- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
( ح148 ) للخليفة مطلق الصلاحية في رعاية شؤون الرعية
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّامِنَةِ وَالأَربَعِينَ بَعدَ المِائَةِ, وَعُنوَانُهَا: "للخَلِيفَةِ مُطْلَقُ الصَّلَاحِيَّةِ فِي رِعَايَةِ شُؤُونِ الرَّعِيَّةِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الـمِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 38-لِلخَلِيفَةِ مُطْلَقُ الصَّلَاحِيَّةِ فِي رِعَايَةِ شُؤُونِ الرَّعِيَّةِ حَسَبَ رَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ. فَلَهُ أَنْ يَتَبَنَّى مِنَ الـمُبَاحَاتِ كُلَّ مَا يَحتَاجُ إِلَيهِ لِتَسْيِيرِ شُؤُونِ الدَّولَةِ، وَرِعَايَةِ شُؤُونِ الرَّعِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ أَيَّ حُكْمٍ شَـرعِيٍّ بِحُـجَّـةِ الـمَصلَحَةِ، فَلَا يَمنَعُ الأُسرَةَ الوَاحِدَةَ مِنْ إِنجَابِ أَكْثَرَ مِنْ وَلَدٍ وَاحِدٍ بِحُجَّةِ قِلَّةِ الـمَوَادِّ الغِذَائِيَّةِ مَثَلًا، وَلَا يُسَعِّرُ عَلَى النَّاسِ بِحُجَّةِ مَنعِ الاستِغلَالِ مَثَلًا، وَلَا يُعَيِّنُ كَافِرًا أَوِ امرَأَةً وَالِيًا بِحُجَّةِ رِعَايَةِ الشُّؤُونِ أَوِ الـمَصلَحَةِ، وَلَا غَيرَ ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِفُ أَحْكَامَ الشَّرعِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ حَلَالًا وَلَا أَنْ يُحِلَّ حَرَامًا.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: أَيُّهَا الصَّائِمُونْ, يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ, يَا أُمَّةَ القُرآنْ, يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ, يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ, يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبًّا, وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا, وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجًا وَدُستُورًا, وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَامًا لِلْحَياَة,ِ أَيُّهَا الـمُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ, فَوقَ كُلِّ أَرضٍ, وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ, يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ, أَيُّهَا الـمُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ.
أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا, وَهَذِهِ هِيَ الـمَادَّةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ الـمَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ, وهِيَ عَلَى النَّحْوِ الآتِي:
هَذِهِ الـمَادَّةُ دَلِيلُهَا قَولُهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْـئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ. وَدَلِيلُهَا أَيضًا الأَحكَامُ الَّتِي أَعطَاهَا الشَّرعُ لِلخَلِيفَةِ مِثْلُ تَصَرُّفِهِ فِي أموَالِ بَيتِ الـمَالِ الـمَوكُولِ لِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ، وَمِثلُ إِلزَامِ النَّاسِ بِرَأيٍ مُعَيَّنٍ فِي الـمَسأَلَةِ الوَاحِدَةِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ. فَإِنَّ هَذَا الحَدِيثَ يُعطِيهِ حَقَّ رِعَايَةِ شُؤُونِ الرَّعِيَّةِ بِشَكْلٍ مُطلَقٍ دُونَ أَيِّ قَيدٍ فِي أَنوَاعِ الرِّعَايَةِ، وَأَحكَامِ بَيتِ الـمَالِ وَالتَّبَنِّي وَتَجهِيزِ الجَيشِ وَتَعيِينِ الوُلَاةِ وَغَيرِ ذَلِكَ مِمَّا جُعِلَ لِلخَلِيفَةِ قَد جُعِلَ لَهُ بَشَكْلٍ مِنْ غَيرِ قَيدٍ أَيْ فِي كُلِّ الأَنوَاعِ. وَطَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَاجبَةٌ وَمَعصِيَتُهُ إِثْمٌ. إِلَّا أَنَّ القِيَامَ بِهَذِهِ الرِّعَايَةِ يَجِبُ أَنْ يَجرِيَ حَسَبَ أَحكَامِ الشَّرعِ أَيْ حَسَبَ النُّصُوصِ الشَّرعِيَّةِ. فَالصَّلَاحِيَّةُ وَإِنْ أُعطِيَتْ لَهُ مُطْلَقَةً, وَلَكِنَّ إِطلَاقَهَا قَدْ قُيِّدَ بِالشَّرعِ أَيْ بِأَن تَكُونَ حَسَبَ أَحكَامِ الشَّرعِ.
