- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي
(ح 131)
المعنى الشرعي للإسراف والتبذير
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد, وحذرهم سبل الفساد, والصلاة والسلام على خير هاد, المبعوث رحمة للعباد, الذي جاهد في الله حق الجهاد, وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد, الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد, فاجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد, يوم يقوم الناس لرب العباد.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي, ومع الحلقة الحادية والثلاثين بعد المائة, وعنوانها: "المعنى الشرعي للإسراف والتبذير". نتأمل فيها ما جاء في الصفحة السادسة بعد المائتين من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني.
يقول رحمه الله: "وقال تعالى: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين). (الأعراف 31) وهذا ذم من الله للإسراف وهو الإنفاق في المعاصي, وقد وردت كلمة المسرفين بمعنى المعرضين عن ذكر الله، قال تعالى: (فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون). (يونس 12) أي زين الشيطان بوسوسته ما كان يعمله المسرفون، من الإعراض عن الذكر، واتباع الشهوات.
فسمى المعرضين عن ذكر الله المسرفين. ووردت كلمة المسرفين بمعنى الذين غلب شرهم على خيرهم قال تعالى: (لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار). (غافر 43) عن قتادة: أن المراد بالمسرفين هنا هم المشركون. وعن مجاهد: المسرفين السفاكي الدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرهم خيرهم هم المسرفون. وقد وردت كلمة المسرفين بمعنى المفسدين. قال تعالى: (فاتقوا الله وأطيعون (150) ولا تطيعوا أمر المسرفين (151) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون). (الشعراء 152). فهذه الآيات كلها، ليس المراد من الإسراف فيها المعنى اللغوي مطلقا، بل المراد معان شرعية. وهي، حين تذكر بجانب الإنفاق، يراد منها إنفاق المال في المعاصي، فتفسيرها بالمعنى اللغوي لا يجوز؛ لأن الله أراد بها معنى شرعيا معينا. وأما التبذير فمعناه الشرعي أيضا هو إنفاق المال في المحرمات، قال تعالى: (ولا تبذر تبذيرا (26) إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين). (الإسراء 27) أي أمثالهم في الشر، وهي غاية المذمة؛ لأنه لا يوجد أشر من الشيطان. والتبذير هنا تفريق المال فيما لا ينبغي. عن عبد الله بن مسعود: "أن التبذير هو إنفاق المال في غير حقه". وعن مجاهد: "لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا". وروي عن ابن عباس أنه قال في المبذر: "المنفق في غير حقه". وعن قتادة قال: "التبذير: النفقة في معصية الله وفي غير الحق، وفي الفساد". ذكر هذه الأقوال الطبري في تفسيره. فهذا كله يدل على أن المراد بالإسراف والتبذير هو الإنفاق في ما حرم الله. فكل ما حرمه الشرع يعتبر الإنفاق فيه إنفاقا بغير حق، يجب الحجر على فاعله. ومن يحجر عليه لا ينفذ له صدقة، ولا بيع، ولا هبة، ولا نكاح. وكل ما أخذه قرضا لم يلزمه أداؤه، ولا يقضى عليه به. أما ما فعله قبل أن يحجر عليه ففعله نافذ غير محدود إلى أن يحجر عليه القاضي.
وأما قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا). (الإسراء 29) فإن النهي منصب على كل البسط، لا على البسط، فبسط اليد لم ينه عنه الله، وهو الإنفاق الكثير في الحلال، وأما المنهي عنه فهو كل البسط. وهو الإنفاق في الحرام. فعدم النهي عن البسط - ومعروف أنه إنفاق المال بكثرة لأنه بسط لليد - دليل على أنه الإنفاق في الحلال، وانصباب النهي على كل البسط، دليل على أن النهي منصب على ما زاد على البسط الذي أباحه، فيكون منصبا على الإنفاق في الحرام. هذا من ناحية الدليل. أما من ناحية واقع الإنفاق، فإنه يختلف تقدير أن المنفق قد أكثر الإنفاق، أو لم يكثر، بالنسبة لمستوى المعيشة في بلده. فهناك بلاد لا يشبع فيها الفرد حاجاته الأساسية إشباعا كليا، فيعتبر إنفاقه على إشباع الحاجات الكمالية إنفاقا كثيرا، كما هي الحال في كثير من البلدان الإسلامية. وهناك بلاد يشبع الفرد حاجاته الأساسية إشباعا كليا، ويشبع أيضا حاجاته الكمالية، التي أصبحت مع تقدم المدنية حاجات ضرورية بالنسبة له، كالبراد، والغسالة، والسيارة، ونحو ذلك، فلا يعتبر إنفاقه على هذه الحاجات الكمالية إنفاقا كثيرا، فإذا اعتبر الإسراف والتبذير كما يدل عليهما معناهما اللغوي، فإن ذلك يعني أن الحكم الشرعي هو أن كل إنفاق على ما يزيد على إشباع الحاجات الأساسية حرام، فيكون شراء البراد، والغسالة، والسيارة، حراما لأنها تزيد على الحاجات الأساسية، أو يعتبر الحكم الشرعي أن الإنفاق على هذه الحاجات حرام، في بلدان، أو على أناس، وحلال في بلدان أخرى، أو على أناس آخرين، وبذلك يكون الحكم الشرعي اختلف في الشيء الواحد دون علة، وهذا لا يجوز؛ لأن الحكم الشرعي في المسألة الواحدة هو هو لا يتغير. وفوق ذلك، فإن إباحة الله الأشياء في استعمالها واستهلاكها كان مطلقا، ولم يقيد بالإنفاق الكثير أو القليل، فكيف يعتبر الإنفاق الكثير حراما؟ ولو أن الله حرم الإنفاق الكثير في الأشياء الحلال، وأحل هذه الأشياء، لكان معناه أحل الشيء وحرمه في آن واحد. فيكون الله يحل استعمال الطائرة الخصوصية، ويحرمها إذا كان شراؤها للشخص يعتبر إنفاقا كثيرا، وهو تناقض لا يجوز. وعليه فإن تفسير الإسراف والتبذير بمعناهما اللغوي لا يجوز، بل يجب أن يفسرا بمعناهما الشرعي، الوارد في نصوص الآيات، والوارد في أقوال بعض الصحابة، وبعض العلماء الموثوق بأقوالهم".
وقبل أن نودعكم أحبتنا الكرام نذكركم بأبرز الأفكار التي تناولها موضوعنا لهذا اليوم:
أولا: ملحوظتان مهمتان:
1. إن تفسير الإسراف والتبذير بمعناهما اللغوي لا يجوز، بل يجب أن يفسرا بمعناهما الشرعي.
2. المعنى الشرعي وارد في نصوص الآيات وأقوال بعض الصحابة وبعض العلماء الموثوق بأقوالهم.
ثانيا: الإسراف:
1. ليس المراد من الإسراف المعنى اللغوي مطلقا، بل المراد معان شرعية.
2. تفسير كلمة "الإسراف" بالمعنى اللغوي لا يجوز؛ لأن الله أراد بها معنى شرعيا معينا.
3. الإسراف هو الإنفاق في المعاصي. وقد ذمه الله تعالى بقوله: (إنه لا يحب المسرفين).
4. حين تذكر كلمة "الإسراف" بجانب الإنفاق، يراد منها إنفاق المال في المعاصي.
5. وردت كلمة المسرفين بمعان متعددة منها:
1) بمعنى المعرضين عن ذكر الله. قال تعالى: (كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون).
2) بمعنى الذين غلب شرهم على خيرهم. قال تعالى: (وأن المسرفين هم أصحاب النار). وللمفسرين في هذه الآية الكريمة قولان: قال قتادة: إن المراد بالمسرفين هنا هم المشركون. وقال مجاهد: إن المسرفين هم سفاكو الدماء بغير حلها.
3) بمعنى المفسدين قال تعالى: (ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون).
ثالثا: التبذير:
1. معناه الشرعي هو إنفاق المال في المحرمات قال تعالى: (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين). أي أمثالهم في الشر، وهي غاية المذمة؛ لأنه لا يوجد أشر من الشيطان.
2. التبذير هو تفريق المال فيما لا ينبغي. ذكر الطبري في تفسيره الأقوال الآتية.
1) عن عبد الله بن مسعود: "أن التبذير هو إنفاق المال في غير حقه".
2) عن مجاهد: "لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا".
3) عن ابن عباس أنه قال في المبذر: "المنفق في غير حقه".
4) عن قتادة قال: "التبذير: النفقة في معصية الله وفي غير الحق، وفي الفساد".
3. هذا كله يدل على أن المراد بالإسراف والتبذير هو الإنفاق في ما حرم الله.
4. كل ما حرمه الشرع يعتبر الإنفاق فيه إنفاقا بغير حق، يجب الحجر على فاعله.
5. من يحجر عليه لا ينفذ له صدقة، ولا بيع، ولا هبة، ولا نكاح. وكل ما أخذه قرضا لم يلزمه أداؤه، ولا يقضى عليه به.
6. ما فعله من يحجر عليه قبل أن يحجر عليه ففعله نافذ غير محدود إلى أن يحجر عليه القاضي.
رابعا: النهي عن الإنفاق في الحرام:
قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)
1. معروف أن بسط اليد هو إنفاق المال بكثرة.
2. النهي منصب على بسط اليد كل البسط، وهو الإنفاق في الحرام.
3. بسط اليد بعض البسط لم ينه عنه الله تعالى، وهو الإنفاق الكثير في الحلال.
4. عدم النهي عن بعض البسط دليل على إباحة الإنفاق الكثير في الحلال.
5. انصباب النهي على كل البسط دليل على أن النهي منصب على ما زاد على البسط الذي أباحه، فيكون منصبا على الإنفاق في الحرام.
خامسا: واقع الإنفاق:
1. يختلف تقدير أن المنفق قد أكثر الإنفاق، أو لم يكثر، بالنسبة لمستوى المعيشة في بلده:
1) هناك بلاد لا يشبع فيها الفرد حاجاته الأساسية إشباعا كليا، فيعتبر إنفاقه على إشباع الحاجات الكمالية إنفاقا كثيرا.
2) هناك بلاد يشبع الفرد حاجاته الأساسية إشباعا كليا، ويشبع أيضا حاجاته الكمالية، فلا يعتبر إنفاقه عليها إنفاقا كثيرا.
2. إذا اعتبر الإسراف والتبذير كما يدل عليهما معناهما اللغوي فإن ذلك يعني أمرين:
1) يعني أن الحكم الشرعي يحرم كل إنفاق يزيد على إشباع الحاجات الأساسية. أو أنه يعتبر أن الإنفاق على هذه الحاجات حرام، في بلدان، وحلال في بلدان أخرى.
2) يعني أن الحكم الشرعي قد اختلف في الشيء الواحد دون علة، وهذا لا يجوز؛ لأن الحكم الشرعي في المسألة الواحدة هو هو لا يتغير.
3. إن إباحة الله الأشياء في استعمالها واستهلاكها كان مطلقا، ولم يقيد بالإنفاق الكثير أو القليل.
4. لو أن الله حرم الإنفاق الكثير في الأشياء الحلال، وأحل هذه الأشياء، لكان معناه أحل الشيء وحرمه في آن واحد، وهو تناقض لا يجوز.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. نشكركم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.