الإثنين، 23 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/25م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول - (ح 2) - تأملات في آية الافتتاح

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول

(ح 2)

تأملات في آية الافتتاح

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:

 

أيها المؤمنون:

 

مستمعينا الكرام مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير:

 

السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: سَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَى مَدَارِ حَلْقَاتٍ عِدَّة، بِقَدْرِ مَا يَفْتَحِ اللهُ بِهِ عَلَينَا، نَعْرِضُ عَلَيكُمْ فِي كُلِّ حَلْقَةٍ وقفة تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول. وَمَعَ الحَلْقَةِ الثانية، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "تأملات في آية الافتتاح". نَقُولُ وَبِاللهِ التَّوفِيقُ:

 

بِحَــرْفِ البَــاءِ أَبتَـــدِئُ الكِتَابَــا ... وَبِاســمِ اللهِ أَسألُــــهُ الصَّوَابَــــا

وَأمـدَحُ خَيــرَ خَلْـقِ اللهِ شِعْــرًا ... فذِكْـــرُ مُحَمَّـــدٍ يُزْكِـي الخِطَابَـا

وَحِينَ ذَكَرْتُ أحْمَدَ فِي القَوَافِـي ... رَأيتُ الشِّعْــرَ يَنْسَـابُ انسِيَابَــا

فرُوحِـي بِالصَّلاةِ عَلَيــهِ قَـــرَّتْ ... وَقَلبِــي بِالصَّلَاةِ عَلَيــهِ طَابَــــا

 

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا). (النساء ١٣٦)

 

لله در العالم الجليل من علماء حزب التحرير الذي اختار هذه الآية الكريمة؛ لتكون افتتاحية هذا الكتاب من كتب الدعوة الإسلامية التي تعنى ببناء الشخصية الإسلامية على أساس متين، من عقيدة الإسلام العظيم، أساس قوي، وراسخ، وثابت ثبوت الجبال الرواسي.

 

بدأت الآية الكريمة بهذا النداء الرباني المحبب إلى النفوس الذي يذكر المؤمن حين سماعه بتبعات الإيمان، والإيمان له عندنا تعريف جامع مانع، ألا وهو: "التصديق الجازم، المطابق للواقع، عن دليل"، والثمرة المرجوة من الإيمان هي نيل الثواب من الله تعالى. ولنيل الثواب لا بد من العمل.

 

يَقُولُ صَاحِبُ الظِّلَالِ سَيِّد قُطْب رَحِمَهُ اللهُ في مَعرِضِ تَفسِيرِهِ لِلآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ سُورَةِ العَنكَبُوتِ: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَ‌كُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ).

 

"إِنَّ الإِيمَانَ لَيسَ كَلِمَةً تُقَالُ، إِنَّما هُوَ حَقِيقَةٌ ذَاتُ تَكَالِيفَ، وَأَمَانَةٌ ذَاتُ أَعبَاء، وَجِهَادٌ يَحتَاجُ إِلَى صَبرٍ، وَجُهدٌ يَحتَاجُ إِلَى احتِمَال. فَلَا يكفِي أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: آمَنَّا. وَهُمْ لَا يُتركُونَ لِهذِهِ الدَّعوَى، حَتَّى يَتَعَرَّضُوا لِلفِتنَةِ؛ فَيثبُتُوا عَلَيهَا، وَيَخرُجُوا مِنهَا صَافِيَةً عَناصِرُهُم خَالِصَةً قُلُوبُهُم. كَما تَفتِنُ النَّارُ الذَّهَبَ؛ لِتَفصِلَ بَينَهُ وَبَينَ العَنَاصِرِ الرَّخِيصَةِ العَالِقَةِ بهِ – وَهَذَا هُو أَصلُ كَلِمَةِ (يُفْتَنُونَ) اللُّغَوِيُّ وَلَهُ دَلَالَتُهُ وَظِلُّهُ وَإِيحَاؤُهُ – وَكَذَلِكَ تَصنَعُ الفِتنةُ بِالقُلُوب".

