- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
النظرة الإسلامية لمفهوم المواطنة
كلمة حزب التحرير المقدمة إلى مؤتمر "المواطنة في العالم العربي والإسلامي: واقع وتحديات"
المنعقد في بيروت في 2015/12/10م
المهندس عثمان محمد بخاش
نحن قوم أعزنا الله بالإسلام بعد أن أكرمنا بنعمة الإيمان بالخالق سبحانه، والعقيدة الإسلامية قد انبثق عنها أحكام ومفاهيم ونظم تنظّم علاقة الفرد المسلم مع نفسه ومع خالقه ومع غيره من البشر، كما تنظم حركة المجتمع الإسلامي في كيانه المجتمعي وعلاقاته في داخله كما في علاقاته مع الأمم والمجتمعات في الخارج. فالله سبحانه وتعالى يفرض على المسلمين جميعا، حكامًا ومحكومين، أفرادًا وجماعات، الاحتكام إلى شرع الله في كل صغيرة وكبيرة، وفي هذا يقول الحق سبحانه ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، ويقول سبحانه: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89]، ويقول سبحانه: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48]
إذن فعلى المسلم الرجوع إلى الشرع الذي نزل به الوحي على رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح ولا يُقبل الاحتكام إلى غير ذلك مطلقا من أهواء البشر وعقولهم القاصرة العاجزة.
هذا الكلام فيما يتعلق بأمور التشريع من حلال وحرام وفيما يتعلق بعبادة الله سبحانه والقيام بالتكاليف الشرعية فيما افترضه سبحانه على العباد واجتناب ما حرمه الله تعالى، كما يتعلق بتسيير شؤون الفرد والمجتمع سواء فيما بين المسلمين أنفسهم أو في علاقاتهم من غير المسلمين سواء في داخل المجتمع الإسلامي أو خارجه وفي كل مجالات الحياة من نواحي الاقتصاد والثقافة والفكر والسياسة بعامة.
وعلى هذا لا يُقبل ولا يصح الاستدلال بمنظومة مفاهيم وأفكار تشريعية دخيلة على المسلمين وتتناقض مع الإسلام من العقائد والحضارات الأخرى، مع التنويه هنا، باختصار، أن الإسلام يجيز الاستفادة من أشكال المدنية المادية من علوم وصناعات موجودة لدى الآخرين، فهذه لا صلة لها بالعقائد بل هي نتاج بشري لعلوم طبيعية هي عالمية بطبيعتها، فالفيزياء والكيمياء وما شاكل من العلوم والصناعات المادية ليست حكرا على أمة دون أخرى، بخلاف أمور التشريع وتنظيم علاقات الناس المعيشية فهذه تنبع من عقيدة المجتمع القائمة على مفهوم الإيمان بخالق الكون والإنسان والحياة والعبودية له، أو من عقيدة تنكر ذلك وتحدد دور الخالق في حياة الفرد والمجتمع.
2- السياق التاريخي لمفهوم المواطنة
لعل المواجهة الفكرية بين الأمة الإسلامية والحضارة الغربية كانت، ولا تزال، أخطر المواجهات التي واجهتها الأمة. من هنا فإنّ إقصاء الإسلام عن الحياة، وتدجين المسلمين في بوتقة نظم وقوانين ومفاهيم غير إسلامية، لم يكن ليتم بيسر وسهولة، وإنما تطلّب جهودًا حثيثة، استغرقت عقوداً من الزمن، وعلى عدة أصعدة: ثقافية وفكرية وسياسية وعسكرية واقتصادية... وقد عملت الدول الغربية على الترويج في أوساط المسلمين، وخاصة النخبة المثقفة منهم، لمقولات ومفاهيم الفكر السياسي الغربي القائم على مفهوم الدولة الوطنية القائمة على النظم الوضعية. وقد دارت هذه العملية، منذ أواسط القرن التاسع عشر، في بلاد المسلمين عبر مؤسسات الإرساليات والكليات والمعاهد التي زرعت في بيروت والقاهرة والاسكندرية واسطنبول وسواها، كما دارت عبر استقطاب وكسب أبناء المسلمين، والنصارى، الذين وفدوا إلى الغرب لمتابعة تحصيلهم العلمي في جامعاته ومعاهده. ونحن نجد أن الدعوة إلى الوطنية هي دعوة مستوردة، وفدت إلى بلاد المسلمين من الغرب؛ والباحث عن مفهوم "الوطنية" لا يجد له تاريخا ولا تأصيلا في الفكر الإسلامي ولا في تاريخ المسلمين.
