- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح243) التجارة الخارجية تعتبر حسب تابعية التاجر لا حسب منشأ البضاعة
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ" وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّالِثَةِ والأَربَعِينَ بَعْدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "التَّجَارَةُ الخَارِجيَّةُ تُعْتَبَرُ حَسَبَ تَابِعِيَّةِ التَّاجرِ لَا حَسَبَ مَنْشَأِ البِضَاعَةِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الثَّامِنَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ الـمِائَةِ، وَالتَّاسِعَةِ وَالعِشْرِينَ بَعْدَ الـمِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 161: التَّجَارَةُ الخَارِجيَّةُ تُعْتَبَرُ حَسَبَ تَابِعِيَّةِ التَّاجرِ لَا حَسَبَ مَنْشَأِ البِضَاعَةِ، فَالتُّجَّارُ الحَربِيُّونَ يُـمْنَعُونَ مِنَ التِّجَارَةِ فِي بِلَادِنَا إِلَّا بِإِذْنٍ خَاصٍّ لِلتَّاجرِ أَوِ لِلمَالِ. وَالتُّجَّارُ الـمُعَاهِدُونَ يَعَامَلُونَ حَسَبَ الـمُعَاهَدَاتِ الَّتِي بَينَنَا وَبَينَهُمْ، وَالتُّجَّارُ الَّذِينَ مِنَ الرَّعِيَّةِ يُـمْنَعُونَ مِنْ إِخْرَاجِ مَا تَحتَاجُهَ البِلَادُ مِنَ الـمَوَادِّ، وَمِنْ إِخْرَاجِ الـمَوَادِّ الَّتِي مِنْ شَأْنِـهَا أَنْ يَتَقَوَّى بِـهَا العَدُوُّ عَسْكَرِيًا، أَوْ صِنَاعِيًّا، أَو اقتِصَادِيًّا، وَلَا يُـمْنَعُونَ مِنْ إِدْخَالِ أَيِّ مَالٍ يَـمْلِكُونَهُ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الأَحْكَامِ البَلَدُ الَّذِي بَينَنَا وَبَينَ أَهْلِهِ حَرْبٌ فِعْلِيَّةٌ كَـ (إِسْرَائِيلَ) فَإِنَّهُ يَأْخُذُ أَحْكَامَ دَارِ الحَرْبِ الفِعْلِيَّةِ فِي جَمِيعِ العَلَاقَاتِ مَعَهُ، تِـجَارِيَّةً كَانَتْ أَمْ غَيرَ تِـجَارِيَّةٍ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجًا وَدُستُورًا، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَامًا لِلْحَياَة، أَيُّهَا الـمُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا الـمُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا، وَهَذِهِ هِيَ الْـمَادَّةُ الوَاحِدَةُ والسِّتُّونَ بَعْدَ الـمِائَةِ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ الـمَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
تَشْتَمِلُ هَذِهِ الـمَادَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدِهَا: أَنَّ البِضَاعَةَ تُعْتَبَرُ بِحَسَبِ تَابِعِيَّةِ التَّاجِرِ، لَا بِحَسَبِ مَنْشَأِ البِضَاعَةِ، وَالثَّانِي: اختِلَافُ أَحْكَامِ التُّجَّارِ بِاختِلَافِ تَابِعِيَّتِهِمْ، وَالثَّالِثِ: الحَالَاتُ الَّتِي يُـمْنَعُ فِيهَا التَّصْدِيرُ، وَالاستِيرَادُ.