 

ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: يَفخَرُ الْمُؤمِنُ بِعُبُودِيَّتِهِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَانتِسَابِهِ لِأُمَّةِ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَيَحمَدُ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى آلائِهِ العَظِيمَة، وَنِعَمِهِ الكَثِيرَةِ، وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ: اللهمَّ لَكَ الْحَمدُ بِالقُرآنْ، وَلَكَ الْحَمدُ بِالإِسلَامْ، وَلَكَ الْحَمدُ بِالإِيمَانْ، وَلَكَ الْحَمدُ بِالأَهلِ وَالمالِ وَالوَلَدِ، وَلَكَ الْحَمدُ بِالمُعَافَاة! اللهمَّ لَكَ الْحَمدُ بأنَّكَ أنتَ اللهُ وَحدَكَ لا شَريكَ لَكَ، وأنَّ مُحمَّداً عَبدُك وَرَسُولُك! وَرَحِمَ اللهُ مَنْ قَالَ:

 

وَمِمَّـــا زَادَنــي فَخـراً وَتِيهـاً  وَكِــدْتُ بِأَخمَصِي أَطأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِي تَحتَ قَولِكَ يَا عِبَادِي  وَأَن صَيَّـرْتَ أَحمَــدَ لي نَبِيَّـا

 

إخوة الإيمان: يَا مَن آمَنتُمْ باللهِ رَباً، وَبِالإِسلَامِ دِيناً، وَبِالقُرآنِ دُستُوراً، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِياً وَرَسُولاً. إِنَّ اللهَ جَلَّ فِي عَليَائِهِ يُنادِيكُمْ بِهَذَا النِدَاءِ القَرِيبِ إِلَى قُلُوبِكُم، وَالْمُحَبَّبِ إِلَى نُفُوسِكُمْ!

 

يُنادِيكُم بِقَولِهِ: (يَا أَيُّها الذِينَ آمنُوا). مَا أَروَعَهُ مِنْ نِدَاء!

 

إِنَّهُ يُذَكِّرُكُمْ بِإِيمانِكُم باللهِ رَبِّكُمْ، وَبِكُلِّ مَا تُؤمِنُونَ بِهِ تَبَعاً لِهذَا الإِيمانِ:

 

يُذَكِّرُكُم بِالإِيمَانِ باللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالقَضَاءِ وَالقَدَرِ خَيرِهِمَا وَشَرَّهِمَا مِنَ اللهِ تَعَالَى.

 

يُذَكِّرُكُم بِالإِيمَانِ بِاليَومِ الآخِرِ، وَمَا فِيهِ مِنَ البَعثِ وَالنُّشُورِ، وَالثَّوَابِ وَالعِقَابِ، وَالحِسَابِ وَالعَذَابِ.

 

يُذَكِّرُكُم بِالإِيمَانِ بالجنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَالنَّارِ وَجَحِيمِهَا.

 

يُذَكِّرُكُم بِكُلِّ أَركَانِ الإِيمَانِ تَذكِيراً يَدفَعُكُم إِلَى طَاعَتِهِ بِامتِثَالِ أَوَامرِهِ، وَاجتِنَابِ نَوَاهيِهِ! فَما هُوَ مَوقِفُكُمْ يَا تُرَى حِينَ تَسمَعُونَ هَذَا النِّدَاء، مِنْ رَبِّ الأَرضِ وَالسَّمَاء؟

 

كَأَنِّي بِلِسَانِ حَالِكُمْ يَقُولُ مُجِيباً نِدَاءَ اللهِ: لَبَيكَ رَبَّنَا وَسَعدَيكَ، وَالخيرُ كُلُّهُ لَدَيك! لَا مَنجَى، وَلَا مَلْجَأَ مِنكَ إِلَّا إِلَيك

 

هَذِهِ الاستِجَابَةُ السريعة لِأَمرِ اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هِيَ سِمَةُ مِنْ أَبرَزِ سِمَاتِ الْمُؤمِنينَ الصَّادِقِينَ، الْمُفلِحِينَ الفَائِزِينَ بِرِضوَانِ اللهِ رَبِّ العَالَمين القَائِلِ فِي مُحكَمِ كِتَابِهِ وَهُوَ أَصدَقُ القَائِلِينَ: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَ‌سُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٥١﴾ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَ‌سُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ). (النور52)

