السبت، 19 صَفر 1446هـ| 2024/08/24م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط ح24

بسم الله الرحمن الرحيم


بعد موقعة سامورة لم يستسلم عبد الرحمن الناصر رحمه الله، وهو الذي ربي على الجهاد والطاعة لربه ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فعلم مواضع الخلل ومواطن الضعف، ومن جديد تدارك أمره وقام معه العلماء والمربون يحفزون الناس ويعلمونهم الإسلام.

 

ومن جديد أعادوا هيكلهم وقاموا بحرب عظيمة على النصارى ، تلتها حملات مكثفة وانتصارات تلو انتصارات، حتى أيقن النصارى بالهلكة، وطلب ملك ليون الأمان والمعاهدة على الجزية، يدفعها لعبد الرحمن الناصر عن يد وهو صاغر.

 

كذلك فعل ملك نافار، ومثلهما مملكة أراجون النصرانية التي كانت في حوزة عبد الرحمن الناصر رحمه الله فدفعوا جميعا الجزية ابتداء من سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة إلى آخر عهده رحمه الله سنة خمسين وثلاثمائة من الهجرة.

 

ما سبق كان من التاريخ السياسي والعسكري لعبد الرحمن الناصر رحمه الله وواقع الأمر أن جهده لم يكن كله موجها فقط إلى الجيوش والحروب، بل إنه كان متكاملا ومتوازنا رحمه الله في كل أموره.

 

فقد قامت في عهده أروع مدنية عرفتها البشرية في تاريخها القديم، استهلها رحمه الله بإنشاء هياكل إدارية عظيمة، وأكثر من الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولا ولكل مسئول وزارة كبيرة تضم عمالا كثيرين وكتبة.


كما وأنشأ مدينة عظيمة وأطلق عليها اسم مدينة الزهراء، وهي تقع في الشمال الغربي لمدينة قرطبة، وكان قد اضطر لإنشائها حتى يتسنى له استقبال الوفود الكثيرة التي كانت تأتي إليه من كل بلاد العالم تخطب وده رحمه الله.

 

كانت مدينة الزهراء على طراز رفيع جدا، وقد استجلب لها عبد الرحمن الناصر رحمه الله موادا من القسطنطينية ومن بغداد ومن تونس ومن أوروبا، وقد صممت على درجات مختلفة فكانت هناك درجة سفلى وهي للحراس والكتبة والعمال، ثم درجة أعلى وهي للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير.

 

وفي مدينة الزهراء أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء، ذلك القصر الذي لم يبق في التراث المعماري الإسلامي أبدا مثله، فكان الناس يأتون من أوروبا ومن كل أقطار العالم الإسلامي كي يشاهدوا قصر الزهراء في مدينة الزهراء.

 

وهذه أيضا مدينة قرطبة وقد اتسعت جدا في عهد عبد الرحمن الناصر، وبلغ تعداد سكانها نصف مليون مسلم، معتبرة بذلك ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره بعد بغداد المدينة الأولى، والتي كان تعداد سكانها يبلغ مليونين.

 

ضمت مدينة قرطبة ثلاث عشرة آلاف دار، والدار بلغة العصر هي المكان الواسع الفسيح الذي يضم بيتا وحديقة من حوله، وكان فيها ثمان وعشرون ضاحية، فضلا عن ثلاثة آلاف مسجد، حتى أطلق عليها في ذلك العصر وبحق جوهرة العالم.

 

أما بالنسبة للناحية الاقتصادية فقد كانت البلاد في عهده رحمه الله تعيش في رخاء منقطع النظير، فكثرت الأموال حتى بلغت ميزانية الدولة ستة ملايين دينارا ذهبا.

 

وكان قد اهتم رحمه الله اهتماما كبيرا بالزراعة، وكانت قد كثرت الفواكه في عهده، وأولى رحمه الله زراعة القطن والكتان والقمح عناية خاصة لم تفق عنايته بقوانين الزراعة نفسها.

 

وكان من جل اهتماماته أيضا استخراج الذهب والفضة والنحاس، وكذلك صناعة الجلود وصناعة السفن وآلات الحرث والأدوية، وقام رحمه الله بإنشاء أسواق كثيرة متخصصة لعرض وتداول مثل هذه البضائع، فكان هناك - على سبيل المثال - سوق للنحاسين، وأخرى لللحوم، بل حتى سوق للزهور.


أما من الناحية الأمنية فقد عم الأمن والأمان عهد عبد الرحمن الناصر، فلم تقم أبدا ثورات عليه طيلة عهده الثاني، فكان جهاز الشرطة قد قوي كثيرا، وكانت هناك الشرطة التخصصية، شرطة للنهار وأخرى للليل، وثالثة للتجارة ورابعة للبحر وهكذا، وكذلك قد انتشر البريد كثيرا.

 

وأنشأ رحمه الله ما يعرف بمحاكم المظالم، وهي المحاكم التي ترفع إليها أي مظـلمة تحصل من الدولة على أي شخص يعيش تحت سلطان الدولة، سواء أكان من رعاياها أم من غيرهم، وسواء حصلت هذه الـمظلمة من الخليفة أم ممن هو دونه من الحكام والموظفين.