أما الأمر الأول: وَهُوَ أَنَّ البِضَاعَةَ تُعْتَبَرُ بِحَسَبِ تَابِعِيَّةِ التَّاجِرِ، لَا بِحَسَبِ مَنْشَأِ البِضَاعَةِ، فَإِنَّ دَلِيلَهُ أَنَّ التِّجَارَةَ الخَارِجِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِـهَا أَحْكَامٌ شَرعِيَّةٌ هِيَ: أَحْكَامُ البَيعِ، وَأَحْكَامُ دُخُولِ الأَمْوَالِ مِنْ دَارِ الحَرْبِ إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ، وَخُرُوجِهَا مِنْ دَارِ الإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الحَرْبِ، وَأَحْكَامُ مَا يَنَالُ الـمُسْلِمِينَ مِنْهَا مِنْ ضَرَرٍ، وَأَحْكَامُ مَا يَتَقَوَّى بِهِ العَدُوُّ عَلَى الـمُسْلِمِينَ. وَالحُكْمُ الشَّرعِيُّ هُوَ خِطَابُ الشَّارِعِ الـمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ العِبَادِ، لِذَلِكَ كَانَتِ التِّجَارَةُ الخَارِجِيَّةُ مُتَعَلِّقَةً بِالتُّجَّارِ، وَلَيسَ بِـمَنْشَأِ البِضَاعَةِ. ذَلِكَ أَنَّ الأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الـمُتَعَلِّقَةَ بِالتِّجَارَةِ الخَارِجِيَّةِ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ أَفْرَادِ الإِنْسَانِ، وَالحُكْمُ الَّذِي نَزَلَ مُتَعَلِّقًا بِالـمَالِ إِنَّـمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ نَاحِيَةِ كَونِهِ مَـمْلُوكًا لِفَرْدٍ مُعَيَّنٍ لَا مِنْ نَاحِيَةِ كَونِهِ مَالًا فَقَطْ، أَيْ بِاعتِبَارِهِ مَالًا مَـمْلُوكًا لِفَرْدٍ مُعَيَّنٍ، لَا بِاعتِبَارِهِ مُجَرَّدَ مَالٍ، وَلِـهَذَا كَانَتِ الأَحْكَامُ الـمُتَعَلِّقَةُ بِالتِّجَارَةِ الخَارِجِيَّةِ إِنَّـمَا هِيَ الأَحْكَامُ الـمُتَعَلِّقَةُ بِالأَفْرَادِ مِنْ حَيثُ نَظَرُ الشَّرْعِ لَـهُمْ وَلِأَمْوَالِـهِمْ، أَيْ مِنْ حَيثُ حُكْمُ اللهِ فِي حَقِّهِمْ، وَمِنْ حَيثُ حُكْمُ اللهِ فِي أَمْوَالِهِمُ الـمَمْلُوكَةِ لَـهُمْ. وَمِنْ هُنَا كَانَتْ أَحْكَامُ التِّجَارَةِ الخَارِجِيَّةِ لَيْسَتْ مُتَعَلِقَّةً بِالـمَنْشَأِ، بَلْ مُتَعَلِّقَةً بِالتَّاجِرِ.
وأما الأمر الثاني: وَهُوَ اختِلَافُ أَحْكَامِ التُّجَّارِ بِاختِلَافِ تَابِعِيَّتِهِمْ، فَإِنَّ دَلِيلَهُ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ سُلَيمَانَ بْنِ بُرَيدَةَ عَنْ أَبِيهِ فِي وَصِيَّةِ الرَّسُولِ لِأُمَرَاءِ الجُيُوشِ أَنَّ الرَّسُولَ r كَانَ مِمَّا يَقُولُ لِـمَنْ يُؤَمِّرُهُ عَلَى الجَيشِ: «... ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ». (أَخْرَجَهُ مُسْلِمُ).
وَوَجْهُ الاستِدْلَالِ بِهَذَا الحَدِيثِ أَنَّ قَولَ الرَّسُولِ: «ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ». هُوَ نَصٌّ يَشْتَرِطُ التَّحَوُّلَ لِيَكُونَ لَـهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيهِمْ مَا عَلَينَا، أَيْ لِيَشْمَلَهُمْ تَطبِيقُ الدَّولَةِ الأَحْكَامَ عَلَيهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَحَوَّلُوا فَلَيسَ لَـهُمْ مَا لَنَا وَلَيسَ عَلَيهِمْ مَا عَلَينَا؛ فَلَا تُطَـبَّقُ عَلَيهِمُ الأَحْكَامُ. وَأَيضًا فَإِنَّ الرَّسُولَ اعْتَبَرَ التَّحَوُّلَ إِلَى دَارِ الـمُهَاجِرِينَ شَرْطًا فِي استِحْقَاقِهِمْ مِنَ الفَيءِ وَالغَنِيمَةِ، وَتُقَاسُ عَلَيهَا سَائِرُ الأَمْوَالِ، فَيَكُونُ مِنْ لَا يَتَحَوُّلُ لِدَارِ الـمُهَاجِرِينَ مِنْ حَيثُ حُكْمُ الـمَالِ كَغَيرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ نَاحِيَةِ حِرْمَانِهِ مِنهُ، وَهَذَا يَعنِي عَدَمَ تَطْبِيقِ الأَحْكَامِ الـمَالِيَّةِ عَلَيهِ؛ لِأَنَّهُ لَـمْ يَتَحَوَّلْ لِدَارِ الـمُهَاجِرِينَ.
وَدَارُ الـمُهَاجِرِينَ كَانَتْ دَارَ الإِسْلَامِ، وَمَا عَدَاهَا دَارَ كُفْرٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ الرَّسُولُ يَغْزُو كُلَّ بَلَدٍ غَيرَ دَارِ الـمُهَاجِرِينَ بِاعتِبَارِهَا دَارَ حَرْبَ. إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ سُكَّانُـهَا مُسْلِمِينَ لَـمْ يُقَاتِلْهُمْ، وَلَـمْ يَقْتُلْهُمْ وَإِنَّـمَا دَعَاهُمْ لِلذَّهَابِ إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانُوا غَيرَ مُسْلِمِينَ قَاتَلَهُمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ هَذَا الحَدِيثُ، وَيَدُلُّ عَلَيهِ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r إِذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ بَعْدَ مَا يُصْبِحُ». (أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ).
فَالرَّسُولُ r كَانَ يَعْتَبِرُ غَيرَ دَارِ الـمُهَاجِرِينَ، أَيْ غَيرَ دَارِ الإِسْلَامِ، دَارَ حَرْبٍ، وَلَو كَانَ يَسْكُنُهَا مُسْلِمُونَ، أَيْ دَارَ كُفْرٍ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ دَارِ الكُفْرِ مِنْ حَيثُ تَطْبِيقُ الأَحْكَامِ، وَمِنْهَا الأَحْكَامُ الـمَالِيَّةُ، وَلَا يَفْرُقُ الـمُسْلِمُونَ فِيهَا مِنْ غَيرِ الـمُسْلِمِينَ إِلَّا بِأَنَّ الـمُسْلِمِينَ لَا يُقَاتَلُونَ، وَلَا يُقْتَلُونَ، وَلَا تُؤْخَذُ أَمْوَالُـهُمْ. وَغَيرُ الـمُسلِمِينَ يُقَاتَلُونَ، وَيُقْتَلُونَ، وَتُؤْخَذُ أَمْوَالُـهُمْ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَالحُكْمُ سَوَاءٌ.
وَهَذَا هُوَ دَلِيلُ دَارِ الكُفْرِ وَدَارُ الإِسْلَامِ، فَمَنْ يَسْكُنْ دَارَ الكُفْرِ أَوْ دَارَ الحَرْبِ كَانَتْ تَابِعِيَّتُهُ تَابِعِيَّةَ كُفْرٍ؛ فَتُطَبَّقَ عَلَيهِ أَحْكَامُ دَارِ الكُفْرِ كُلِّهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ غَيرَ مُسْلِمٍ سِوَى أَنَّ الـمُسْلِمَ مَعْصُومُ الدَّمِ وَالـمَالِ. وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ التَّاجِرَ الحَرْبِيَّ مُسْلِمًا أَوْ غَيرَ مُسْلِمٍ لَا يَدْخُلُ بِلَادَنَا إِلَّا بِأَمَانٍ، لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ، وَلِأَنَّ الرَّسُولَ قَالَ: «وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ». (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ رضي الله عنه)، وَقَالَ أَيِ الرَّسُولُ r لِأُمِّ هَانِئٍ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ». (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ) فَيَحْتَاجُ دُخُولُ الحَرْبِيِّ إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ إِلَى إِعْطَائِهِ الأَمَانَ. وَمَالُهُ تَابِعٌ لَهُ يَدْخُلُ فِي أَمَانِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى أَمَانٍ خَاصٍّ بِهِ إِنْ كَانَ يُرَادُ إِدْخَالُهُ مُنْفَرِدًا عَنهُ.
وَأَمَّا الـمُعَاهِدُ فَيُسَارُ مَعَهُ حَسَبَ مُعَاهَدَتِهِ لِقَولِ اللهِ تَعَالَى: (فَأَتِمُّوا إِلَيهِمْ عَهْدَهُمْ). (التَّوبَةُ 4) وَلَا فَرْقَ فِي الـمُعَاهِدِ بَينَ الـمُسْلِمِ وَالكَافِرِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُعتَبَرُ حَرْبِيًّا، لِأَنَّهُ يـَحْمِلُ تَابِعِيَّةَ كُفْرٍ، فَيُعَامَلَ فِي الـمُعَاهَدَةِ مُعَامَلَةَ الحَرْبِي الـمُعَاهِدِ.
وَأَمَّا مَنْ يَحْمِلُ التَّابِعِيَّةَ الإِسْلَامِيَّةَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا، فَلَا يُـمْنَعُ مِنْ إِخْرَاجِ البِضَاعَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا، وَلَا مِنْ إِدْخَالِ البِضَاعَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا، وَكَذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ رُسُومُ جَمَارِكَ. أَمَّا عَدَمُ مَنْعِهِ مِنْ إِخْرَاجِ أَيَّةِ بِضَاعَةٍ، وَإِدْخَالِ أَيَّةِ بِضَاعَةٍ فَلِقَولِهِ تَعَالَى: (وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ). (البقرة 275) فَهُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ بَيعٍ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي دَارِ الإِسْلَامِ أَمْ فِي دَارِ الحَرْبِ، أَيْ يَشْمَلُ التِّجَارَةَ الخَارِجِيَّةَ، وَالتِّجَارَةَ الدَّاخِلِيَّةَ، وَلَـمْ يَرِدْ نَصّ ٌيـُخَصِّصُ هَذَا العُمُومَ، أَوْ يَـمْنَعُ الـمُسْلِمَ أَوِ الذِّمِّيَ مِنْ إِخْرَاجِ مَالٍ أَوْ إِدْخَالِ مَالٍ إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ، وَأَيْضًا هُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ الـمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ، وَلَـمْ يَرِدْ نَصٌّ يَـمنَعُ الذِّمِّيَّ، أَوْ يُـخَصِّصَ حِلَّ البَيعِ بِالـمُسْلِمِ.
وَأَمَّا عَدَمُ أَخْذِ رُسُومِ جَمَارِكَ مِنهُ، فَلِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيدٍ فِي الأَمْوَالِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: سَأَلْتُ زِيَادَ بْنَ حُدَيْرٍ: مَنْ كُنْتُمْ تَعْشُرُونَ؟ قَالَ: "مَا كُنَّا نَعْشُرُ مُسْلِمًا، وَلَا مُعَاهِدًا. قُلْتُ: فَمَنْ كُنْتُمْ تَعْشُرُونَ؟ قَالَ: تُـجَّارَ الحَرْبِ كَمَا كَانُوا يَعْشُرُونَنَا إِذَا أَتَينَاهُمْ". وَالعَاشِرُ: مَنْ يَأْخُذُ العُشْرَ عَلَى البِضَاعَةِ الَّتِي تَدْخُلُ إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ مِنْ دَارِ الحَرْبِ. فَهَذِهِ الأَدِلَّةُ عَلَى دَارِ الإِسْلَامِ، وَدَارِ الحَرْبِ، وَعَلَى عَدَمِ دُخُولِ الحَرْبِيِّ دَارَ الإِسْلَامِ إِلَّا بِأَمَانٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرا، وَمُعَامَلَةُ الـمُعَاهِدِ حَسَبَ مُعَاهَدَتِهِ، وَإِبَاحَةِ البَيعِ مُطْلَقًا لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ هِيَ أَدِلَّةُ الأَمْرِ الثَّانِي مِنَ الـمَادَّةِ.
وأما الأمر الثالث وَهُوَ الحَالَاتُ الَّتِي يُـمْنَعُ فِيهَا التَّصْدِيرُ، وَالاستِيرَادُ، فَإِنَّ دَلِيلَهُ قَاعِدَةُ (الشَّيءُ الـمُبَاحُ إِذَا كَانَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرٍ يُمْنَعُ ذَلِكَ الفَرْدُ، وَيَبْقَى ذَلِكَ الشَّيءُ مُبَاحًا) الـمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ مَنْعِ الرَّسُولِ الجَيْشَ مِنَ الشُّرْبِ مِنْ بِئْرِ ثَـمُودَ، وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى تَبُوكَ. فَكُلُّ بِضَاعَةٍ يُعْتَبَرُ إِخْرَاجُهَا مُضِرًّا بِالبِلَادِ كَالطَّعَامِ، أَوْ كَانَ إِخْرَاجُهَا يِتَقَوَّى بِهِ العَدُوُّ عَلَى الـمُسْلِمِينَ كَالسِّلَاحِ، وَكَالـمَوَادِّ الاستِرَاتِيجيَّةِ، يَـمْنَعُ إِخْرَاجُ هَذِهِ البِضَاعَةِ وَحْدَهَا، لَا فَرْقَ بَينَ أَنْ يُـخْرِجَهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أَوْ مُعَاهِدٌ أَوْ حَرْبِيٌّ. وَكَذَلِكَ إِدْخَالُ البِضَاعَةِ يَسِيرُ عَلَى هَذِهِ القَاعِدَةِ. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ البِضَاعَةُ لَا يُوجَدُ مِنْ إِخْرَاجِهَا ضَرَرٌ لَا يُـمْنَعُ إِخْرَاجُهَا، وَلَا يـُمْنَعُ إِدْخَالُـهَا عَلَى الـمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ. وَيَـجرِي فِيهَا عَلَى الحَرْبِيِّ وَالـمُعَاهِدِ حُكْمُ كُلٍّ مِنْهُمَا.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.