 

قَالَ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي جَمِيع شَرَائِع الْإِيمَان وَشُعَبِهِ وَأَرْكَانِهِ وَدَعَائِمِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَاب تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، بَلْ مِنْ بَابِ تَكْمِيلِ الْكَامِلِ، وَتَقْرِيرِهِ وَتَثْبِيتِهِ، وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ كَمَا يَقُول الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: (اِهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم) أَيْ بَصِّرْنَا فِيهِ، وَزِدْنَا هُدًى، وَثَبِّتْنَا عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ). وَقَوْلُهُ: (وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَقَولُهُ: (وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) وَهَذَا جِنْسٌ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَالَ فِي الْقُرْآن (نَزَّلَ)؛ لِأَنَّهُ نَزَلَ مُتَفَرِّقًا مُنَجَّمًا عَلَى الْوَقَائِع بِحَسَبِ مَا يَحْتَاج إِلَيْهِ الْعِبَاد فِي مَعَاشهمْ وَمَعَادهمْ، وَأَمَّا الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَكَانَتْ تَنْزِلُ جُمْلَةً وَاحِدَةً لِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (وَالْكِتَاب الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْل) ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَكْفُر بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله وَالْيَوْم الْآخِر فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) أَيْ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ طَرِيق الْهُدَى وَبَعُدَ عَنْ الْقَصْد كُلّ الْبُعْد.

 

وَجَاءَ فِي تَفسِيرِ الإِمَامِ الطَّبَرِيِّ: الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُوله وَالْكِتَاب الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُوله وَالْكِتَاب الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْل) يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاء وَالرُّسُل، وَصَدَّقُوا بِمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه. (آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ) يَقُول: صَدِّقُوا بِاَللَّهِ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولِهِ، أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُول مُرْسَل إِلَيْكُمْ وَإِلَى سَائِر الْأُمَم قَبْلكُمْ. (وَالْكِتَاب الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) يَقُول: وَصَدِّقُوا بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ الْكِتَاب الَّذِي نَزَّلَهُ اللَّه عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الْقُرْآن. (وَالْكِتَاب الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْل) يَقُول: وَآمِنُوا بِالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَبْلِ الْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَهُ عَلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَهُوَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. فَإِنْ قَالَ قَائِل: وَمَا وَجْهُ دُعَاءِ هَؤُلَاءِ إِلَى الْإِيمَان بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكُتُبه وَقَدْ سَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ؟ قِيلَ: إِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يُسَمِّهِمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا، وَذَلِكَ وَصْف لَهُمْ بِخُصُوصٍ مِنْ التَّصْدِيق، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا صِنْفَيْنِ:

 

الصِّنْفُ الأَوَّلُ: أَهْلُ تَوْرَاة مُصَدِّقِينَ بِهَا وَبِمَنْ جَاءَ بِهَا، وَهُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآن وَعِيسَى وَمُحَمَّد صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمَا.

 

وَالصِّنْفُ الثاني: أَهْلُ إِنْجِيل وَهُمْ مُصَدِّقُونَ بِهِ وَبِالتَّوْرَاةِ وَسَائِر الْكُتُب، مُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفُرْقَان. فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يَعْنِي: بِمَا هُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ مِنْ الْكُتُب وَالرُّسُل، (آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُوله) أي بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبِالقُرآنِ الَّذِي نَزَّلَه اللهُ عَلَيهِ، فَإِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ تَجِدُونَ صِفَتَهُ فِي كُتُبكُمْ، (وَالْكِتَاب الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْل) الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَكُونُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وَأَنْتُمْ بِمُحَمَّدٍ مُكَذِّبُونَ، لِأَنَّ كِتَابكُمْ يَأْمُركُمْ بِالتَّصْدِيقِ بِهِ وَبِمَا جَاءَكُمْ بِهِ، فَآمِنُوا بِكِتَابِكُمْ فِي اِتِّبَاعكُمْ مُحَمَّدًا، وَإِلَّا فَأَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. فَهَذَا وَجْه أَمْرهمْ بِالْإِيمَانِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ، بَعْد أَنْ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

