- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول
(ح 6)
التلقي الفكري يكوّن عقلية الإنسان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
أيها المؤمنون:
أحبتنا الكرام :
السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا:"وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةِ، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "التلقي الفكري يُكوِّن عقلية الإنسان".
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "ومن هنا كان من المحتم على الشخص أن يتلقى الكلام تلقيًا فكريًا، سواءً قرأه أو سمعه. أي أن يفهم معاني الجمل كما تدل عليه من حيث هي لا كما يريدها لافظها أو يريدها هو أن تكون. وأن يدرك في نفس الوقت واقع هذه المعاني في ذهنه إدراكًا يشخِّص له هذا الواقع، حتى تصبح هذه المعاني مفاهيم. فالمفاهيم هي المعاني المدرك لها واقع في الذهن سواء أكان واقعًا محسوسًا في الخارج أم واقعًا مسلمُا به أنه موجود في الخارج تسليمًا مبنيًا على واقع محسوس. وما عدا ذلك من معاني الألفاظ والجمل لا يسمى مفهومًا، وإنما هو مجرد معلومات.
وتتكون هذه المفاهيم من ربط الواقع بالمعلومات، أو من ربط المعلومات بالواقع، وبتبلور هذا التكوين حسب القاعدة أو القواعد التي يجري عليها قياس المعلومات والواقع حين الربط. أي حسب عقله للواقع والمعلومات حين الربط، أي حسب إدراكه لها. فتوجد بذلك للشخص عقلية تفهم الألفاظ والجمل، وتدرك المعاني بواقعها المشخّص، وتصدر حكمها عليه".
وعلى ذلك فالعقلية هي الكيفية التي يجري عليها عقلُ الشيء، أي إدراكه. وبعبارة أخرى هي الكيفية التي يربط فيها الواقع بالمعلومات، أو المعلومات بالواقع بقياسها على قاعدة واحدة أو قواعد معينة. ومن هنا يأتي اختلاف العقليات كالعقلية الإسلامية، والعقلية الشيوعية، والعقلية الرأسمالية، والعقلية الفوضوية، والعقلية الرتيبة. أما نتائج هذه المفاهيم فإنها هي التي تعيِّن سلوك الإنسان نحو الواقع المدرك، وتعيِّن له نوع الميل لهذا الواقع من الإقبال عليه أو الإعراض عنه، وتجعل له ميلاً خاصاً وذوقاً معيناً".
ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: ثمة فرق بين المفاهيم والمعلومات:
أولا: المفاهيم هي المعاني المدرك لها واقع في الذهن. سواء أكان واقعا محسوسًا في الخارج كما لو سمعنا صوتا فقلنا: "هذا صوت طائرة" فيجري في الذهن إدراك واقع الطائرة، وصورتها وهي تطير في السماء، وينبعث منها صوت محركها. أو واقعا مسلمًا بوجوده تسليمًا مبنيًا على واقع محسوس كما لو أحسسنا بارتفاع حرارة الجو؛ فطالبنا بتشغيل مكيف الهواء، فيجري في الذهن التسليم بوجود الشمس، وارتفاع درجة حرارتها.
ثانيا: المعلومات: هي معاني الألفاظ والجمل: فمثلا نقول: "نار جهنم أشد حرًا من نار الدنيا" أي أن نار الدنيا مع شدة حرارتها يمكن للإنسان أن يطيق حرارتها، وأن يصنع مطافئ لإخماد الحرائق، أو يصنع مراوح ومكيفات تقيه من شدة حرارتها. أما نار جهنم فهي شديدة الحرارة لا تطيق أجساد البشر تحملها، ولا يستطيع الإنسان عمل شيء للتخلص من حرها - وقانا الله وإياكم منها -.
ونقول: "متاع الدنيا زائل، ونعيمها لا يدوم، ونعيم الجنة دائم لا يزول" أي أن حياة البشر في الدنيا محدودة ونعيمها زائل، وحياتهم في الآخرة أبدية خالدة، ونعيم الآخرة دائم لا يزول.
