- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح 182) الجهاز الإداري: إدارة شؤون الدولة, ومصالح الناس
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ" وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّانِيةِ والثَّمَانِينَ بَعدَ المِائَةِ, وَعُنوَانُهَا: "الجِهَازُ الإِدَارِيُّ: إِدَارَةُ شُؤونِ الدَّولَةِ, وَمَصَالِـحِ النَّاسِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ المِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 96- إِدَارَةُ شُؤُونِ الدَّولَةِ وَمَصَالِح ِالنَّاسِ تَتَوَلَّاهَا مَصَالِـحُ وَدَوَائِرُ وَإِدَارَاتٌ، تَقُومُ عَلَى النُّهُوضِ بِشُؤُونِ الدَّولَةِ, وَقَضَاءِ مَصَالِحِ النَّاسِ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ, يَا أُمَّةَ القُرآنْ, يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ, يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ, يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبّاً, وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيّاً وَرَسُولاً, وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجاً وَدُستُوراً, وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَاماً لِلْحَياَة,ِ أَيُّهَا المُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ, فَوقَ كُلِّ أَرضٍ, وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ, يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ, أَيُّهَا المُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا, وَهَذِهِ هِيَ المَادَّةُ السَّادِسَةُ والتِّسْعُون. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ المَادَّة مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
كَانَ رَسُولُ اللهِ r يُدِيرُ المَصَالِحَ, وَيُعَيِّنُ كُتَّاباً لِإِدَارَتِهَا، فَكَانَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُدِيرُ مَصَالِحَ النَّاسَ فِي المَدِينَةِ، يَرْعَى شُؤُونَهُمْ، وَيَحُلُّ مَشَاكِلَهُمْ، وَيُنَظِّمُ عَلَاقَاتِهِمْ، وَيُؤَمِّنُ حَاجَاتِهِمْ، وَيُوَجِّهُهُمْ فِيهَا لِمَا يُصْلِحُ أَمْرَهُمْ. وَكُلُّ هَذِهِ مِنَ الشُّؤُونِ الإِدَارِيَّةِ الَّتِي تُيَسِّرُ عَيشَهُمْ دُونَ مَشَاكِلَ أَوْ تَعقِيدٍ: فَفِي أُمُورِ التَّعلِيمِ، جَعَلَ رَسُولُ اللهِ r فِدَاءَ الأَسْرَى مِنَ الكُفَّارِ تَعْلِيمَ عَشَرَةٍ مِنْ أَبنَاءِ المُسلِمِينَ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ، وَبَدَلَ الفِدَاءِ هُوَ مِنَ الغَنَائِمِ، وَهِيَ مِلْكٌ لِلمُسلِمِينَ؛ فَكَانَ تَأمِينُ التَّعلِيمُ مَصْلَحَةً مِنْ مَصَالِحِ المُسلِمِينَ. وَفِي التَّطبِيبِ، أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللهِ r طَبِيبٌ فَجَعَلَهُ لِلمُسلِمِينَ، فَكَونُ رَسُولِ اللهِ r جَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ فَلَمْ يَتَصَرَّفْ بِهَا، وَلَمْ يَأْخُذْهَا، بَلْ جَعَلَهَا لِلمُسلِمِينَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّطْبِيبَ مَصْلَحَةٌ مِنْ مَصَالِحِ المُسلِمِينَ. وَفِي شُؤُونِ العَمَلِ، فَقَدْ أَرشَدَ رَسُولُ اللهِ r رَجُلاً أَنْ يَشتَرِيَ حَبْلاً ثُمَّ فَأْساً، وَيَحْتَطِبَ وَيَبِيعَ لِلنَّاسِ بَدَلَ أَنْ يَسْأَلَهُمْ، هَذَا يُعطِيهِ وَهَذَا يَرُدُّهُ، فَكَانَ حَلُّ مَشَاكِلِ العَمَلِ كَذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلمُسلِمِينَ. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابنُ مَاجَه: «أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ r يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى ... قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا، قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللهِ r بِيَدِهِ وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ ... قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَاماً فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُوماً فَأْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ r عُوداً بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ...». وَقَالَ رَسُولُ اللهِ r فَيمَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَداً فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ».
وَفِي شُؤُونِ الطُّرُقِ، فَقَدْ نَظَّمَ رَسُولُ اللهِ r الطُّرُقَ فِي وَقْتِهِ بِأَنْ جَعَلَ الطَّرِيقَ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ عِندَ التَّنَازُعِ. رَوَى البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيرَةَ «قَضَى النَّبِيُّ r إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ»، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَـبْعَ أَذْرُعٍ». وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالطَّرِيقُ الْمِيتَاءُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ»، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ ابْنِ الصَّامِتِ: «وَقَضَى r فِي الرَّحَبَةِ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فِيهَا فَقَضَى أَنْ يُتْرَكَ لِلطَّرِيقِ فِيهَا سَبْعُ أَذْرُعٍ». وَهُوَ تَنظِيمٌ إِدَارِيٌّ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، وَإِذَا كَانَتِ الحَاجَةُ لِأَكْثَرَ كَانَ كَمَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. وَكَذَلِكَ مَنَعَ الرَّسُولُ r العُدْوَانَ عَلَى الطَّرِيقِ، أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ: «مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شِبْراً طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ».
وَفِي الزِّرَاعَةِ، فَقَدِ اختَلَفَ الزُّبَيرُ t وَرَجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ فِي السَّقْيِ مِنْ سَيلِ مَاءٍ يَمُرُّ مِنْ أَرضِهِمَا، فَقَالَ r: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ». (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ وَاللَّفْظُ لِمُسلِم). وَهَكَذَا فَإِنَّ الرَّسُولَ r كَانَ يُدِيرُ مَصَالِحَ المُسلِمِينَ وَيَحُلُّ مَشَاكِلَهُمُ الإِدَارِيَّةِ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ، وَكَانَ يَستَعِينُ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ. فَتَكُونُ مَصَالِحُ النَّاسِ جِهَازاً يَتَوَلَّاهُ الخَلِيفَةُ أَوْ يُعَيِّنُ لَهُ مُدِيراً كُفْؤاً يَتَوَلَّاهُ، وَهَذَا مَا جَرَى تَبَنِّيهِ هُنَا، تَخْفِيفاً لِلْعِبْءِ عَنِ الخَلِيفَةِ، وَبِخَاصَّةٍ وَقَدْ تَشَعَّبَتِ المَصَالِحُ وَتَكَاثَرَتْ، فَيَكُونُ هُنَاكَ جِهَازٌ لِمَصَالِحِ النَّاسِ يَتَوَلَّاهُ عَلَى وَجْهِهِ مُدِيرٌ كُفْؤٌ بِأَسَالِيبَ وَوَسَائِلَ تُيَسِّرُ عَلَى الرَّعِيَّةِ عَيشَهَا، وَيُوَفِّرُ لَهَا الخِدْمَاتِ الَّلازِمَةِ دُونَمَا تَعقِيدٍ بَلْ بِسُهُولَةٍ وَيُسْرٍ. وَهَذَا الجِهَازُ يَتَكَوَّنُ مِنْ مَصَالِحَ، وَدَوَائِرَ، وَإِدَارَاتٍ. وَالمَصلَحَةُ هِيَ الإِدَارَةُ العُلْيَا لِأَيَّةِ مَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِحِ الدَّولَةِ، كَالتَّابِعِيَّةِ، وَالمُوَاصَلَاتِ، وَسَكِّ النُّقُودِ، وَالتَّعلِيمِ، وَالصِّحَّةِ، وَالزِّرَاعَةِ، وَالعَمَلِ، وَالطُّرُقِ، وَغَيرِهَا.
وَهَذِهِ المَصْلَحَةُ تَتَوَلَّى إِدَارَةَ المَصْلَحَةِ ذَاتَهَا، وَمَا يَتبَعُهَا مِنْ دَوَائِرَ وَإِدَارَاتٍ. وَالدَّائِرَةُ هِيَ الَّتِي تَتَوَلَّى شُؤُونَ الدَّائِرَةِ نَفْسِهَا، وَمَا يَتبَعُهَا مِنْ إِدَارَاتٍ. وَالإِدَارَةُ هِيَ الَّتِي تَتَوَلَّى شُؤُونَ الإِدَارَةِ ذَاتِهَا، وَمَا يَتبَعُهَا مِنْ فُرُوعٍ وَأَقْسَامٍ. وَهَذِهِ المَصَالِحُ وَالدَّوَائِرُ وَالإِدَارَاتُ إِنَّمَا تُنشَأُ وَتُقَامُ لِأَجْلِ النُّهُوضِ بِشُؤُونِ الدَّولَةِ، وَلِأَجْلِ قَضَاءِ مَصَالِحِ النَّاسِ. وَجَعْلُ الجِهَازِ الإِدَارِيٍّ عَلَى هَذَا النَّحْوِ المُبَيَّنِ أُسلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ القِيَامِ بِالفِعْلِ، وَوَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِهِ، فَلَا يَحتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ بِهِ، وَيَكْفِي الدَّلِيلُ العَامُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَا يُقَالُ:"إِنَّ هَذِهِ الأَسَالِيبُ أَفْعَالٌ لِلْعَبدِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَجْرِيَ إِلَّا حَسَبَ الأَحْكَامِ الشَّرعِيَّةِ"؛ لَا يُقَالُ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الأَفْعَالَ جَاءَ الدَّلِيلُ الشَّرعِيُّ عَلَى أَصْلِهَا عَامّاً، فَيَشْمَلُ كُلَّ مَا يَتَفَرَّعُ عَنهَا مِنَ الأَفْعَالِ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ دَلِيلٌ شَرعِيٌّ عَلَى فِعْلٍ مُتَفَرِّعٍ عَنِ الأَصْلِ فَحِينَئِذٍ يُتَّبَعُ حَسَبَ الدَّلِيلِ، فَمَثلاً قَالَ تَعَالَى: (وَآتُوا الزكَاةَ). وَهُوَ دَلِيلٌ عَامٌّ. وَجَاءَتِ الأَدِلَّةُ عَلَى الأَفْعَالِ المُتَفَرِّعَةِ عَنهَا، لِمِقْدَارِ النِّصَابِ، وَلِلعَامِلِينَ، وَلِلأَصنَافِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنهَا الزَّكَاةُ، وَكُلُّهَا أَفْعَالٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْ: (وَآتُوا الزكَاةَ), وَلَمْ تَأْتِ أَدِلَّةٌ لِكَيفِيَّةِ قِيَامِ العُمَّالِ بِجَمْعِهَا، هَلْ يَذهَبُونَ رَاكِبِينَ أَو مَاشِينَ؟ هَلْ يَستَأجِرُونَ مَعَهُمْ أُجَرَاءَ لِمُسَاعَدَتِهِمْ أَوْ لَا؟ وَهَلْ يُحْصُونَهَا بِدَفَاتِرَ؟ وَهَلْ يَتَّخِذُونَ لَهُمْ مَكَاناً يَجْتَمِعُونَ فِيهِ؟ وَهَلْ يَتَّخِذُونَ مَخَازِنَ لِوَضْعِ مَا يَجْمَعُونَهُ فِيهَا؟ وَهَلْ تُوضَعُ هَذِهِ المَخَازِنُ تَحْتَ الأَرْضِ أَو تُبْنَى كَالبُيُوتِ لِلحُبُوبِ؟ وَهَلْ زَكَاةُ النَّقْدِ تُجْمَعُ بِأَكْيَاسٍ أَو بِصَنَادِيقَ؟ فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا أَفْعَالٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْ (وَآتُوا الزكَاةَ), وَيَشْمَلُهَا الدَّلِيلُ العَامُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ أَدِلَّةٌ خَاصَّةٌ بِهَا. وَهَكَذَا جَمِيعُ الأَسَالِيبِ. فَالأُسلُوبُ هُوَ الفِعْلُ الَّذِي يَكُونُ فَرْعاً لِفِعْلٍ قَدْ جَاءَ لَهُ - أَيْ لِلأَصْلِ- دَلِيلٌ عَامٌّ, وَلَمْ يَأْتِ لِهَذَا الفَرْعِ دَلِيلٌ خَاصٌّ بِهِ؛ فَيَكُونُ دَلِيلُ أَصْلِهِ العَامُّ دَلِيلاً عَلَيهِ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الأَسَالِيبَ الإِدَارِيَّةَ يُمكِنُ أَخْذُهَا مِنْ أَيِّ نِظَامٍ، إِنْ كَانَتْ مُنَاسِبَةً لِتَيْسِيرِ عَمَلِ الأَجْهِزَةِ الإِدَارِيَّةِ, وَقَضَاءِ مَصَالِحِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الأُسْلُوبَ الإِدَارِيَّ لَيسَ حُكْماً يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ شَرعِيٍّ؛ وَلِهَذَا فَقَدْ أَخَذَ عُمَرُ t أُسلُوبَ الدِّيوَانِ، فِي تَسجِيلِ أَسْمَاءِ الجُنْدِ وَالرَّعِيَّةِ، مِنْ أَجْلِ تَوزِيعِ الأَمْوَالِ عَلَيهِمْ مِنَ المِلْكِيَّةِ العَامَّةِ أَوْ مِلْكِيَّةِ الدَّولَةِ كَأُعْطِيَاتٍ أَو رَوَاتِبَ. رَوَى عَابِدُ بْنُ يَحْيَى عَنِ الحَارِثِ بْنِ نُفْيلٍ أَنَّ عُمَرَ t استَشَارَ المُسلِمِينَ فِي تَدوِينِ الدَّوَاوِينِ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ t: تَقْسِمُ كُلَّ سَنَةٍ مَا اجْتَمَعَ إِلَيكَ مِنَ المَالِ، وَلَا تُمسِكْ مِنهُ شَيئاً. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ t أَرَى مَالاً كَثيراً يَسَعُ النَّاسَ، فَإِنْ لَمْ يُحْصَوا حَتَّى يُعرَفَ مَنْ أَخَذَ مِمَّنْ لَمْ يَأْخُذْ خَشِيتَ أَنْ يَنتَشِرَ الأَمْرُ، فَقَالَ الوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ بْنِ المُغِيرَةِ: قَدْ كُنْتُ بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ مُلُوكَهَا قَدْ دَوَّنُوا دِيوَاناً، وَجَنَّدُوا جُنُوداً، فَدَوِّنْ دِيوَاناً، وَجَنّدْ جُنُوداً، فَأَخَذَ بِقَولِهِ، وَدَعَا عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَمَخْرَمَةَ بْنَ نَوفَلٍ، وَجُبَيرَ بْنَ مُطْعِمٍ، وَكَانُوا مِنْ نُسَّابِ قُرَيشٍ، وَقَالَ: «اكتُبُوا النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ».ثُمَّ بَعْدَ ظُهُورِ الإِسلَامِ فِي العِرَاقِ، جَرَتِ الدَّوَاوِينُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيهِ مِنْ قَبْلُ. فَكَانَ دِيوَانُ الشَّامِ بِالرُّومِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ مَمَالِكِ الرُّومِ. وَكَانَ دِيوَانُ العِرَاقِ بِالفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ مَمَالِكِ الفُرْسِ. وَفِي زَمَنِ عَبدِ المَلِكِ بْنِ مَروَانَ نَقَلَ دِيوَانَ الشَّامِ إِلَى العَرَبِيَّةِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ هِجْرِيَّة. ثُمَّ تَتَابَعَ إِنشَاءُ الدَّوَاوِينُ حَسَبَ الحَاجَةِ، وَمَا تَقتَضِيهِ مَصَالِحُ الرَّعِيَّةِ. فَكَانَتِ الدَّوَاوِينُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالجَيشِ مِنْ إِثْبَاتٍ وَعَطَاءٍ، وَكَانَتِ الدَّوَاوِينُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالأَعْمَالِ مِنْ رُسُومٍ وَحُقُوقٍ، وَكَانَ الدِّيوَانُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالعُمَّالِ وَالوُلَاةِ مِنْ تَقْلِيدٍ وَعَزْلٍ، وَكَانَتِ الدَّوَاوِينُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِبَيتِ المَالِ مْنْ دَخْلٍ وَخَرْجٍ، وَهَكَذَا. فَكَانَ إِنشَاءُ الدَّيوَانِ مُتَعَلِّقاً بِالحَاجَةِ إِلَيهِ، وَكَانَ أُسلُوبُهُ يَختَلِفُ مِنْ عَصْرٍ إِلَى عَصْرٍ، لِاختِلَافِ الأَسَالِيبِ وَالوَسَائِلِ. وَكَانَ يُعيَّنُ لِلدِّيوَانِ رَئِيسٌ، وَيُعيَّنُ لَهُ مُوَظَّفُونَ، وَكَانَتْ تُسنَدُ لِهَذَا الرَّئِيسِ صَلَاحِيَّةُ تَعيِينِ مُوَظَّفِيهِ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ، وَيُعيَّنُونَ لَهُ تَعْيِيناً فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُتَّبَعُ فِي إِنْشَاءِ إِدَارَةِ المَصَالِحِ، أَوْ مَا يُسَمَّى بِالدِّيوَانِ، الحَاجَةُ، وَمَا يَنهَضُ بِأَعْبَاءِ هَذِهِ الحَاجَةِ مِنْ أَسَالِيبِ العَمَلِ، وَوَسَائِلِ القِيَامِ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَخْتَلِفَ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَأَنْ تَختَلِفَ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ، وَأَنْ تَختَلِفَ فِي كُلِّ بَلَدٍ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.