 

وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَمَنْ يَكْفُر بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله وَالْيَوْم الْآخِر) فَإِنَّ مَعْنَاهُ: وَمَنْ يَكْفُر بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَجْحَدُ نُبُوَّتَهُ، فَهُوَ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله وَالْيَوْم الْآخِر، لِأَنَّ جُحُودَ الشَّيْء مِنْ ذَلِكَ بِمَعْنَى جُحُودِهِ جَمِيعِهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِيمَانُ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالْكُفْر بِشَيْءٍ مِنْهُ كُفْر بِجَمِيعِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: (وَمَنْ يَكْفُر بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله وَالْيَوْمِ الْآخِر) بِعَقِبِ خِطَابِهِ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم تَهْدِيدًا مِنْهُ لَهُمْ، وَهُمْ مُقِرُّونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة وَالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالْيَوْم الْآخِر سِوَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْفُرْقَان. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) فَإِنَّهُ يَعْنِي: فَقَدْ ذَهَبَ عَنْ قَصْد السَّبِيل، وَجَارَ عَنْ مَحَجَّة الطَّرِيق إِلَى الْمَهَالِك ذَهَابًا وَجَوْرًا بَعِيدًا، لِأَنَّ كُفْر مَنْ كَفَرَ بِذَلِكَ خُرُوج مِنْهُ عَنْ دِين اللَّه الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، وَالْخُرُوج عَنْ دِين اللَّه: الْهَلَاك الَّذِي فِيهِ الْبَوَارُ، وَالضَّلَالُ عَنِ الْهُدَى هُوَ الضَّلَال.

 

رِسَالَةُ الإِسْلَامِ رِسَالَةٌ عَالَمِيَّةٌ، وَنَبِيُّ الإِسْلَامِ بُعِثَ لِلنَّاسِ كَافَّةً، أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَدِينُ الإِسْلَامِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى الأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَالآيَاتُ فِي ذَلِكَ وَاضِحَةٌ وَصَرِيحَةٌ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). (سبأ ٢٨) وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ). (الأنبياء ١٠٧) هَذَا مَا وَرَدَ بِشَأْنِ عَالَمِيَّةِ رِسَالَةِ الإِسْلَامِ.

 

أمَّا هَيْمَنَةُ دِينِ الإِسلَامِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فَقَدْ أَكَّدَهَا اللهُ تَعَالَى بِآيَاتٍ ثَلَاثٍ:

 

الأُولَى فِي سُورَةِ التَّوبَةِ. قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). (التوبة ٣٣)

 

وَالثَّانِيَةُ بِالنَّصِّ نَفْسِهِ فِي الآيَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ سُورَةِ الصَّفِّ.

 

وَالثَّالِثَةُ فِي الآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالعِشْرِينَ مِنْ سُورَةِ الفَتْحِ قَالَ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا) (الفتح ٢٨) لِذَلِكَ فَإِنَّ الـمُهِمَّةَ الأَسَاسِيَّةَ لِلدَّولَةِ الإِسلَامِيَّةِ بَعْدَ إحسان تَطْبِيقِ أَحْكَامِ الإِسْلَامِ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الرَّعِيَّةِ فِي الدَّاخِلِ هِيَ حَمْلُ رِسَالَةِ الإِسْلَامِ إِلَى العَالَمِ فِي الخَارِجِ، وَتَبْلِيغُ دَعْوَتِهِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

 