وقد طور من شكل المحاكم، وحكم الشرع وأقامه إقامة دقيقة، وما فرط أبدا في كلمة من كلمات الله سبحانه وتعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

كما وازدهر العلم والتعليم بصورة ملحوظة،في عهده، وقد اهتم كثيرا بمكتبة قرطبة، تلك التي كانت قد تأسست قبل هذا، فزاد كثيرا في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، وهو زمن لم تظهر فيه الطباعة بعد، وإنما كانت عن طريق النسخ اليدوي.

 

ومن أجل هذا فقد ظهرت وظائف جديدة للمسلمين لم يعتادوا عليها قبلا، فظهرت مثلا وظيفة النساخين، فإذا أراد أحد من الناس أن يمتلك كتابا ما عليه إلا أن يذهب إلى نساخ فيذهب النساخ بدوره إلى مكتبة قرطبة فينسخ له ما يريد ,لم تكن هناك حقوق طبع كالموجودة الآن، حيث كان المؤلف يكتب كتابه ويتمنى أن ينشر وينسخه كل العالمين؛ لأنه ما كان يكتب إلا ابتغاء وجهه سبحانه وتعالى.

 

كذلك أيضا ظهرت وظيفة الباحثين، فمثلا لو صادفتك مسألة من مسائل الفقه أو مسائل العقيدة أو السيرة، وصعب عليك أن تبحث عنها في أربعمائة ألف كتاب، فما عليك إلا أن تذهب إلى باحثين خبراء، فيبحثوا لك عن كل ما تريد.


ذاع صيت عبد الرحمن الناصر رحمه الله في الدنيا جميعا، ورضيت منه ممالك الشمال بالعهد والجزية، وقد جاءت السفارات من كل أوروبا تطلب وده، فجاءت السفارات من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، بل جاءت من أقصى شرق أوروبا من بيزنطة، وهي بعيدة جدا عن عبد الرحمن الناصر لكنها جاءت تطلب وده وتهدي إليه الهدايا، وأشهرها كانت جوهرة ثمينة وضخمة جدا، كان يضعها عبد الرحمن الناصر في وسط قصره الذي في مدينة الزهراء.

 

من ضمن ما جاءه من الرسائل كانت رسالة من ملك إنجلترا يرجوه فيها أن يعلم أربعة من علماء إنجلترا في مكتبة قرطبة أو في جامعة قرطبة، طلب منه ملك إنجلترا هذا الطلب ثم وقع في آخر الرسالة خادمكم المطيع ملك إنجلترا.

 

وهكذا كان عز الإسلام وكبرياؤه متمثلا في عهد عبد الرحمن الناصر رحمه الله حتى أصبح بلا منازع أعظم ملوك أوروبا في القرون الوسطى، الأمر الذي جعل إسبانيا في سنة إحدى وستين وتسعمائة وألف من الميلاد تحتفل وهي على نصرانيتها بمرور ألف سنة ميلادية على وفاة عبد الرحمن الناصر؛ لأنه كان أعظم ملوك إسبانيا على مر العصور، فلم يستطيعوا أن يخفوا إعجابهم بهذا الرجل الذي رفعهم في العالمين، والتي كانت الأندلس في عهده وبلا جدال أقوى دولة في العالم.

 

إن سيرة هذا الخليفة تثبت لنا أن مثل هذا الرجل لم يكن يعرف إلا طريقا واحدا، هو طريق العزة وعدم الخنوع، إلا أن من ينظر بقرب إلى شخص عبد الرحمن الناصر رحمه الله والذي ظل يحكم البلاد من سنة ثلاثمائة إلى سنة خمسين وثلاثمائة من الهجرة نصف قرن كامل ليرى العجب العجاب، فقد كان رحمه الله مع كل هذا السلطان وهذا الصولجان دائم الذكر لربه سبحانه وتعالى سريع الرجوع إليه.

 

فقد حدث ذات مرة قحط شديد في الأندلس، وقام الناس للاستسقاء، ولكن نظروا فلم يجدوا الخليفة معهم، فذهبوا يبحثون عنه، وكان يقوم بالصلاة المنذر بن سعيد رحمه الله فأرسل غلاما للبحث عن عبد الرحمن الناصر، فذهب الغلام إلى القصر فوجده منفردا بنفسه حائرا، لابسا أخشن الثياب، جالسا على التراب، ودموعه قد بللت لحيته، يعترف بذنوبه ويقول يا رب، هذه ناصيتي بيدك، أتراك تعذب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟! يا رب، لن يفوتك شيء مني، فتركه الغلام وذهب إلى المنذر بن سعيد وأبلغه بما رأى، فقال المنذر يا غلام، أبشر، احمل المطر معك؛ فقد أذن الله سبحانه وتعالى بالسقيا، فإذا خشع جبار الأرض يقصد من يملك الناس فقد رحم جبار السماء.

 

وها هو يتوفى رحمه الله سنة خمسين وثلاثمائة من الهجرة عن اثنين وسبعين عاما، وقد وجدوا في خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده، عد فيها الأيام التي صفت له دون كدر فقال في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم، فعدوها فوجدوها أربعة عشر يوما فقط.

 

رحم الله عبد الرحمن الناصر ، ونسأله تعالى أن يمن علينا بخليفة مثله ، ليعود للأمة عزها وفخارها الذي فقدته حين تخلت عن شرع ربها ، وإلى موعدنا مع الحلقة الأخرى نستكمل فيها الحكم الأموي في الأندلس ، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

 

كتبته الأخت : أم سدين

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع