- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح 121) الِاستحسانُ ليسَ منَ الأدلةِ الشرعيةِ المعتبرة
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الحَادِيَةِ والعِشْرِينَ بَعدَ الـمَائَةِ, وَعُنوَانُهَا: "مَشرُوعُ الدُّستُورِ - نِظَامُ الحُكْمِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الرَّابِعَةِ وَالتِّسعِينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 12: الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالقِيَاسُ هِيَ وَحْدَهَا الأَدِلَّةُ الـمُعتَبَرَةُ لِلأَحْكَامِ الشَّرعِيَّةِ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ حَتَّى يَدرُسَهُ الـمُسلِمُونَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ لإِقَامَتِهَا, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيهِمْ, وَهَذِهِ هي الـمَادَّةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ.
يُتَابِعُ الشَّيخُ - رَحِمَهُ اللهُ - بَيَانَ الأَدِلَّةِ غَيرِ الـمُعتَبَرَةِ لِلأَحْكَامِ الشَّرعِيَّةِ, وَمِنهَا الاستِحْسَانُ, وَإِلَيكُمْ بَيَانَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُـوا: إِنَّ الاستِحْسَانَ مِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَـمْ يَستَطِيعُوا الإِتيَانَ لَهُ بِدَلِيلٍ مِنَ الشَّرعِ حَتَّى وَلَا دَلَيلٍ ظَنِّيٍّ. وَقَد فُسِّرَ الاستِحْسَانُ عِندَ مَنْ يَقُولُ بِهِ دَلَيلاً شرعياً بِأَنَّهُ دَلِيلٌ يَنقَدِحُ فِي نَفْسِ الـمُجْتَهِدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِهِ لِعَدَمِ مُسَاعَدَةِ العِبَارَةِ عَنهُ. وَفُسِّرَ أَيضاً بِأَنَّهُ تَركُ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الاجتِهَادِ غَيرَ شَامِلٍ شُمُولَ الأَلفَاظِ لِوَجْهٍ أَقْوَى مِنهُ يَكُونُ كَالطَّارِئِ عَلَى الأَوَّلِ.
وَفُسِّرَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ العُدُولُ بِالـمَسأَلَةِ عَنْ حُكْمِ نَظَائِرِهَا إِلَى حُكْمٍ آخَرَ لِوَجْهٍ أَقْوَى يَقتَضِي هَذَا العُدُولَ. وَفُسِّرَ أَيضًا بِأَنَّهُ قَطْعُ الـمَسأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا. وَقَسَّمُوا الاستِحْسَانَ إِلَى قِسمَينِ:
أَحَدِهِمَا: الاستِحْسَانُ القِيَاسِيِّ. وَالثَّانِي: استِحْسَانُ الضَّرُورَةِ.
أَمَّا الاستِحْسَانُ القِيَاسِيُّ فَهُوَ أَنْ يُعدَلَ بِالـمَسأَلَةِ عَنْ حُكْمِ القِيَاسِ الظَّاهِرِ الـمُتَبَادَرِ فِيهَا إِلَى حُكْمٍ مُغَايِرٍ بِقِيَاسٍ آخَرَ هُوَ أَدَقُّ وَأَخْفَى، لَكِنَّهُ أَقْوَى حُجَّةً, وَأَسَدُّ نَظَراً وَأَصَحَّ استِنتَاجاً.
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوِ اشتَرَى شَخْصٌ سَيَّارَةً مِنَ اثنَينِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ دَيناً لَـهُمَا، فَقَبَضَ أَحَدُ الدَّائِنَينِ قِسْماً مِنْ هَذَا الدَّينِ فَإِنِّهُ لَا يَحِقُّ لَهُ الاختِصَاصُ بِهِ، بَلْ لِشَرِيكِهِ فِي الدَّينِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِحُصَّتِهِ مِنَ الـمَقبُوضِ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ مُشتَرَكٍ بِيعَ صَفْقَةً وَاحِدَةً، يَعنِي أَن قَبْضَ أَيٍّ مِنَ الشَّرِيكَينِ مِنْ ثَمَنِ الـمَبِيعِ الـمُشتَرَكِ بَينَهُمَا هُوَ قَبْضٌ لِلشَّرِيكَينِ، أَيْ قَبْضٌ لِلشَّرِكَةِ, وَلَيسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ. فَإِذَا هَلَكَ هَذَا الـمَقبُوضُ فِي يَدِ القَابِضِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّرِيكُ الثَّانِي حُصَّتَهُ مِنهُ، فَإِنَّ مُقتَضَى القِيَاسِ أَنْ يَهْلَكَ مِنْ حِسَابِ الاثنَينِ أَيْ مِنْ حِسَابِ الشَّرِكَةِ، وَلَكِنْ فِي الاستِحْسَانِ يُعتَبَرُ هَالِكاً مِنْ حُصَّةِ القَابِضِ فَقَطْ، وَلَا يُحْسَبُ الهَالِكُ عَلَى الشَّرِيكِ الثَّانِي استِحْسَاناً؛ لِأَنَّهُ فِي الأَصْلِ لَـمْ يَكُنْ مُلْزَماً بِمُشَارَكَةِ القَابِضِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الـمَقبُوضَ لِلقَابِضِ وَيُلَاحِقَ الـمَدِينَ بِحُصَّتِهِ. وَهَكَذَا بَاقِي الأَمثِلَةِ.
هَذَا هُوَ الاستِحْسَانُ القِيَاسِيُّ. وَأَمَّا استِحْسَانُ الضَّرُورَةِ فَهُوَ مَا خُولِفَ فِيهِ حُكْمُ القِيَاسِ نَظَراً إِلَى ضَرُورَةٍ مُوجِبَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ مُقتَضِيَةٍ سَدّاً لِلحَاجَةِ أَوْ دَفْعاً لِلحَرَجِ، وَذَلِكَ عِندَمَا يَكُونُ الحُكْمُ القِيَاسِيُ مُؤَدِّياً لِحَرَجٍ أَوْ مُشكِلَةٍ فِي بَعْضِ الـمَسَائِلِ، فَيُعدَلُ حِينَئِذٍ عَنهُ استِحْسَاناً إِلَى حُكْمٍ آخَرَ يَزُولُ بِهِ الحَرَجُ وَتَندَفِعُ بِهِ الـمُشكِلَةُ.
مثال ذلك: الأجيرُ، فَإِنَّهُ تُعتَبَرُ يَدُهُ عَلَى مَا استُؤجِرَ لَهُ يَدَ أَمَانَةٍ، فَلَا يَضْمَنُ إِذَا تَلِفَ عِندَهُ مِنْ غَيرِ تَعَدٍّ مِنهُ. فَلَو استُؤجِرَ شَخْصٌ لِيَخِيطَ لآخَرَ ثِيَاباً فِي مَنْزِلِهِ مُدَّةَ شَهْرٍ, فَهُوَ أَجِيرٌ خَاصٌّ، فَإِذَا تَلِفَتِ الثِّيَابُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيرِ تَعَدٍّ مِنهُ لَـمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ. وَلَو استُؤْجِرَ شَخْصٌ لِيَخِيطَ فِي دُكَّانِهِ ثَوبًا لِآخَرَ, وَكَانَ يَخِيطُ الثِّيَابَ لِجَمِيعِ النَّاسِ, فَهُوَ أَجِيرٌ عَامٌّ، فَإِذَا تَلِفَ الثَّوبُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيرِ تَعَدٍّ مِنهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَذَلِكَ يَدُ أَمَانَةٍ. وَلَكِنْ فِي الاستِحْسَانِ لَا يَضْمَنُ الأَجِيرُ الخَاصُّ وَيَضْمَنُ الأَجِيرُ العَامُّ؛ كِي لَا يَقْبَلَ أَعْمَالاً أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ فَيُتلِفَ أَمْوَالَ النَّاسِ.