وَقَدْ جَاءَ هَذَا النِّدَاءُ مُنْسَجِمًا مَعَ هَذَا الفَهْمِ لِعَالَمِيَّةِ الإِسلَامِ وَهَيْمَنَتِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. لَقَدِ اسْتَمَرَّ الـمُسْلِمُونَ بَعْدَ مَوتِ النَّبِي عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَمْلِ رِسَالَةِ الإِسلَامِ وَتَبلِيغِهِ لِلنَّاسِ كَافَّةَ إِلَى أَنْ هَدَمَ الكَافِرُ الـمُسْتَعْمِرُ دَولَةَ الخِلافَةِ فِي الثَّامِنِ وَالعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ عَامَ أَلْفٍ وَثَلاثِمِائَةٍ وَاثْنَينِ وَأَرْبَعِينَ هِجْرِيَّةً، الـمُوَافِقَ لِلثَّالِثِ مِنْ آذَارَ عَامَ أَلْفٍ وَتِسْعِمِائَةٍ وَأَربَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِيلادِيَّة، وَجَاءَ هَذَا الكَافِرُ بِحُكَّامٍ أَذْنَابٍ تَابِعِينَ لَهُ سَلَّطَهُمْ عَلَى رِقَابِ الـمُسْلِمِينَ، مَزَّقُوهُمْ شَرَّ مُمَزَّقٍ، أَهَانُوهُمْ، وَأَذَلُّوهُمْ، وَأَجَاعُوهُمْ، وَعَطَّلُوا شَرِيعَةَ اللهِ، وَجَعَلُوا ثَروَاتِهِمْ وَخَيرَاتِهِمُ الَّتِي حَبَّاهُمُ اللهُ بِهَا نَهْبًا مُوَزَّعًا وَمُقَسَّمًا لِلكُفَّارِ الـمُجْرِمِينَ. اللَّهُمَّ نَسأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ الحُسْنَى وَبِصِفَاتِكَ العُلْيَا أَنْ تُهَيِّئَ لِهَذَا الدِّينِ مَنْ يَرفَعُ رَايَتَهُ، وَيُحَقِّقُ غَايَتَهُ، وَيُطبِّقُ شَريعَتَهُ.

 

أيها المؤمنون:

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

 

فقرة للتأمل والتدبر:

 

الفرق بين (نَزَّلَ) و (أنْزَلَ) في القرآن الكريم

 

يقول الله تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ). (آل عمران 3) ‎ويقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ). (النساء 136)

 

كل زيادة في المبنى تتبعها زيادة في المعنى. ومن تأمل كلام العرب بان له ذلك؛ فمن شواهد ذلك ألفاظ فعل نزول الكتب السماوية. فمرة ترد بلفظ (أنْزَلَ) بزنة (أفْعَلَ) ومرة ترد بلفظ (نَزَّلَ) بزنة (فَعَّلَ). ولكل من الصيغتين معنىً زائدًا يخالف معنى الصيغة الأخرى، وإن اتفقا في المعنى الأصلي للنزول؛ فما كان بزنة (أفْعَلَ) يدل على النزول دفعة واحدة، وما كان بزنة (فَعَّلَ) يدل على تكرار النزول وتتابعه؛ لأن صيغة (أفْعَلَ) من معانيها في اللغة العربية الدلالة على حدوث الفعل دفعة واحدة. وصيغة (فَعَّلَ) تدول على تكرار حدوث الفعل.

 

فقولك مثلا:"أَعْلَمْتُ زَيدًا المَسأَلَةَ". يفيد بأنك أفدته به مرة واحدة. بينما قولك: "عَلَّمْتُ زَيدًا الفِقْهَ". يفيد بأنك أفدته به على مراحل. فصيغة (أنْزَلَ) تدل على نزول الكتب السماوية السابقة جملة واحدة. بينما استخدم صيغة (نَزَّلَ) حينما تكلم عن القرآن الكريم؛ لأنه تَنَزَّلَ منجمًا في ثلاث وعشرين سنة. ونعلم أن القرآن الكريم نزل دفعة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر حينها نراه استخدم صيغة (أنْزَلَ) كما في قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر). وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة). وقوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن).

 

آخر تعديل علىالجمعة, 24 آذار/مارس 2023

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع