تأملات في كتاب: "من مقومات النفسية الإسلامية" الحلقة الخامسة والتسعون
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وسيد المرسلين, المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: "من مقومات النفسية الإسلامية". ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق:
ومن الأخلاق الذميمة الرياء والتسميع: أخرج ابن ماجة والبيهقي والحاكم وقال: صحيح ولا علة له عن زيد ابن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يوما إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد معاذ بن جبل قاعدا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يبكي؟ فقال: ما يبكيك؟ قال: يبكيني شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن يسير الرياء شرك، وإن من عادى لله وليا، فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا, قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة".
والرياء إذا دخل عملا مما يتقرب به إلى الله أبطله، أي اعتبر كأنه لم يكن، فوق ما فيه من الإثم، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة عند مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" فرياء الشرك يبطل العمل، ومن باب أولى بطلان العمل بالرياء الخالص. وأخرج أحمد عن أبي بن كعب, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والنصر والتمكن في الأرض, ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا, لم يكن له في الآخرة نصيب".
وأخرج البيهقي والبزار بإسناد لا بأس به عن الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له، ولا تقولوا: هذا لله وللرحم, فإنها للرحم وليس لله منها شيء، ولا تقولوا: هذا لله ولوجوهكم, فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء". وأخرج الترمذي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وأحمد بإسناد حسن عن أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري رضي الله عنه وكان من الصحابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك".
ومن السنة إخفاء العمل الصالح حيثما وجد إلى ذلك سبيل، كالصدقة النافلة والصلاة النافلة والسنن الرواتب والدعاء والاستغفار وقراءة القرآن، والأدلة على هذا كثيرة نكتفي منها بحديث أنس عند أحمد بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله عز وجل الأرض، جعلت تميد، فخلق الجبال، فألقاها عليها فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب، هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالت: يا رب، هل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار قالت: يا رب، هل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها من شماله".
والأثر الذي يرويه النسائي والمزي وعلي بن الجعد وغيرهم عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت الزبير بن العوام، يقول: "من استطاع أن يكون له خبي من عمل صالح، فليفعل". وفي رواية أخرى بلفظ "خبيئة". وقال الضياء في المختارة إسناده صحيح.
وحادثة صاحب النقب مع مسلمة معروفة. والنقب هو فتحة في جدار الحصن تلقى منها الفضلات والقاذورات إلى خارجه. "حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا، وأصابهم فيه جهد عظيم، فندب الناس إلى نقب منه، فما دخله أحد، فجاء رجل من الجند فدخله، ففتح الله عليهم، فنادى منادي مسلمة: أين صاحب النقب؟ فما جاء أحد حتى نادى مرتين أو ثلاثا أو أربعا، فجاء في الرابعة رجل، فقال: أنا أيها الأمير صاحب النقب، آخذ عهودا ثلاثا: "لا تسودوا اسمي في صحيفة، ولا تأمروا لي بشيء، ولا تشغلوني عن أمري". قال: فقال له مسلمة: قد فعلنا ذلك بك. قال: فغاب بعد ذلك؛ فلم ير. قال: فكان مسلمة بعد ذلك يقول في دبر صلاته: "اللهم اجعلني مع صاحب النقب".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه ابن ماجة والبيهقي والحاكم: "إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا, قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة". فكم يمتلئ التاريخ بأشخاص من أمثلة هؤلاء الناس الذين يعملون في الخفاء! وعندما تبحث عنهم لتسلط عليهم الأضواء تجدهم قد اختفوا في مهب الريح! هؤلاء هم مصابيح الدجى! إنهم أناس يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم! يسبقهم عملهم لا أسماؤهم! رضي الله عن صاحب النقب! وأكثر من أمثاله في أمة الإسلام! وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء, إنه سميع مجيب الدعاء!
فإذا التزم المسلم بهذه الأخلاق الفاضلة, باعتبارها أحكاما شرعية واجبة الاتباع طاعة لله: امتثالا لأوامره, واجتنابا لنواهيه, فإنه يسمو ويرقى في المرتقى السامي من علي إلى أعلى, ومن شاهق إلى شاهق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد النادي