فَمَثَلًا قَدْ جُعِلَتْ لَهُ صَلَاحِيَّةُ تَعيِينِ الوُلَاةِ كَمَا يَشَاءُ, وَلَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَيِّنَ الكَافِرَ أَوِ الصَّبِيَّ أَو الـمَرأَةَ وَالِيًا؛ لِأَن الشَّرعَ مَنَعَ ذَلِكَ. وَمَثَلًا لَهُ أَنْ يَسمَحَ بِفَتْحِ سَفَارَاتٍ لِلدًّوَلِ الكَافِرَةِ فِي البِلَادِ الَّتِي تَحْتَ سُلطَانِهِ, وَقَدْ أُعطِيَ ذَلِكَ بِشَكْلٍ مُطلَقٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْمَحَ بِفَتْحِ سَفَارَةٍ لِدَولَةٍ كَافِرَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَتَّخِذَ السَّفَارَةَ أَدَاةً لِلسَّيطَرَةِ عَلَى بِلَادِ الإِسلَامِ، لِأَنَّ الشَّرعَ مَنَعَ ذَلِكَ.
وَمَثَلًا لَهُ أَنْ يَضَعَ فُصُولَ الـمِيزَانِيَّةِ وَالـمَبَالِغَ اللَّازِمَةَ لِكُلِّ فَصْلٍ, وَلَكِنْ لَيسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ فَصْلًا فِي الـمُوَازَنَةِ لِبِنَاءِ سَدٍّ لِلمِيَاهِ، يُمكِنُ الاستِغنَاءُ عَنهُ، وَلَا تَكفِي وَارِدَاتُ بَيتِ الـمَالِ لِبِنَائِهِ، بِحُجَّةِ أَنَّهُ يَجمَعُ ضَرَائِبَ لِبِنَائِهِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا السَّدِّ إِذَا كَانَ يُمكِنُ الاستِغنَاءُ عَنهُ لَا يَصِحُّ شَرْعًا أَنْ نَفرِضَ ضَرَائِبَ مِنْ أَجْلِهِ. وَهَكَذَا فَإِنَّهُ مُطلَقُ الصَّلَاحِيَّةِ فِي رِعَايَةِ الشُّؤُونِ فِيمَا أَعطَاهُ إِيَّاهُ الشَّرعُ، وَلَكِنَّ هَذَا الإِطلَاقَ إِنَّمَا يَجرِي حَسَبَ أَحكَامِ الشَّرعِ.
ثُمَّ إِنَّهُ لَيسَ مَعنَى أَنَّ لَهُ مُطلَقُ الحَقِّ فِي رِعَايَةِ الشُّؤُونَ هُوَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَسُنَّ القَوَانِينَ الَّتِي يَرَاهَا لِرِعَايَةِ شُؤُونِ البِلَادِ، بَل مَعنَى ذَلِكَ أَنَّ مَا جَعَلَ لَهُ الشَّرعُ التَّصَرُّفَ فِيهِ مُبَاحًا، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَفِيهِ بِحَسَبِ رَأيِهِ بِالكَيفِيَّةِ الَّتِي يَرَاهَا، وَحِينَئِذٍ يَسُنُّ القَانُونَ فِي هَذَا الَّذِي أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَسِيرَ فِيهِ بِرَأيِهِ، وَعِندَهَا تَجِبُ طَاعَتُهُ.
فَمَثَلًا جَعَلَ لَهُ الشَّرعُ حَقَّ تَدبِيرِ أُمُورِ بَيتِ الـمَالِ بِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِطَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسُنَّ قَوَانِينَ مَالِيَّةً لِبَيتِ الـمَالِ, وَحِينَئِذٍ تُصبِحُ طَاعَةُ هَذَهِ القَوَانِينَ وَاجِبَةً، وَمَثَلًا جُعِلَتْ لَهُ قِيَادَةُ الجَيشِ وَإِدَارَةُ أُمُورِهِ بِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ وَأُمِرَ النَّاسُ بِطَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ, فَلَهُ أَنْ يَسُنَّ قَوَانِينَ لِقِيَادَةِ الجَيشِ, وَقَوَانِينَ لِإِدَارَةِ الجَيشِ، وَحِينَئِذٍ تُصبِحُ طَاعَةُ هَذِهِ القَوَانِينَ وَاجِبَةً.
وَمَثَلًا لَهُ أَنْ يُدِيرَ مَصَالِـحَ الرَّعِيَّةِ بِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ, وَأَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يُدِيرُهَا, وَيَشتَغِلَ بِهَا بِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ، وَأُمِرَ النَّاسُ بِطَاعَتِهِ فِي ذَلِكَ, فَلَهُ أَنْ يَسُنَّ قَوَانِينَ لِإِدَارَةِ الـمَصَالِـحِ، وَلَهُ أَنْ يَسُنَّ قَوَانِينَ لِلمُوَظَّفِينَ، وَحِينَئِذٍ تُصبِحُ طَاعَةُ هَذِهِ القَوَانِينَ وَاجبَةً. وَهَكَذَا كُلُّ مَا تُرِكَ لِرَأيِ الخَلِيفَةِ وَاجتِهَادِهِ فِي الأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِنْ صَلَاحِيَّتِهِ شَرعًا لَهُ أَنْ يَسُنَّ قَوَانِينَ لَهَا, وَتَكُونُ طَاعَةُ هَذِهِ القَوَانِينَ وَاجبَةً.
وَلَا يُقَالُ:"إِنَّ هَذِهِ القَوَانِينَ أَسَالِيبُ، وَالأُسلُوبُ مِنَ الـمُبَاحَاتِ, فَهِيَ مُبَاحَةٌ لِجَمِيعِ الـمُسلِمِينَ فَلَا يَحِلُّ لِلخَلِيفَةِ تَعيِينُ أُسلُوبٍ مُعَيَّنٍ وَجَعْلُهُ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ إِيجَابٌ لِلعَمَلِ بِالـمُبَاحِ، وَإِيجَابُ العَمَلِ بِالـمٌبَاحِ يَجعَلُ الـمُبَاحَ فَرضًا، وَمَنعُ غَيرِهِ مِنَ الأَسَالِيبِ يَجعَلُ الـمُبَاحَ حَرامًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ".
لَا يُقَالُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الـمُبَاحَ هُوَ الأَسَالِيبُ مِنْ حَيثُ هِيَ أَسَالِيبُ، أَمَّا أَسَالِيبُ إِدَارَةِ بَيتِ الـمَالِ فَهِيَ مُبَاحَةٌ لِلخَلِيفَةِ, وَلَيسَتْ مُبَاَحَةً لِكُلِّ النَّاسِ، وَأَسَالِيبُ قِيَادَةِ الجَيشِ هِيَ مُبَاحَةٌ لِلخَلِيفَةِ, وَلَيسَتْ مُبَاحَةً لِكُلِّ النَّاسِ، وَأَسَالِيبُ إِدَارَةِ مَصَالِـحِ الرَّعِيَّةِ هِيَ مُبَاحَةٌ لِلخَلِيفَةِ, وَلَيسَتْ مُبَاحَةً لِـجَمِيعِ النَّاسِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ إِيجَابَ العَمَلِ بِهَذَا الـمُبَاحِ الَّذِي اختَارَهُ الخَلِيفَةُ لَا يَجعَلُ ذَلِكَ الـمُبَاحَ فَرضًا, وَإِنَّمَا يَجعَلُ طَاعَةَ الخَلِيفَةِ وَاجبَةً فِيمَا جَعَلَ الشَّرعُ لَهُ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ، أَيْ فِيمَا اختَارَهُ لِرِعَايَةِ الشُّؤُونِ مِنْ رَأْيٍ وَاجتِهَادٍ. إِذْ هُوَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَقَدْ أَوجَبَ الخَلِيفَةُ تَنفِيذَهُ وَمَنَعَ غَيرَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لِلخَلِيفَةِ لِلرِّعَايَةِ بِحَسَبِهِ، لِأَنَّ الرِّعَايَةَ لَهُ، وَلَيسَ مُبَاحًا لِلرِّعَايَةِ لِكُلِّ النَّاسِ. وَلِهَذَا لَا يَكُونُ وُجُوبُ التِزَامِ مَا تَبَنَّاهُ الخَلِيفَةُ مِنَ الـمُبَاحَاتِ لِرِعَايَةِ الشُّؤُونِ، أِي مِمَّا جَعَلَ الشَّرعُ لِلخَلِيفَةِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ، لَا يُكُونُ مِنْ بَابِ أَنَّ الخَلِيفَةَ قَدْ جَعَلَ الـمُبَاحَ فَرْضًا, وَجَعَلَ الـمُبَاحَ حَرامًا، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ وُجُوبِ الطَّاعَةِ فِيمَا جَعَلَ الشَّرعُلِلخَلِيفَةِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ.
فَكُلُّ مُبَاحٍ التَزَمَهُ الخَلِيفَةُ لِرِعَايَةِ الشُّؤُونِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ فَردٍ مِنْ أَفرَادِ الرَّعِيَّةِ التِزَامُهُ. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَقَدْ دَوَّنَ عُـمَـرُ بْنُ الخَطَّابِ الدَّوَاوِينَ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا وَضَعَ الخُلَفَاءُ تَرتِيبَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لِعُمَّالِـهِمْ وَلِلرَّعِيَّةِ وَأَلزَمُوهُمُ العَمَلَ بِهَا وَعَدَمَ العَمَلِ بِسِوَاهَا. وَبِنَاءً عَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ تُوضَعَ القَوَانِينُ الإِدَارِيَّةُ، وَسَائِرُ القَوَانِينِ الَّتِي مِنْ هَذَا القَبِيلِ، وَطَاعَتُهُ وَاجِبَةٌ فِي سَائِرِ هَذِه القَوَانِينِ لِأَنَّهَا طَاعَةٌ لِلخَلِيفَةِ فِيمَا يَأمُرُ بِهِ مِمَّا جَعَلَهُ الشَّرعُ لَهُ.
إِلَّا أَنَّ هَذَا فِي الـمُبَاحِ الَّذِي لِرِعَايَةِ الشُّؤُونِ، أَيْ فِيمَا جُعِلَ لِلخَلِيفَةِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ، مِثلُ تَنظِيمِ الإِدَارَاتِ، وَتَرتِيبِ الجُندِ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، وَلَيسَ فِي كُلِّ الـمُبَاحَاتِ، بَلْ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ لِلخَلِيفَةِ بِوَصْفِهِ خَلِيفَةً. أَمَّا بَاقِي الأَحكَامِ مِنَ الفَرضِ وَالـمَندُوبِ وَالـمَكرُوهِ وَالحَرَامِ وَالـمُبَاحِ لِجَمِيعِ النَّاسِ, فَإِنَّ الخَلِيفَةَ مُقيَّدٌ فِيهَا بِأَحْكَامِ الشَّرعِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الخُرُوجُ عَنهَا مُطلَقًا، لِـمَا رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمُ، وَاللَّفْظُ لِمُسلِم، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ». وَهُوَ عَامٌّ يَشمَلُ الخَلِيفَةَ وَغَيرَهُ.
وَعَلَيهِ، فَفِيمَا لَـمْ يُجعَلْ لِلخَلِيفَةِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ، بَلْ كَانَ مُبَاحًا لِجَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسُنَّ فِيهِ قَانُونًا يُجبِرُ النَّاسَ عَلَيهِ، فَمَثَلًا أَسَالِيبُ قِيَادَةِ الجَيشِ هِيَ مِمَّا جُعِلَ لِلخَلِيفَةِ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ لِذَلِكَ يَضَعُ لَـهَا قَوَانِينَ، أَمَّا إِلزَامُ النَّاسِ بِنَوعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الأَلبِسَةِ الـمُبَاحَةِ وَمَنعُ سِوَاهُ مِنَ الأَلبِسَةِ الـمُبَاحَةِ الأُخرَى، أَو إِلزَامُ النَّاسِ بِشَكْلٍ مُعَيَّنٍ لِبُيُوتِهِمْ, وَمَنعُ سِوَاهُ مِنَ الأَشكَالِ الـمُبَاحَةِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ لِأَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مُبَاحَةٌ لِـجَمِيعِ النَّاسِ، فَأَيُّ إِلزَامٍ لِلنَّاسِ بِشَيءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ هَذَا الـمُبَاحِ, وَمَنعُ غَيرِهِ هُوَ إِيجَابٌ لِلمُبَاحِ, وَتَحرِيمٌ لِلمُبَاحِ, وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِلخَلِيفَةِ، وَإِذَا فَعَلَهُ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُ, وَيُرفَعُ أَمرُهُ لِمَحكَمَةِ الـمَظَالِـمِ.
لَكِنَّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ مُحصُورٌ فِي شَيءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ فِيمَا جُعِلَ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِلخَلِيفَةِ بِرَأيِهِ وَاجتِهَادِهِ، أَيْ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ لِلخَلِيفَةِ, وَلَيسَ مُبَاحًا لِـجَمِيعِ النَّاسِ مِثلُ أَسَالِيبِ قِيَادَةِ الجَيشِ وَأَمثَالِهَا، فَهَذِهِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلزِمَ النَّاسَ بِرَأيٍ مُعَيَّنٍ وَاجتِهَادٍ مُعَيَّنٍ فِيهَا، وَتَجِبُ عَلَيهِمْ طَاعَتُهُ، أَيْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسُنَّ فِيهَا قَوَانِينَ، وَمَا عَدَاهَا لَا يَجُوزُ مُطلَقًا.
وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لِلخَلِيفَةِ أَنْ يُحَرِّمَ حَلَالًا أَو يُحِلَّ حَرَامًا بِحُجَّةِ رِعَايَةِ الشُّؤُونِ. فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ حَرَّمْتُ بَيعَ الصُّوفِ لِخَارِجِ البِلَادِ بِحُجَّةِ رِعَايَةِ الشُّؤُونِ، لِأَنَّ البَيعَ مُبَاحٌ لِـجَمِيعِ النَّاسِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُحَرِّمَهُ أَو يَمنَعَهُ، وَلَكِنَّ بَيعَ الصُّوفِ أَوِ السِّلَاحَ أَو أَيِّ فَردٍ مِنْ أَفرَادِ الـمُبَاحِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُسَبِّبُ ضَررًا فَإِنَّهُ يُصبِحُ هَذَا الفَردُ وَحْدَهُ حَرَامًا، لِأَنَّهُ أَوصَلَ إِلَى ضَرَرٍ، وَيَبقَى الشَّيءُ مُبَاحًا، عَمَلًا بِالقَاعِدَةِ الـمَأخُوذَةِ مِنْ مَنعِ الرَّسُولِ r الجَيشَ مِنَ الشُّرْبِ مِنْ بِئْرِ ثَمُودَ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.