- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
مع الحديث النبوي الشريف (19)
كظم الغيظ ابتغاء وجه الله تعالى!!
نُحَيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ, نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم "مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ" وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ:
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوسَطِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا مُسْلِمٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ».
أحبتنا الكرام:
مِنَ المُلاحَظِ فِي المُعَامَلاتِ الاجتِمَاعِيَّةِ بَينَ النَّاسِ أنَّ بَعضَهُمْ قَد يُسِيئُونَ إِلَى إِخوَانِهِمْ إِسَاءَاتٍ مُختَلِفَةً، بِألسِنَتِهِمْ أو بِأيدِيهِمْ أو بِغَيرِ ذَلِكَ مِنْ جَوَارِحِهِمْ، فِي تَصَرُّفَاتِهِمُ المَالِيَّةِ أو غَيرِهَا، وَقَد تَمَسُّ الإِسَاءَةُ النَّفسَ، أوِ العِرْضَ أوِ الشَّرَفَ، أو تَمَسُّ المَالَ وَالمَتَاعَ، أو تَمَسُّ الأهْلَ وَالعَشِيرَةَ. وَلَمَّا كَانَ الأمْرُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ, فَإِنَّ هَذِهِ الإِسَاءَةَ لَو تَعَامَلَ مَعَهَا المَرءُ لِلوَهلَةِ الأُولَى مُستَجِيبًا لِحَظِّ نَفسِهِ وَهَوَاهُ لَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ شَرٌّ عَظِيمٌ وَفَسَادُ ذَاتِ البَينِ، وَانتِشَارُ العَدَوَاتِ بَينَ أبنَاءِ المُجتَمَعِ.
وَقَد وَجَّهَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ لِضَرُورَةِ التَّحَلِّي بِالصَّبرِ وَكَظمِ الغَيظِ، بَلْ وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ. فَمَا أحْوَجَنَا إِلَى هَذَا الخُلُقِ العَظِيمِ لِتَقوَى الرَّوَابِطُ وَتَتآلَفَ القُلُوبُ، وَيُبنَى مَا تَهَدَّمَ مِنَ الرَّوَابِطِ الاجتِمَاعِيَّةِ، وَلِنَنَالَ رِضَا اللهِ وَجَنَّتَهُ.
إِنَّ الشَّرعَ المُطَهَّرَ قَد أجَازَ لَنَا أنْ نُعَاقِبَ بِمِثلِ مَا عُوقِبنَا بِهِ، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ بيَّنَ أنَّ العَفْوَ وَكَظْمَ الغَيظِ أفضَلُ وَأحسَنُ. قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ). (النحل ١٢٦) وَقَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). (آل عمران ١٣٤)
إِنَّ لِكَظْمِ الغَيظِ فَضَائِلَ عَظِيمَةً؛ فَبِالإِضَافَةِ إِلَى مَا سَبَقَ مِنَ الفَضَائِلِ هُنَاكَ جُملَةٌ مِنَ الفَضَائِلِ الأُخرَى الَّتِي نَطَقَتْ بِهَا هَذِهِ الأَدِلَّةُ:
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مَكَارِمِ الأخلاقِ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْن أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْتَقِمَ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ أَيَّتُهُنَّ شَاءَ».
وَرَوَى البَيهَقِيُّ فِي الآدَابِ عَنْ مَعْمَرٍ عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا جَرْعَةٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا رَجُلٌ أَوْ جَرْعَةِ صَبْرٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، وَمَا قَطْرَةٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَطْرَةِ دَمْعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، أَوْ قَطْرَةِ دَمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
وَرَوَى الإِمَامُ أحْمَدُ فِي مُسنَدِهِ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا, فَأَوْمَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، وَقَاهُ اللهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلَاثًا، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِيَ الْفِتَنَ، وَمَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إِلَّا مَلَأَ اللهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا».
أورَدَ ابنُ كَثِيرٍ هَذَا الحَدِيثَ عَنِ الإِمَامِ أحْمَدَ فِي تَفسِيرِهِ الآيَةَ 280 مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ, وَهِيَ قَولُهُ تَعَالَى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ). فَقَالَ: "بِسَهْوَة" بِالسِّينِ المُهمَلَةِ، وَأورَدَهَا كَذِلَكَ ابنُ الأثِيرِ فِي "النِّهَايَةِ" بِالسِّينِ المُهمَلَةِ، وَقَالَ: السَّهْوةُ: الأرضُ الَّليِّنةُ التُّربَةِ، شَبَّهَ المَعصِيَةَ فِي سُهُولَتِهَا عَلَى مُرتِكِبِهَا بِالأرضِ السَّهلَةِ التِي لا حُزُونَةَ فِيهَا. وَالحَزْنُ: مَا غَلُظَ مِنَ الأَرضِ. وَقَدْ وَرَدَ لَفظُ "بِسَهْوَةٍ" بِصُورَةٍ أخْرَى هِيَ"بِشَهْوَة" بِالسِّينِ المُعْجَمَةِ, أي المَنقُوطَةِ وَهُوَ تَصحِيفٌ.
وَذَكَرَ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ صِفَاتِ أصْحَابِ الجَنَّةِ عِندَ تَفسِيرِ قَولِهِ تَعَالَى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) إِلَى قَولِهِ: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) فَقَالَ: إِذَا ثَارَ بِهِمُ الغَيظُ كَظَمُوهُ بِمَعنَى كَتَمُوهُ فَلَمْ يُعْمِلُوهُ، وَعَفَوا مَعَ ذَلِكَ عَمَّنْ أسَاءَ إِلَيهِمْ.
وَقَالَ الغَزَّالِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ كَظْمَ الغَيظِ يَحتَاجُ إِلَيهِ الإِنسَانُ إِذَا هَاجَ غَيْظُهُ, وَيَحتَاجُ فِيهِ إِلَى مُجَاهَدَةٍ شَدِيدَةٍ، وَلَكِنْ إِذَا تَعَوَّدَ ذَلِكَ مُدَّةً صَارَ ذَلِكَ اعتِيَادًا فَلا يَهِيجُ الغَيظُ، وَإِن هَاجَ فَلا يَكُونُ فِي كَظمِهِ تَعَبٌ، وَحِينَئِذٍ يُوصَفُ بِالْحِلْمِ!! وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ استَكمَلَ الإِيمَانَ بِاللهِ: "إِذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي البَاطِلِ، وَإِذَا غَضِبَ لَمْ يُخْرِجْهُ غَضَبُهُ عَنِ الحَقِّ، وَإِذَا قَدِرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَا لَيسَ لَهُ!!".
وَعَلَى هَذِهِ الأَخلاقِ النَّبِيلَةِ تَرَبَّى سَّلَفُنَا الصَّالِحُ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ أجْمَعِينَ. وَنَذكُرُ لَكُمْ بَعضًا مِنَ مَوَاقِفِ كَظْمِهِمْ لِغَيظِهِمْ وَالتِي تُمَثِّلُ نَمَاذِجَ رَائِعَةً يُقتَدَى بِهَا فِي الحَيَاةِ:
- قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لِرَجُلٍ شَتَمَهُ: "يَا هَذَا لَا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا فَإِنَّا لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ!!".
- وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ له الشَّعْبِيُّ: "إنْ كُنْتُ كمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي, وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ!!".
- وَشَتَمَ رَجُلٌ مُعَاوِيَةَ شَتِيمَةً فِي نَفسِهِ؛ فَدَعَا لَهُ وَأمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ.
- وَشَتَمَ رَجَلٌ عَدِيَّ بنَ حَاتِمٍ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ قَالَ: إِنْ كَانَ بَقِيَ عِندَكَ شَيءٌ فَقُلْ, قَبلَ أنْ يَأتِيَ شَبَابُ الحَيِّ، فَإِنَّهُمْ إِنْ سَمِعُوكَ تَقُولُ هَذَا لِسَيِّدِهِمْ لَمْ يَرضَوا!!.
- وَجَاءَ غَلامٌ لأبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَقَد كَسَرَ رِجْلَ شَاةٍ لَهُ فَقَالَ لَهُ: مَنْ كَسَرَ رِجْلَ هَذِهِ؟ قَالَ: أنَا فَعَلْتُهُ عَمْدًا لأُغِيظَكَ فَتَضرِبَنِي فَتَأثَمَ. فَقَالَ: لأَغِيظَنَّ مَنْ حَرَّضَكَ عَلَى غَيظِي، فَأعتَقَهُ.
- قَالَ رَجُلٌ لِوَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ فُلانًا شَتَمَكَ. فَقَالَ: "أمَا وَجَدَ الشَّيطَانُ بَرِيدًا غَيرَكَ؟!".
- ذَكَرَ ابنُ كَثِيرٍ فِي سِيرَةِ عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أنَّ رَجُلاً كَلَّمَهُ يَومًا حَتَّى أغضَبَهُ، فَهَمَّ بِهِ عُمَرُ، ثُمَّ أمسَكَ نَفسَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: أرَدْتَ أنْ يَستَفِزَّنِي الشَّيطَانُ بِعِزَّةِ السُّلطَانِ، فَأنَالَ مِنكَ اليَومَ مَا تَنَالُهُ مِنِّي غَدًا؟ قَمْ عَافَاكَ اللهُ، لا حَاجَةَ لَنَا فِي مُقَاوَلَتِكَ.
فَهَيَّا أحبَّاءَنَا نَعُوِّدُ أنفُسَنَا كَظْمَ الغَيظِ وَالتَّحَلِّي بِالْحِلْمِ عَسَى أنْ يَملأَ اللهُ قُلُوبَنَا إِيمَانًا وَحِكْمَةً، وَيَزِيدَنَا يَومَ القِيَامَةِ رِفْعَةً وَشَرفًا وقدرًا ...!!
أحبتنا الكرام: نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي - ولاية الأردن