هَذِهِ خُلَاصَةُ الاستِحْسَانِ, وَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ لَهُ، وَظَاهِرٌ فِيهَا أَنَّهَا لَيسَتْ أَدِلَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ تَعلِيلَاتٍ عَقْلِيَّةٍ، فَلَا هِيَ مِنَ الكِتَابِ، وَلَا مِنَ السُّنَّةِ، فَهِيَ لَـمْ تَرْقَ إِلَى أَنْ تَكُونَ أَدِلَّةً ظَنِّيَّةً فَضْلاً عَنْ كَونِهَا أَدِلَّةً قَطعِيَّةً عَلَى أَنَّ الاستِحْسَانَ مِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ. هَذَا مِنْ جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ مَا أَتَوا بِهِ مِنَ التَّعْلِيلَاتِ العَقْلِيَّةِ فَهِيَ أَيضاً بَاطِلَةٌ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَفْسِيرَاتِ الاستِحْسَانِ فَإِنَّهَا كُلَّهَا بَاطِلَةٌ. أَمَّا التَّفسِيرُ الأَوَّلُ، فَلِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي انَقَدَحَ فِي ذِهْنِ الـمُجتَهِدِ وَلَا يَدرِي مَا هُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعتَبَرَ دَلِيلًا مَا دَامَ لَا يَعْرِفُ مَا هُوَ، فَإِنَّ عَدَمَ القُدْرَةِ عَلَى إِظْهَارِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ بَلْوَرَتِهِ لَدَيهِ, وَعَلَى عَدَمِ دِرَايَتِهِ بِهِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ. وَأَمَّا التَّفْسِيرَاتُ البَاقِيَّةُ، فَإِنَّ مَعنَاهَا وَاحِدٌ وَهُوَ العُدُولُ بِالـمَسأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا إِلَى وَجْهٍ أَقْوَى، أَيِ العُدُولُ عَنِ القِيَاسِ لِدَلِيلٍ أَقْوَى. وَهَذِهِ التَّفْسِيرَاتِ إِنْ كَانَ يُرَادُ مِنَ الدَّلِيلِ الأَقْوَى نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ أَو سُنَّةٍ فَهَذَا لَيسَ استِحْسَاناً, وَإِنَّما هُوَ تَرجِيحٌ لِلنَّصِّ، فَهُوَ استِدلَالٌ بِالنَّصِّ، فَيَكُونُ استِدْلَالاً بِالكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَلَا يَكُونُ استِدْلَالاً بِالاستِحْسَانِ.
وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ الأَقْوَى هُوَ العَقْلَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ مَصْلَحَةٍ, وَهُوَ مَا قَصَدُوهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ القِيَاسَ مَبنِيٌّ عَلَى عِلَّةٍ شَرعِيَّةٍ ثَابِتَةٍ بِالنَّصِّ، وَهُوَ خِطَابُ الشَّارِعِ لَنَا. وَالعَقْلُ وَالـمَصْلَحَةُ لَيسَا نَصّاً, وَلَا عِلَّةً أُخرَى أَقْوَى مِنهُ، بَلْ لَا عَلَاقَةَ لِلعَقْلِ, وَلَا لِلمَصْلَحَةِ بِالنَّصِّ الشَّرعِيِّ، أَيْ بِمَا جَاءَ بِهِ الوَحْيُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا العُدُولُ بَاطِلا.