والسؤال الأول الذي ينبغي أن يسأل الآن هو: كيف تتكون المفاهيم؟؟ والجواب: تتكون المفاهيم من ربط الواقع بالمعلومات ففي المثال الأول تم ربط واقع نار الدنيا، ونار جهنم وشدة حرارة كل منهما بالمعلومات المكونة في عقولنا عن هاتين النارين. وبهذا يتكون لدى المؤمن مفهوم مفاده أن الإنسان يقوى على تحمل نار الدنيا، ولا يقوى على تحمل نار جهنم، فيكيف سلوكه، ويوطن نفسه على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وتحمل الشدائد، والصبر على المكاره، والحرص على فعل الخيرات التي تقربه من الجنة، وتبعده عن النار. وترك المنكرات التي تقربه من النار، وتبعده عن الجنة.
وفي المثال الثاني تم ربط واقع متاع ونعيم الدنيا، وواقع متاع ونعيم الآخرة بمعلوماتنا المكونة في أذهاننا عن محدودية وزوال نعيم الدنيا، وديمومة وخلود نعيم الآخرة. وبهذا يتكون لدى المؤمن مفهوم مفاده أن الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، فيحرص كل الحرص على التقرب إلى الله تعالى بالأفعال والأقوال وكل ما يؤدي به إلى الفوز بالجنة ونعيمها، والنجاة من النار وجحيمها.
وبناء على ذلك يمكننا أن نقول بملء الفم جازمين: إن كل من لا يعمل جاهدًا للفوز بالجنة، والنجاة من النار، كل من لا يعمل لمرضاة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ فهو لم يتلق أفكار الإسلام تلقيًا فكريًا على أنها مفاهيم يؤمن بها إيمانًا جازمًا راسخًا يؤثر في سلوكه، فهو لا زال بحاجة إلى من يجدد له إيمانه، ويرسخ عقيدته.
وبتبلور هذا التكوين للمفاهيم حسب القاعدة أو القواعد التي يجري عليها قياس المعلومات والواقع حين الربط. أي حسب عقله للواقع والمعلومات حين الربط، أي حسب إدراكه لها. فتوجد بذلك للشخص عقلية تفهم الألفاظ والجمل، وتدرك المعاني بواقعها المشخّص، وتصدر حكمها عليه.
والسؤال الثاني الذي ينبغي أن نسأله هو: ماذا نعني بالعقلية؟ تقول العامة من الناس: "العقل في الرأس". وتقول: "كل إنسان عقله في رأسه، ويعرف خلاصه". وهذان القولان خطأ محض؛ لأن الرأس فيه الدماغ فقط، والعملية العقلية حتى تتم تحتاج بالإضافة إلى الدماغ الصالح للربط إلى أشياء ثلاثة أخرى، وهي: الواقع المحسوس، والحواس، والمعلومات السابقة. وإذا فقد أي عنصر من هذه العناصر الأربعة، فإن العملية العقلية لا تتم.
وقد سبق أن قلنا: "إن العقل، والتفكير، والإدراك، هذه ألفاظ ثلاثة لمسمى واحد". وقد وضع له الشيخ تقي الدين النبهاني تعريفًا خاصًا به، وكان تعريفه جامعًا مانعًا متكاملا. وقد تفرد الشيخ به حيث لم يفكر أحد من العلماء المسلمين قبله في إيجاد تعريف للعقل، بل فكر أحد المفكرين الشيوعيين المنكرين لوجود خالق لهذا الكون، فقد عرف العقل بأنه: "انعكاس المادة على الدماغ".
والحق أننا لكي نكون منصفين نقول: إن الشيوعيين قد وصلوا إلى منتصف الطريق في تعريفهم للعقل، فقد ذكروا ركنين اثنين من الأركان الأربعة اللازمة لعملية التفكير، ذكروا المادة، ويقصدون بها الواقع المحسوس، وذكروا الدماغ. أما الشيخ تقي الدين النبهاني العالم الجليل والمفكر السياسي المبدع - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - فقد عرف العقل والتفكير والإدراك بأنه: "نقل الإحساس بالواقع إلى الدماغ الصالح للربط عن طريق إحدى الحواس مع وجود معلومات سابقة يفسر بها هذا الواقع". وبذلك اكتملت عناصر التفكير الأربعة:
- الواقع المحسوس.
- الإحساس بالواقع عن طريق إحدى الحواس الخمسة.
- دماغ صالحة للربط.
- معلومات سابقة يفسر بوساطتها الواقع.
وقد كان الشيخ تقي الدين النبهاني دقيقا في وصفه لعملية التفكير بأنها: "نقل الإحساس بالواقع". بينما أخطأ الشيوعيون بقولهم: "انعكاس المادة على الدماغ". فلا المادة تنعكس على الدماغ، ولا الدماغ ينعكس على المادة. أما عدم ذكرهم للمعلومات السابقة في تعريفهم فسببه إنكارهم لوجود الخالق المدبر الذي علم آدم الأسماء كلها، وزوده بالمعلومات السابقة. ولم يذكروا في تعريفهم الحواس الحواس صراحة، وإذا قصدوا رؤية الأشياء بالعين فأن ما يحدث في العين - كما هو معروف عند علماء البصريات وكما تعلمنا من أساتذة العلوم - ليس انعكاسًا إنما هو انكسار الأشعة الضوئية على الشبكية.
وعلى ذلك فالعقلية لها تعريف خاص عندنا، وهي الكيفية التي يجري عليها عقلُ الشيء، أي إدراكه. وبعبارة أخرى هي الكيفية التي يربط فيها الواقع بالمعلومات، أو المعلومات بالواقع بقياسها على قاعدة واحدة أو قواعد معينة.
والسؤال الثالث الذي يبرز الآن هو: من أين يأتي اختلاف العقليات كالعقلية الإسلامية، والعقلية الشيوعية، والعقلية الرأسمالية، والعقلية الفوضوية، والعقلية الرتيبة. والجواب أن اختلاف العقليات ناتج عن الكيفية التي يتم فيها ربط الواقع بالمعلومات أو المعلومات بالواقع بقياسها إلى القاعدة الفكرية أي إلى العقيدة التي يؤمن بها المرء.
والسؤال الرابع: ما نتائج هذه المفاهيم؟ والجواب هو أن هذه المفاهيم هي التي تعيِّن سلوك الإنسان نحو الواقع المدرك، وتعيِّن له نوع الميل لهذا الواقع من الإقبال عليه أو الإعراض عنه، وتجعل له ميلاً خاصًا وذوقًا معينًا.
وقد درسنا في كتاب نظام الإسلام أن الفكرَ هو الذي يوجِدُ المفاهيمَ عنِ الأشياءِ، ويركِّزُ هذِهِ المفاهيمَ. والإنسانُ يُكَيِّفُ سلوكَهُ ِفي الحياةِ بِحَسَبِ مفاهيمِهِ عَنْهَا، فمفاهيمُ الإنسانِ عَنْ شخصٍ يُحِبُّهُ تُكيِّفُ سلوكَه نَحْوَه، على النَّقِيضِ مِنْ سلوكِهِ مَعَ شَخْصٍ يُبغِضُهُ وعندَهُ مفاهيمُ البُغْضِ عَنْهُ، وعلى خِلافِ سلوكِهِ مع شخصٍ لا يعرفُهُ ولا يُوجَدُ لَدَيْهِ أيُّ مفهومٍ عَنْه، فالسلوكُ الإنسانيُّ مربوطٌ بمفاهيمِ الإنسانِ، وعندَ إرادتِنَا أَنْ نغيِّرَ سلوكَ الإنسانِ المنخفِضِ ونجعلَهُ سلوكاً راقياً لا بدَّ مِنْ أَنْ نغيِّرَ مفهومَهُ أَوَّلاً: قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقومٍ حتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ).
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم ، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.