نداءات القرآن الكريم ح24 الأمر بكتابة الدين إلى أجله ج4
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
(ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم). (البقرة 287)
الحمد لله الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، ومنهاجا للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وآله وصحبه الطيبين الطاهرين, والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين, واجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نصغي وإياكم إلى نداء من نداءات الحق جل وعلا للذين آمنوا, ومع النداء الحادي عشر نتناول فيه الآية الكريمة الثانية والثمانين بعد المائتين من سورة البقرة التي تسمى آية الدين والتي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه). نقول وبالله التوفيق:
يسترسل صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة فيقول: "وهنا يستجيش الشارع ضمائر المؤمنين للأمانة والوفاء بدافع من تقوى الله. فهذا هو الضمان الأخير لتنفيذ التشريع كله، ولرد الأموال والرهائن إلى أصحابها، والمحافظة الكاملة عليها (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه). والمدين مؤتمن على الدين، والدائن مؤتمن على الرهن, وكلاهما مدعو لأداء ما اؤتمن عليه باسم تقوى الله ربه. والرب هو الراعي والمربي والسيد والحاكم والقاضي. وكل هذه المعاني ذات إيحاء في موقف التعامل والائتمان والأداء .. وفي بعض الآراء أن هذه الآية نسخت آية الكتابة في حالة الائتمان.
ونحن لا نرى هذا، فالكتابة واجبة في الدين إلا في حالة السفر. والائتمان خاص بهذه الحالة. والدائن والمدين كلاهما مؤتمن.
وفي ظل هذه الاستجاشة إلى التقوى، يتم الحديث عن الشهادة - عند التقاضي في هذه المرة لا عند التعاقد - لأنها أمانة في عنق الشاهد وقلبه: (ولا تكتموا الشهادة. ومن يكتمها فإنه آثم قلبه). ويتكئ التعبير هنا على القلب فينسب إليه الإثم تنسيقا بين الإضمار للإثم، والكتمان للشهادة. فكلاهما عمل يتم في أعماق القلب. ويعقب عليه بتهديد ملفوف. فليس هناك خاف على الله (والله بما تعملون عليم) وهو يجزي عليه بمقتضى علمه الذي يكشف الإثم الكامن في القلوب! ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت، المجازي عليها، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب! (لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، والله على كل شيء قدير). وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة، بذلك الرباط الوثيق، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء. فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية .. وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم .. وهي والتشريع في الإسلام متكاملان. فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها ويصنع المجتمع الذي يقنن له. صنعة إلهية متكاملة متناسقة. تربية وتشريع. وتقوى وسلطان .. ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان فأنى تذهب شرائع الأرض، وقوانين الأرض، ومناهج الأرض؟ أنى تذهب نظرة إنسان قاصر، محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، يتقلب هواه هنا وهناك، فلا يستقر على حال، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي، ولا على رؤية، ولا على إدراك؟ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها.
ربها الذي خلق، والذي يعلم من خلق، والذي يعلم ما يصلح لخلقه، في كل حالة وفي كل آن؟ ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه. الشقوة التي بدأت في الغرب هربا من الكنيسة الطاغية الباغية هناك ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر .. فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها. ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه! ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله .. وكانت الشقوة وكان البلاء!! فأما نحن - نحن الذين نزعم الإسلام - فما بالنا؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال، ويحط عنا الأثقال، ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح؟" (انتهى الاقتباس).
أيها المؤمنون:
سبق لنا أن قلنا أكثر من مرة: "ولنا على فهم سيد قطب للحكم الشرعي في مسألة وجوب كتابة الدين والإشهاد عليه, تحفظ سنذكره لاحقا في نهاية بحثنا لهذا النداء". وها نحن في هذا المقام نقول: إن العالم الجليل عطاء بن خليل - حفظه الله ورعاه- في كتابه: "تيسير الوصول إلى التفسير" يرى أن الأمر بكتابة الدين هو للندب, وليس للوجوب كما كان يرى سيد قطب - رحمه الله - وأنقل لكم نصا ما قاله الأمير - أعزه الله ونصره - في قوله تعالى: (فاكتبوه) أمر من الله سبحانه بكتابته, والأمر يفيد الطلب, وقد وردت أقوال في هذه الكتابة أنها للوجوب أو الندب أو الإباحة المتضمن معنى الإرشاد, وهذه الأخيرة تعني عند قائليها أن فيها مصلحة دنيوية راجحة, أي أن هذا المباح أي (الكتابة) أولى من غيره لحفظ الدين والابتعاد عن التنازع. وحيث إن الأصل في الأمر (الطلب) والقرينة هي التي تعين الحكم الشرعي للوجوب أو الندب أو الإباحة, فإنه بتدبر الآية الكريمة يتبين ما يلي:
1. لا توجد قرينة تفيد الطلب الجازم من حيث ترتيب العقوبة على عدم الكتابة, أو أية قرينة جازمة حسب ما هو معروف في الأصول, فلا تكون الكتابة فرضا.
2. هناك قرائن تفيد ترجيح الكتابة من عدمها: (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه اللـه). (فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق اللـه ربه ولا يبخس منه شيئا ). (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ). (ذلكم أقسط عند اللـه). (وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ). وكل هذه تفيد أن الكتابة أرجح من عدمها, إلا أن بعضها يفيد أن الترجيح لمصلحة دنيوية مثل: (وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ). فهي لقطع التنازع في الحق, وأفضل؛ لأنها تؤكد قول الشهداء, وتيسر الأمر عليهم. ولو اقتصرت على ذلك لأفادت الإباحة المتضمنة للإرشاد, غير أن بعضها يفيد أن الترجيح للثواب أي للندب مثل قوله سبحانه: (ذلكم أقسط عند اللـه). وهذه قرينة على أن الأمر بالكتابة هو للندب, وبالتالي يكون المعنى: الندب للمؤمنين أن يكتبوا الدين الواقع بينهم والمؤجل سداده إلى وقت محدد معلوم. أما الدين المؤجل سداده إلى وقت غير محدد فليس مندوبا كتابته, بل هو على الإباحة.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا همومنا وغمومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا واجعله حجة لنا لا علينا اللهم آمين آمين يا رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد النادي