بسم الله الرحمن الرحيم
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
جرى ويجري على هذه الأمّة وفي هذا الشعب ما تشيب له الولدان وتنهدّ له الجبال ولكن في كلّ مرّة تكون النتيجة عكس ما أراد المتآمرون وفق سنّة أرادها الله حاكمة لصراع الحقّ والباطل عبر التاريخ قال الله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}، وهذه الأيّام في بلادنا بدأ النّظام الرّأسماليّ المفروض على المسلمين بقوّة الحديد والنّار والمنبوذ عالميّا ومحلّيّا يصطنع أجواء جديدة ويتحصّن عند خطّ دفاعه الأخير باسم العلمانيّة واللّائكيّة آخذا في يده ما يُسمّى بالإسلام "المُخفّف" و"المعتدل" والشيوعيّة "التّائبة" المتهافتة... والعلمانيّة شأنها شأن كلّ المفاهيم المُتحكّمة في الحياة السياسية دخيلة مفروضة مُسقطة جاءت في السياق الاستعماريّ والعسكريّ وما تبعه من استعمار ثقافيّ وهذا أمر بيّن لكلّ واع مُستنير، وغير خاف على الجميع الأموال الطّائلة التي تضخّها الدّول الغربيّة الكافرة المستعمرة لجهات مشبوهة لتنفخ الحياة في هذه المفاهيم وتُجمّلها وتُزيّف بها وعي النّاس الآيل بالتّدرّج إلى وجوب الحكم بالإسلام {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، وإصرار هؤلاء العلمانيين هو إصرار على عصب الحياة للنّظام الرّأسماليّ الليبرالي الذي لم تختره الأمّة يوما. فجوهر العلمانية هي وجوب فصل الدّين عن الحياة ولو بالإقصاء والقهر. ومقتضاها أمران:
1- عدم اتخاذ الدين والمقصود هنا الإسلام مصدرا للتّشريع أي مصدراً للتصرف في الحياة بحسبه، وهذا أمر مفروغ منه مُطبّق في كلّ بلاد الإسلام في ظلّ غياب الخلافة الإسلاميّة. ولضمان دوام هَذا الأمْر يعمدون إلى تُرسانة كاملة من الأسلحة التضليليّة، مثل منع العمل الحزبيّ على أساس الإسلام، وتوجيه سلاح الإعلام في اتجاه يوافق ما يريدون ويشوه ما لا يريدون، وسياسة تجفيف المنابع ثمّ تلويث المنابع، وأخيرا تسميم المنابع حتّى يُحال دون فهم المسلمين لدينهم فضلا عن تطبيقه.
2- وهو الأهمّ في واقع الحال: عدم مراعاة أيّ دين أثناء التشريع باعتبار أنّ الدّين عندهم أمر فرديّ بحت يُقرون وجوده لا وجوبه، أي لا بأس في زواله، وفي هذا اكتساح لمساحات التّديّن إلى حدّ تقليصها وعزلها تماما عن الحياة العامّة باعتبارها من مشمولات القانون المدنيّ وحده.
إذن فمفاهيم العلمانيّة واللّائكيّة ومرادفاتها هي مستوطنات فكريّة شبيهة بالمستوطنات العسكرية مغتصبة من الأمّة بالقهر السياسي والفكريّ، ويُراد توسيعها لتصبح احتلالا للفكر الإسلامي والفقه والتدين في مظاهره العامّة، والتضييق عليه في مظاهره الفردية. ومثال ذلك أن العلمانية لا تراعي مواعيد العبادة ومواقيتها إن كانت تخالف التوقيت الإداري أو "المصلحة" العامّة؛ وانظر ما فعله بورقيبة بالصّوم والصائمين في رمضان من استهتار. ومثال ذلك أيضا أنّ العلمانية لا تراعي الضوابط الشرعية للباس المرأة المسلمة في الحياة العامّة... ومن مقتضى العلمانيّة ّحقّ المرأة المسلمة في الزواج من الكافر ومنع الأبوين من تأديب أبنائهم بحكم أنّ القانون يحمي حرّيّة الفرد ولا يراعي الحافز الديني أو المانع الديني، وقس على ذلك.
إنّ العلمانيّة تناقض الإسلام؛ فالإسلام عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام يشمل الحياة والعلاقات، وهذا معلوم من الدين بالضرورة ولا ينازع فيه راشد. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}، فأين يُطبّق المسلمون أحكام ربّهم إن لم يكن في الحياة العامّة؟ وماذا يفعلون إن صادمت أحكامَ ربّهم أحكامٌ دونها وضدّها؟
إنّ محلّ النّزاع بين العلمانيّة والإسلام هي الحياة ذاتها؛ فالإسلام يرعاها بالأحكام الشرعية الربّانيّة العادلة الكافية. وأمّا العلمانيّة فتريدها مرتعا لأهواء القوى المتحكّمة في المجتمع بالمال والنّفوذ وتفعل ذلك دوما باسم الشّعب ورغما عنه بالإيهام والقهر. ولأنّ التّصادُم بين الإسلام والعلمانيّة واقع وواضح عقلا وشرعا ولا إمكان للتجاور أو التّعايش بينهما، فقد تحايلوا في تعريف الإسلام ذاته. ومن العجب أن أصبح العلمانيّون مفتين يُعلّموننا ديننا؛ فهم لا يُعرّفون الإسلام كما يُعرّف نفسه بل يُعرفونه تسلّطا وكذبا وافتراء. فهو بزعمهم لا يشمل أيّ شأن عامّ، وهو بزعمهم شأن فرديّ بحت لا يتولّى حتى الجانب الأخلاقيّ الجماعيّ، والشعب عندهم مجموعة مواطنين وهويّتهم الإسلاميّة ليست ذات اعتبار لأنّها عندهم عرضيّة وقابلة للتجاوز والإلغاء فلا يجب أن تُلاحظ في التشريع.
والأفظع أنّ هذه العلمانية جاءت في سياق استعماريّ وهي قائمة به إلى اليوم إذ دخلت بلادنا من الباب الخلفيّ بلا إذن أو رضى ولم تتولّد من حركة الأمّة والمجتمع الطّبيعية بل هي ضمن أفكار الاستعمار الشاذّة المدفوعة بأموال قذرة مشبوهة في عمليّة يُرادُ بها تبييض هذه الأموال والأفكار (أُعلن في الأسبوع الفارط عن دفع أميركا والاتحاد الأوروبي ملايين الدولارات لتأهيل الشعب للديمقراطيّة).
ومشكلة العلمانيّة مشكلة غربية بالأساس؛ ففي ديارهم كان التّسلّط بالدّين، واحتكاره إذ اتّخذ رجال الدّين أنفسهم واسطة بين العبد وربّه في فترة حالكة من تاريخ أوروبا أفسدت الدّين والحياة وأهلكت ما أهلكت، وهذا الأمر لا وجود له في الإسلام؛ حيث إنّ الصّلة بالله في العقائد والعبادات لا تقتضي الوساطة بل ترفضها {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، وفي المعاملات يُقدّم الفقيه اجتهاداته في شكل قوانين وفق اجتهاد شرعي منضبط يؤخذ بغلبة الظّنّ فقياس أمّتنا وشرعنا على ما وقع في ديار الغرب خداع ومغالطة. وإنّه لمن المُخزي على المشتغلين بالسّياسة والمهتمّين بالفكر ألّا يُفكّوا أنفسَهم من قيد المفاهيم المضلّلة التي دخلت ديارنا اختلاسا وسطواً والمدعّمة بقوّة الإعلام والمال المُلوّث لإفقاد هذه الأمّة المنعة والحصانة وتحطيم ذاتيّتها. فالجميع يُدرك صراحة أو ضمناً أنّ البديل العالميّ للنّظام الرّأسماليّ اللبيراليّ الطّاغي الذي استوفى كلّ عمليّات التّجميل هو الإسلام العظيم عقيدة ونظام حياة. ولكنّهم يُريدون لمفاهيم الغرب أن تتحكّم في الوسط السياسي نُفكر بها ولا نُفكّر فيها. وأخطر ما في الأمر خلق حالة عجز عن التفكير البديل ولو على سبيل الاحتمال وكأنّ أطروحات الغرب قدر وحتم محتوم وليس من حقّنا أبناء الأمّة إلّا التفكير في حدود التبرير... فكيف يقبل أدعياء الفكر عندنا اجترار مفاهيم الغرب اجترارا بطريقة أشبه ما تكون بحفظ درس عن ظهر قلب.
{وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}
التاريخ الهجري :8 من جمادى الأولى 1432هـ
التاريخ الميلادي : الإثنين, 11 نيسان/ابريل 2011م
حزب التحرير
ولاية تونس