هَذَا مِنْ نَاحِيَةِ التَّفسِيرَاتِ، أَمَّا مِنْ نَاحِيَةِ أَقْسَامِ الاستِحْسَانِ، فَإِنَّ الاستِحْسَانَ القِيَاسِيَّ يَظهَرُ بُطلَانُهُ مِنْ بُطلَانِ التَّفسِيرَاتِ الثَّانِيَةِ, وَهِيَ العُدُولُ بِالـمَسأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا، وَأَيضاً فَإِنَّ اعتِبَارَهُمْ لَهُ أَنَّهُ قِيَاسٌ خَفِيٌّ- بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالقِيَاسِ، وَإِنَّما هُوَ تَعلِيلٌ مَصْلَحِيٌّ. فَمِثَالُ ثَمَنِ الـمَبِيعِ الـمُشتَرَكِ بَيعُ صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَختَلِفَ فِيهِ الحُكْمُ فِي هَلَاكِ الـمَالِ الَّذِي قَبَضَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَينِ بِأَنَّهُ هَلَاكٌ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ عَنْ قَبضِ أَحَدِ الشَّرِيكَينِ لِلمَالِ بِأَنَّهُ قَبْضٌ لِلشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الـمَالَ سَوَاءٌ أَكَانَ السَّيَّارَةَ الـمَبِيعَةَ أَمْ ثَمَنَهَا، مَـالُ الشَّـرِكَةِ, وَلَيسَ مَالَ أَحَـدِ الشَّرِيكَينِ، فَهَلَاكُهُ هَلَاكٌ لِمَالِ الشَّرِكَةِ كَمَا أَنَّ قَبْضَهُ قَبْضٌ لـمَالِ الشَّرِكَةِ. فَهَذَا العُدُولُ الـمَصْلَحِيُّ لَا مَحَل لَهُ, وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّرعِ.
وَأَمَّا استِحْسَانُ الضَّرُورَةِ فَبُطلَانُهُ ظَاهِرٌ بِأَنَّهُ يَحكُمُ فِيهِ العَقْلُ, وَمَا يَرَاهُ مِنْ مَصْلَحَةٍ, وَلَيسَ النَّصُّ الشَّرعِيُّ، وَيُرَجَّحُ عَلَى العِلَّةِ المأْخُوذَةِ مِنَ النَّصِّ الشَّرعِيِّ، أَيْ يُرَجَّحُ عَلَى مَعقُولِ النَّصِّ الشَّرعِيِّ. وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ وَلَا كَلَامَ. ثُمَّ إِنَّ جَعْلَ الأَجِيرِ الـمُشتَرَكِ يَضْمَنُ, وَالأَجِيرِ الخَاصِّ لَا يَضْمَنُ تَرجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ وَمُخَالَفَةٌ لِلنَّصِّ الشَّرعِيِّ.
فَالرَّسُولُ r يَقُولُ فِيمَا أَخرَجَهُ البَيهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الكُبْرَى عَنْ عَمْروٍ بنِ شُعَيبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «ثُمَّ لاَ ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ»، وَكَذَلِكَ أَخرَجَ البَيهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الكُبرَى عَنِ القَاسِمِ بْنِ عَبدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَلِيّاً وَابنَ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَا: (لَيسَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ ضَمَانٌ).
وَأَخْرَجَ كَذَلِكَ فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَضَى فِي وَدِيَعَةٍ كَانَتْ فِي جِرَابٍ فَضَاعَتْ مِنْ خَرْقِ الجِرَابِ أَنْ لَا ضَمَانَ فِيهَا. فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ كَانَ أَمِيناً عَلَى عَينٍ مِنَ الأَعيَانِ مُطلَقاً؛ لِأَنَّ تَعبِيرَ الحَدِيثِ بِلَا النَّافِيَةِ لِلجنْسِ "لَا ضَمانَ" يَدُلُّ عَلَى العُمُومِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ مُؤتَمَنٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَجِيراً خَاصّاً أَمْ أَجِيراً عَامّاً. وَبِهَذَا يَظهَرُ أَنَّ الاستِحْسَانَ لَيسَ مِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرِعِيَّةِ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعتَبَرَ مِنَ الأَدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَـمْ يَأْتِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الأَدِلَّةِ، لَا مِنَ الكِتَابِ، وَلَا مِنَ السُّنَّةِ, وَلَا مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، لَا دَلِيلٌ ظَنِّيٌ، وَلَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، فَضْلاً عَنْ سُقُوطِ مَا استَدَلُّوا بِهِ لَهُ مِنَ الاستِدلَالِ العَقْلِيِّ، وَفَضلاً عَنْ مُخَالَفَةِ بَعْضِ أَمثِلَتِهِ لِنُصُوصِ الشَّرعِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.