3- تحديد واقع مصطلح المواطنة
يقول صاحب القاموس المحيط عن المعنى اللغوي لكلمة وطن: "منزل الإقامة ومربط البقر والغنم، الجمع أوطان، ووطن به يطن وأوطن: أقام"([3])، والإقامة قد تكون في قرية أو مدينة وبذلك تصلح المدينة أو القرية لأن تكون وطنا. إذن فإن أوسع مدلول لكلمة وطن هو القرية أو المدينة التي يعيش فيها الإنسان، أما سائر المدن والقرى فهي كلها بالنسبة له سواء، لا فرق بين مدينة أو قرية ضمن ولايته أو إمارته أو دولته وبين أخرى تقع خارجها، فكلها سواء من حيث إنه لا يستوطنها. فالمقيم في بيروت مثلا قد يتعلق قلبه ببيروت لأنه عاش فيها واستوطنها واعتاد عليها، إلا أنه لا فرق بالنسبة له بين طرابلس الشام ودمشق أو بين صيدا والإسكندرية أو بين بعلبك وبغداد، من حيث إنها كلها مدن لا يستوطنها.([5]) فقد قام الشيخ رفاعة الطهطاوي بطرح فكرة "الوطن" لأول مرة في التداول في العالم الإسلامي بعد أن عاش خمس سنوات في باريس (1826-1831م) عاصر فيها السجالات والطروحات الفكرية السياسية التي كانت تعصف بالمجتمع الفرنسي يومذاك، فوقع من حيث يدري أو لا يدري تحت تأثير ما عايشه من نظرة غربية حملها معه ليبشر بها في مصر إثر عودته. "فللمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوروبا[7])
إن المواطنة بمفهومها المعاصر تعني المساواة بين المواطنين في حقوقهم المدنية والسياسية والاجتماعية، وهي حقوق قد أصبحت في العالم الديمقراطي حقوقًا دستورية، بمعنى أن قانون الدولة الأساسي أو دستورها يضمنها ويحميها. وهذا المفهوم المعاصر للمواطنة مفهوم علماني نشأ تاريخيا في أوروبا في معارضة مفهوم الدولة المسيحية للمواطنة.([9])
والدولة القومية هي التنظيم السياسي للأمة القومية التي تضم جماعة تشترك في خبرة تاريخية مشتركة وتتطلع إلى العيش المشترك كوحدة مستقلة عن غيرها، بغض النظر عن شكل حكومتها أو نظامها السياسي، وتفتخر الأمة القومية بتراثها التاريخي وثقافتها القومية، وتمجّد "الأمة" وتقدّسها. يقول ساطع الحصري "إن أسّ الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية هو وحدة اللغة ووحدة التاريخ"، ولذلك "لا الدين ولا الدولة ولا الحياة الاقتصادية تدخل بين مقومات الأمة الأساسية".([11])
أما في الحياة الدنيا فالدولة الإسلامية ملزمة بضمان أمن وكرامة كل من يعيش في كنفها لا يضار في نفسه وولده وماله ولا يفتن عن دينه. ولسنا بحاجة للدلالة على أن الواقع المعاش في الشام وسواها في مصر وغيرها واضح في أن غير المسلمين عاشوا آمنين على أنفسهم وأديانهم حتى عهد الاستعمار الحديث الذي عمل على إيقاع الفتنة بين أهل البلد الواحد.
فالفهم السياسي لواقع الأمور يظهر بكل جلاء ووضوح تدخل القادة الغربيين في كل شاردة وواردة في أمور الحكم والاقتصاد سواء في مصر أو السودان أو الشام أو غيرها... ووصل الأمر بالقادة الأمريكان لأن يصرحوا بأن المنظومة التي بنيت على اتفاقية سايكس بيكو قد استنفدت أغراضها وصار لا بد من إعادة صياغة المنطقة من جديد على أساس كيانات قومية عرقية طائفية.[13]). وهذا ما يفضح التناقض الحقيقي في دعواهم المشبوهة: فلو أن النصارى، مثلا، طالبوا بتحكيم شريعة المسيح عليه السلام لفهمنا، ولكنهم، إذ يعلمون حق العلم أن النصرانية ليس فيها نظام للحياة، رضوا بأن يُتخذوا مطية في التطاول على الإسلام من قبل المنادين بالعلمانية لفصل الدين عن الحياة العامة، والعلمانية هي نفسها التي أدت إلى الدمار الروحي في الحضارة الغربية وانعدام القيم الروحية والأخلاقية، ثم هم يغيظهم تمسك المسلمين بدينهم، فما بالهم كيف يحكمون؟
نعم هذا قياس مع الفارق، فالشريعة الإسلامية تقوم على الوحي الرباني المبرَّأ عن الهوى وعن العقول البشرية القاصرة العاجزة. والحاكم والمحكوم يخضعان لحكم الشرع وليس لرغبات بشر يرون في غدهم خلاف ما قرروه بأمسهم، حتى وصل الأمر بهم إلى تزويج الرجل من الرجل، والمرأة من المرأة تحت قبة الكنيسة، والدعوة إلى إباحة الماريجوانا وغير ذلك من الموبقات.
أما محاولة بعضهم تلخيص الإسلام في الممارسات الفجة لتنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية، فليس هذا التنظيم ولا غيره من التنظيمات حجة على الإسلام الذي يقوم على الوحي الرباني، وممارسة المسلمين لجريمة الربا حتى في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة لا يجعل الربا حلالا بل هي حرام بنص الشرع المؤبد إلى يوم الدين، والشرع هو الحجة على البشر وليس العكس. لا بل إننا نرى أن فزاعة تنظيم الدولة اختلقها الغرب لهذا الغرض بعينه: تشويه الإسلام لإيجاد رأي عام ضده وضد الداعين إلى استئناف الحياة الإسلامية، والواقع يكشف نفاق الغرب وأجهزته الإعلامية التي تغض الطرف عن إجرام الدول البوليسية وأولها نظام بشار الأسد، وهذا التحالف الدولي الذي يشمل 62 دولة هو ضد الإسلام لا غير، وما تنظيم الدولة إلا فزاعة وشماعة يتلطون وراءها.
([9]) ويأتي ضمن هذا الإطار تبرير سياسات الحكومات، خاصة في الحروب الخارجية، ومن أشهر ذلك مقولة "عبء الرجل الأبيض" التي نادى بها الشاعر الإنجليزي رُديارد كيبلنغ، إذ رأى أن "الرجل (الأوروبي) الأبيض" عليه أن يتقبل "عبء" تمدين وتحضير "الشعوب الهمجية" التي استعمرتها بريطانيا، وهذا ما يبرر توسع الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس في القرن التاسع عشر. وقد وصل الأمر بالمفكر الإيطالي (ماسيمو دازغليو Massimo D’Azeglio) أن قال بعد إعلان الوحدة الإيطالية (1860م): "بعد أن صنعنا إيطاليا الوطن يتعين علينا أن نصنع المواطن الإيطالي". www.it.wikiquote.org
([12]) راجع المقابلة التي أجرتها قناة العربية الفضائية مع مايكل هايدن رئيس المخابرات الأمريكية المركزية سي أي إيه، في 11/8/2015 ، فيديو المقابلة على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=iJjq-UWDlbQ ، وأضاف هايدن في تصريحات لصحيفة «لوفيجارو» الفرنسية: «لنواجه الحقيقة: العراق لم يعد موجودًا ولا سوريا موجودة، ولبنان دولة فاشلة تقريبًا، ومن المرجح أن تكون ليبيا هكذا أيضًا». وتابع: «اتّفاقيات سايكس بيكو الّتي وضعت هذه الدول على الخارطة بمبادرة من القوى الأوروبية في عام 1916 لم تعكس قطّ الوقائع على الأرض، والآن تؤكّد هذه الحقائق على ذكرياتنا بطريقة عنيفة للغاية». وأوضح أن المنطقة ستبقى في حالة عدم استقرار في السنوات العشرين أو الثلاثين القادمة، معتقدا أن السياسة الهادفة إلى إحياء هذه الدول لن تكون مجدية.
([13]) الجباعي، جاد الكريم، مدخل سياسي إلى العلمانية أو مدخل علماني إلى