طلب كلا البلدين نشر قوات حفظ السلام وإيجاد حل سياسي سريع للنزاع.

د- موافقة كل من فرنسا وبريطانيا وأمريكا على التعديلات الليبية على مشروع القرار، ويدعو التعديل إلى تجميد أي اتهام من قبل المحكمة الدولية لعمر حسن البشير...

هـ- أعلن وزير العدل السوداني عبد الباسط سابدارات عن تعيين نائب عام يدعى  نمر إبراهيم محمود خصيصاً للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان التي حصلت في دارفور منذ 2003، ثم قال: إن كوشايب سيستجوب، وسيحاكم في المحاكم المحلية السودانية. وفي 1/9/2008 أكد النائب العام نمر إبراهيم محمد أنه كان يحقق في المزاعم التي تتهم قائد قوات الجنجويد علي كوشايب في القيام بجرائم حرب في دارفور فقال " نستمر في استجواب علي كوشايب الذي أُتهم بالقيام بجرائم حرب..". 

و - أبدت فرنسا بعض المرونة في مواقفها تجاه السودان وحكومة البشير، وتجاه هارون وعلي، فلم تعد تشترط تسليمهما إلى المحكمة الدولية، بل يكفي أن يحاكما أمام محاكم محلية، وأن لا يكونا وزراء في الحكومة...! فقد صرح ساركوزي مؤخرا في لقاء مع الصحفيين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك بخصوص تسليم المشتبه بهما فقال" لا نريد للمتهمين أن يبقوا وزراء في الحكومة السودانية" يشير بذلك إلى هارون. وكانت من قبل قد صرحت السفيرة الفرنسية لدى الأمم المتحدة جين- موريك روبرت" قلتها مراراً هنا بأن أي عمل يقومون به يجب أن يتضمن تعاونهم الرسمي مع المحكمة الدولية، فإن أرادوا أن يحاكموا مواطنيهم في بلدانهم فلهم ذلك بحسب معاهدة روما، ولكن يجب أن يقوموا بذلك باتفاق مع المحكمة الدولية، ولم يفت الأوان بعد على التعاون".

ز- في 15/10/2008 طلب القضاة في المحكمة الدولية مزيداً من الوقت قبل إصدار مذكرة اعتقال بحق عمر البشير.

ثانياً: والآن، على ضوء ما سبق، فإنه يمكننا الجواب على السؤال بالقول:

إن قضية البشير ودارفور مع المحكمة الدولية تتجه إلى الحل الوسط بين أمريكا وأوروبا، وهو يتضمن إيجاد مخرج للأزمة بان يحاكم "هارون وعلي" محليا، وبالتالي تخف الملاحقة عن البشير ثم تلغى، ولكن مقابل مكاسب لأوروبا، وبخاصة بريطانيا وفرنسا، بان يوجد لهما موطئ قدم في دارفور من خلال مباحثات تضمن إشراك الحركات المتمردة العميلة لهما في الحكم بشكل فاعل، بالإضافة إلى أمن تشاد...

ولأن القضية حسب مؤشراتها تتجه نحو مباحثات الحل الوسط، وهذا يقتضي تصارع القوى السياسي، واستعمال الضغوطات وتسخين الأجواء لتحسين شروط مباحثات الحل الوسط، أي أخذ ورد وشد وجذب... فإن هذا الحل ليس سهلا، على الأقل في المدى المنظور، وفي جميع الأحوال فليس من المتوقع إنجاز حل قبل مجيء الإدارة الأمريكية الجديدة للبيت الأبيض في كانون الثاني 2009م. وحتى بعد مجيئها فإنها تحتاج إلى وقت ليس بالقصير لتداخل أكثر من قوة ذات تأثير في المنطقة.   

        

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع