الأزمة المالية الرأسمالية العالمية - بقلم الأستاذ وليد حجازي
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
لا شك أن الحديث في تفاصيل ودقائق الفكر الاقتصادي للمبادئ التي تسود العالم المعاصر مسطر في بطون أمهات كتبها المبدئية. ولكن الحديث عن واقع يلامس لقمة عيش ومسكن ملايين البشر في هذا العالم هذه الأيام ما عاد في بطون الكتب, ولا للمتخصصين الاقتصاديين, بل أصبح حديثَ القاصي والداني, كل ٍ على قدر فهمه ومشاهدته للأمور ولطبيعة عمله, ويعبر عنها بكلماته وأسلوبه بكل بساطة حسب تأثره بالأزمة عالميًا.
وقبل الدخول في عمق الأزمة الاقتصادية, فإنني أقتبس كلمات من مقدمة كتاب النقد الدولي لأخينا المرحوم الأستاذ الشيخ فتحي محمد سليم وفاءً لما قدم في هذا المجال, فقد ذكره في أكثرَ من مقال, وبيَّن حصولَ الأزمة قبل وقوعها فقال ما نصه:
« إنَّ الغرض من هذا الكتاب هو أن لا يبقى نظام النقد الدولي في برج عاجي لا يعالج مشاكله, ولا يفهمها إلا المتخصصون, بل لا بد من عرضه للرأي العام العالمي, ليلمس بيده فساد نظام النقد الدولي, وما يلازمه من نظام اقتصادي رأسمالي, أوجد هذه الطبقة البغيضة: طبقة الأسياد والعبيد, وطبقة الغنى الفاحش المرعب, والفقر المدقع المميت, الذي فيه كل الإهانة مصحوبة بالتعذيب والتنكيل, والتهجير والتشريد, وفتح أسواق النخاسة, ثمَّ ليعلم هذا الجيل من البشر أين تكمن سعادة هذا الإنسان, في أي نظام, وفي أي تشريع, وأي اقتصاد؟ ولكي نجعل الأمر واضحًا نقول: لا يوجد نظام عالمي من الأنظمة القائمة في عالم اليوم يخلو من العيوب والتعقيدات وإيجاد المشاكل. إنَّ النظام الوحيد الذي يخلو من هذه العيوب هو نظام الإسلام, وإن لم يكن قائمًا بعد في عالم اليوم, وذلك لأنَّ صدق النظام والتشريع يأتي من صدق مشرعه, وصحة الفكر تأتي من صحة مصدره». انتهى كلام الشيخ فتحي محمد سليم رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته إن شاء الله.
أحبتنا الكرام: في خضم هذه الأزمة الاقتصادية ومع وجود أنظمة مبدئية عالمية، فلم يغفل مفكرونا وحملة الدعوة الإسلامية من أنَّ الأمر يحتاج إلى تسطير النظام الاقتصادي وجعله في متناول يد المخلصين من عشرات السنين, يدعون الأمة الإسلامية والعالم أجمع إلى تفهمه وجعله موضع التطبيق باستئناف حياة إسلامية في ظل دولة الخلافة حتى يَعُمَّ العدل والعيش الكريم ربوع العالم أجمع, وما كتاب ((النظام الاقتصادي في الإسلام)) وكتاب ((الأموال في دولة الخلافة)) وكلاهما من منشورات حزب التحرير عنا ببعيد.
حقـًا إنَّ الأمر جدُّ خطير, فالعالم كله يتهاوى ويئن ويرزح تحت وطأة وظلم النظام الاقتصادي الرأسمالي الجشع الذي بنا نفسه على استغلال خيرات الناس, وتكديسها لأفراد معدودين من الرأسماليين والسياسيين, وكلاهما يخدم الآخر, ويستعبدون الناس بلقمة عيشهم, وعقار مستأجر لا يستطيعون امتلاكه رغم أنهم يدفعون ثمنه على مر الأيام, فقد قادوا العالم إلى حربين عالميتين, قتل في الأولى قرابة عشرة ملايين من البشر, وفتل في الثانية قرابة خمسين مليونــًا, أي مبدأ هذا؟! وأي نظام وفكر يجر العالم للويلات واحدة تلو الأخرى؟! وذلك كله بعد ذهاب وزوال دولة الإسلام, دولةِ الخلافة, دولةِ العدل والرعاية.
وما زلنا نعيش تحت ظل دخان هذا المبدأ الرأسمالي, وهذه دولـُه التي ترعاه وعلى رأسها أمريكا, ودولُ أوروبا التي تضع القوانين, وبعد بضع سنين تسعى لتغييرها وترقيعها حسب مصالحها, وذلك لتستطيع امتصاص دماء الشعوب!
إنَّ شباب الأمة الإسلامية يعون على النظام الاقتصادي الإسلامي, ويثقون به, ويعون كذلك على النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يقوم على مقولة مؤسس الرأسمالية آدم سميث: ((دعه يعمل, دعه يمر)) ومقولة: ((الغاية تبرر الوسيلة)) فما دمت تعمل اذهب حيث شئت, فإنتاجك لصاحب رأس المال السيد المستعبد للعبيد, فليس لهم من الأمر شيء, وما دمت تعمل ضمن قوانيننا اذهب إلى غايتك فوسيلتك مشروعة وبالقانون محمية. لذلك وضعت الرأسمالية مؤسساتٍ عالمية ً فرضتها لحماية هذا المبدأ الرأسمالي الجشع.
ومن أهم هذه المؤسسات:
أولا ً: صندوق النقد الدولي الذي أنشئ عام 1945م.
ثانيـًا: البنك الدولي ومؤسساته الخمس الفرعية وهي:
1. البنك الدولي للإنشاء والتعمير.
2. مؤسسة التنمية الدولية.
3. مؤسسة التمويل الدولي.
4. هيئة ضمان الاستثمار المتعدد الأطراف.
5. المركز الدولي لتسوية نزاعات الاستثمار.
وما منظمة التجارة العالمية وأشباهها من المنظمات الأخرى التي تساندها إلا َّ نتاج هذا الفكر الرأسمالي المتوحش الذي أسسها لتعطيه المشروعية العالمية لحماية حيتان الرأسمالية العالمية؛ ليتمكنوا من السيطرة على المال ومؤسساته العالمية والعالم أجمع.
وللوقوف على كيفية طريقة تحكم الدول الرأسمالية ومؤسساتها بالمعاملات النقدية, والأسواق العالمية لا بُـدَّ من استعراض بعض القواعد والمصطلحات الاقتصادية وتبسيطها ما أمكن:
لذلك نقول: تنقسم مراحل نظام النقد الدولي تاريخيًـا إلى مراحل ثلاث سنذكرها ثم نتحدث عن كل واحدة منها باقتضاب شديد.
1. مرحلة نظام القاعدة الذهبية.
2. مرحلة نظام الصرف بالذهب.
3. مرحلة نظام تفرد الدولار, وإلغاء الذهب.
أولاً: مرحلة نظام القاعدة الذهبية:
وجد هذا النظام بشكل بارز في مطلع القرن التاسع عشر, وبقي حتى قبيل الحرب العالمية الأولى, علمًا أنه كان موجود بين أيدي الناس منذ آلاف السنين في التبادلات التجارية.
أما تعريف القاعدة الذهبية فهو: ((نظام يكفل التداول الحر لقطع المسكوكات الذهبية, وتبديل أشكال النقد المتداول بالذهب, وكذلك حرية تصدير الذهب, واستيراده بشكل آخر)).
ويمتاز نظام الذهب بوجود سعر قانوني, بمعنى من البنوك المركزية بما ألزمت نفسها, وكذلك ميزة حرية التبديل المطلقة بالنسبة إلى جميع الناس, فإنَّ هذاالإمتيازات واقيةٍ من الذبذبات والاضطرابات النقدية الحادة التي نشهدها اليوم, ومن حصول هذه الأزمات النقدية المالية.
فمثلا ً إذا كانت إحدى الأوراق المالية مثل الدولار تساوي غرامًا من الذهب, فإنَّ هذا يقتضي عدم طبع أي دولار إضافي دون وضع مقابله غرامًا من الذهب في البنك المركزي الأمريكي. وهذا خلاف ما نعيش اليوم من الطباعة والإصدار الذي أغرق السوق بالدولارات.
وخلافـًا للقاعدة الذهبية, فلا ضمان لمالك الدولار باستبداله بقيمته من الذهب, بل استبدال الدولارات بسندات الخزانة الأمريكية, كما يحصل مع دول الخليج بالبترو دولار، وكذلك مع الصين بفائضها التجاري من ميزان المدفوعات.
ويمتاز نظام القاعدة الذهبية كذلك بتحقيق الاستقرار في الأسعار, وتثبيت قيمة الوحدة النقدية داخليًا وخارجيًا, وتوازن النظام النقدي واستقراره, وكذلك حرية استيراده وتصديره مما يجعل هنالك توازنـًا بين السعر الرسمي, والسعر التجاري, فلا يستدعي الأمر تهريبه من منطقة لأخرى, لتقارب الأسعار التجارية, وثبات السعر الرسمي.
فنظام القاعدة الذهبية يوفر المساواة في المعاملات في السياسة المالية الخارجية بين الدول, فلا تتحكم دولة بأخرى حتى لو كانت أقوى لأنَّ الرجوع إلى سعر صرف الذهب هو الملاذ, وهو نفسه يكون في التجارة الداخلية بسبب قوة الإبراء الذاتية للأوراق المالية ((البنكنوت)) فلا تقلبات في أسعار الصرف بسبب ثبات سعر الصرف لكل غرام من الذهب, ووجود الغطاء الذهبي.
ثانياً: نظام الصرف بالذهب (1944م ـ 1971م)
كان لمؤتمر بريتين وودز سنة 1944م الفضل في إيجاد نظام الصرف بالذهب, وهو أعاد للذهب دوره لولا الشروط التي وضعتها أمريكا بوصفها دولة منتصرة, ولديها ثـلثـا احتياطي العالم من الذهب, فجعلت من الدولار وحده قوة تضاهي الذهب, ومنعت أي نقد من أي جهة كانت أن يستبدل بالذهب إلا َّ الدولار, وحددت صرفه بقيمة خمسة وثلاثين دولارًا للأونصة, وكذلك أن تحدد كل دولة وزنـًا معينـًا من الذهب الصافي لوحدتها النقدية, وذلك من أجل تحديد وتثبيت سعر الصرف, وتأسيس هيئة صندوق النقد الدولي للإشراف على مقررات مؤتمر بريتين وودز, وإعطائه مهمة القروض للدول بشرط تحقيق ما يطلب منها مما جعله أداة مسلطة بيد أمريكا على دول العالم لفرض سيطرتها عليها، وهذا ما تحقق على أرض الواقع.
إلا َّ أنَّ السحر انقلب على الساحر! فأمريكا بقوتها وغطرستها جعلت الحرب سجالا ً بين الذهب والدولار, وظنـًا منها أنها عالجت مشاكلها الاقتصادية, وجاء قرار نيكسون سنة 1971م بإلغاء صرف الدولار بالذهب, وتحويله أي الذهب إلى سلعة تحت وطأة العرض والطلب, فقد أوجدت التربة الخصبة لتوالي الهزات العنيفة في الأسواق المالية، مثـل أزمة جنوب شرق آسيا والبرازيل وروسيا, وكذلك أزمات أمريكا اللاتينية, ناهيك عن أزمة الدولار في ميزان مدفوعات أمريكا نفسها, حتى وصل الأمر إلى بداية أزمات الألفية الثانية في شركات وادي السيلكون, والتي تقارب خمسمائة شركة تكنولوجية, وانهيار العديد من أكبر بنوكها مثـل سوستي جنرال, وليمان برذر, وتراجع أسعار الأسهم والبورصة في وول ستريت, وذلك ما سمي بالاثنين الأسود، الأمر الذي لم يعد يسمى فقاعات وأزمات, بل على الحقيقة إعصار مالي عصف ومحق الربا وأهله.
ورغم تكاتف كبرى دول العالم لمعالجة الأمر, وضخ مليارات الدولارات لطمأنة المستثمرين والناس على مدخراتهم, إلا َّ أنَّ الرتق اتسع على الراتق, وما عادت القوة السياسية والاقتصادية تفيد في إصلاح ما قد فسد وبان عواره للقاصي والداني, وفقدان الثقة به حتى وصل الأمر للحديث عن موات النظام الرأسمالي برمته, وانتهائه من الوجود كالاشتراكية إلى غير رجعة.
ثالثاً: نظام تفرد الدولار وإلغاء الذهب - قرار نيكسون (15ـ 8 ـ 1971م)
إن إلغاء أمريكا لقرار مؤتمر بريتون وودز الذي فرضته بنفسها وذلك عندما تعارض مع الزمن مع مصالحها, كل هذا ناتج عن ميزان القوى العسكرية والسياسية, وقبله أنهي نظام القاعدة الذهبية, فهذه هي أمريكا ونظامها الديمقراطي الرأسمالي النفعي الذي يرقع نفسه, حتى لا يستطيع حمل رقعه التي اختارها, وهذا هو حاله اليوم في وول ستريت يوم الاثنين الأسود, وتراجع أسهمه وبورصاته واقتصاده لأن القرارات والقوانين سهل اتخاذها وتطبيقها وتشريعها, ولكن ما علموا أن ((صدق الشرع من صدق المشرع))، كان قرار نيكسون لمعالجة اقتصاد بلده, وميزان مدفوعاته, ما علم أنـَّها مجرد مسكنات أوصلته إلى داء السرطان المؤدي إلى القطع للأطراف ثم الموت, ولهذا فكل المحللين الاقتصاديين يرون في أزمة وول ستريت أنها بداية انكفاء لأمريكا, وإزالة تربع الدولار على عرش النقد الدولي, وإصابة أمريكا أولا ً بالكساد والبطالة, ومن ثم العالم أجمع كل على قدره, وهذه مصيبة الساكت عن قول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر.
ها نحن نرى اليوم العالم كله يدفع الثمن لأنه لم يقف في وجه الظلم والفساد, فالعالم وخصوصًا المتابع منه لهذه الأزمة يرتجف مما قد يحدث من نتائج. لذلك فالكساد الكبير الذي حدث سنة 1929م لم ينتهِ إلا َّ بالحرب العالمية الثانية.
وما يحدث اليوم تؤكد التقارير في الأمم المتحدة, وصندوق النقد الدولي أنَّ مليارًا من البشر مهددين بلقمة عيشهم, فأعداد العاطلين عن العمل تزداد يومًا بعد يوم, وهذا الأمر يمثل دورة اقتصادية تؤدي بالعالم إلى ويلات جسام.
فمثلا ً العاطل عن العمل ليس لديه قدرة شرائية, مما يؤدي إلى كساد في المبيعات, وهذا بدوره يؤدي إلى قلة الإنتاج, التي تؤدي إلى إغلاق المصانع, فتكون النتيجة في النهاية مزيدًا من البطالة, وهكذا دواليك ...
لذلك فإنَّ التوقعات مزيد من المجاعات والثورات من أجل لقمة العيش, ما لم يمنُّ الله تعالى علينا بنصر من عنده, يؤيد به عمل العاملين المخلصين لتخليص العالم والبشرية مما تئن منه وترزح تحت وطأته, وذلك بإقامة دولة الخلافة, وتحكيم شرع الله تعالى, وإعادة القاعدة الذهبية للتعامل في العالم على أساسها, ودفع الناس إلى التزام عقيدتها حتى تكون الفكرة والعقيدة متجانستين.
وحتى يتم فهم وتسليط الضوء على الأزمة الاقتصادية الحالية فلا بُـدَّ من فهم الأمور الآتية:
أولا ً: إنَّ الأزمة حقيقية وليست مصطنعة. وهي أزمة المبدأ الرأسمالي الديمقراطي.
ثانيـًا: الأزمة ليست وليدة عقد من الزمان, وإنما هي منذ بداية تفرد الدولار, وإقصاء الذهب بوصفه نظام نقد دولي, ولكن القوة العسكرية الاقتصادية لأمريكا, وكثرة الترقيعات أدت إلى إطالة أمد ظهور هذه الأزمة, وانهيار المبدأ الرأسمالي الحر الذي بدأ يقيد ويؤمم نفسه.
ثالثـًا: ركن حرية التملك الذي تقوم عليه الرأسمالية الحرة مما أوجد الأمور الآتية:
أ- الشركات المساهمة:
وهي شركات لا يعرف الشريك, ويقبله حتى لو كان عدوه أو قاتل أبيه, ويتصرف مجلس الإدارة حسب مصلحته, يحكم الأكثرية, ناهيك عن الفساد واللصوصية والجشع وما شابه ذلك لخداع المساهمين والمسؤولين.
ب - البورصات:
وهي سوق منظمة تتداول فيها الأسهم والسندات وحصص التأسيس. وهي أشبه بنوادي لعب القمار, فالمضاربون يتحكمون بالسوق, فيطرحون بعض الأوراق المالية للبيع, فإذا هبط السعر ارتجف صغار حملة الأوراق المالية, فيبيعون أوراقهم, ثم يعاود المضاربون الكبار لشراء هذه الأوراق محققين أرباحًا هائلة, فتنهار السوق, وتلحق بها باقي الأسواق المجاورة, وهكذا دواليك, وتتفاقم الأزمات حتى يصل الأمر إلى مرحلة الكساد, وقد يؤدي هذا الأمر إلى إفلاس الدول نفسها كما أفلست آيسلندا.
جـ- الربا ((الفوائده)):
وهي مال يؤخذ من مال, أي تأجير المال, فالمال عندهم يلد المال, وفي حال تأخر السداد يلد المال مولودًا آخر وهو ما يسمى بـ ((الربح المركب)) ومن هنا ينشأ عدم القدرة على السداد, ومن ثم التضخم وغلاء الأسعار, ثم الكساد, وهذا هو الذي نعيشه اليوم فلا المقترض ولا المقرض سعداء أو في أمان, بل كلاهما كالذي يتخبطه الشيطان من المس كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.....)البقرة275 . ليس هذا فحسب, بل إنَّ الله تعالى قد محق مالهما كذلك! فلا هما في مأمن ولا مالهما! وليس أدل على ذلك من واقع الذين يتعاملون مع البنوك, والقروض الربوية, فقد خسروا الكثير الكثير, وقد تبقى معهم شيء من المال هم حائرون فيه: أيبقونه في البنوك المنهارة؟ أم يضعونه في السلع الكاسدة متراجعة الأسعار؟ أم يحولونه إلى ذهب لا يعترف العالم به سيدًا للنقد العالمي؟ أم يبقونه دولارًا ملكـًا بلا مملكة, أو عملة صعبة أصبحت ما أهونها وما أخسها حتى عند أهلها والناس أجمعين؟ هذا هو صاحب رأس المال الحر الذي جناه من الربا, من أفواه الجياع, فمن المعقول أن يسرق من صاحب المال الكثير، أما أن يسرق ممن لا مال عنده إلا َّ قوت يومه فهذا عجب عجاب وأمر مستهجن! وهذا هو الربا بعينه, السرقة من المحتاج للاقتراض! هؤلاء المرابون لا يوجد عندهم مثـل قول الله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً...} البقرة245.
ولا مثـل قول الله تعالى:{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} البقرة280 . ولا مثـل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من فرَّج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة». فلا قرض, ولا نـَـظِرَة إلى مَـيسرة, ولا تفريج كربة من كرب الدنيا, تفرِّج كربة من كرب يوم الحساب بحساب مضاعف, يربو عند الله الكريم الذي لا تنقص خزائنه ولا تنفد, بل يُكرم صاحبها.
د- صندوق النقد الدولي والمنظمات المالية العالمية:
عندما تفاقمت أزمة النظام النقدي بعد الحرب العالمية الثانية, وتفردت أمريكا بوضع شروطها حتى على الدول المنتصرة الحليفة لها, وذلك في مؤتمر بريتون وودز 1944م أوجدت تلك المنظمات النقدية مثـل البنك الدولي, وما تبعه مثـل نادي باريس لتنفيذ شروط المنتصرين, والمحافظة على مكاسبهم ووضعهم المالي, وبنود اتفاقية بريتون وودز التي جعلت من الدولار نقدًا بديلا ً عالميًا للذهب, وتثبيت أسعار صرف العملات والذهب, وأعطت الصندوق منح القروض قصيرة الأجل للدول الأعضاء ضمن شروط يفرضها الصندوق, وتلتزم بها الدول, فأبقى الدول الغنية على غناها, وزاد الدول الفقيرة فقرًا.
هـ- حقوق السحب الخاصة:
وهو قرض من الدول التي ميزان مدفوعاتها فيه فائض لصالح الدول التي ميزان مدفوعاتها فيه عجز مثـل أمريكا, وينظم هذا القرض من صندوق النقد الدولي, ولا تلزم الدولة المدينة بتسديد المبلغ كاملا ً, بل ثلاثين بالمائة منه فقط وسبعين بالمائة تبقى معلقة في الهواء, ومعروف أنَّ الدول النفطية هي الدائنة, وأمريكا دائمًا مدينة, فسبعين بالمائة من القرض أصبحت هبة مجانية من الدول النفطية إلى أمريكا وبريطانيا.
كل ما سيق وتـمَّ تعداده وإيضاحه تمَّ القيام به لتلافي وتأخير وقوع هذه الأزمة المالية العالمية, والتي سببها أمريكا, وتفرد الدولار, وإلغاء الذهب, ومع ذلك وقعت ثلاث أزمات عالمية أظهرت المشكلة الاقتصادية جلية واضحة, وحصولها لا محالة واقع. وهذه الأزمات هي:
أولا ً: أزمة ارتفاع النفط سنة 1973م.
ثانيـًا: أزمة المديونية سنة 1982م.
ثالثـًا: ظهور عجز الاقتصاد الأمريكي عقب أحداث 11/ أيلول سبتمبر 2001م.
وقد تبع تلك الأزمات إفلاس العديد من الشركات نتيجة التلاعب والاختلاس, وبسبب تقييم الأسهم والسندات الأمريكية بأعلى من قيمتها الحقيقية, والتخفيضات المتتالية لسعر الفائدة على الدولار.
ففي سنة 2002م جرى التخفيض إحدى عشرة مرة في غضون اثني عشر شهرًا, مما أوجد الشكوك لدى المستثمرين الأجانب والاقتصاديين الأمريكيين, والشعب الأمريكي بقوة اقتصاد بلدهم مع تلمسهم لواقع التضخم نتيجة ارتفاع الأسعار, وازدياد العاطلين عن العمل, ما أدى إلى ظهور الكساد في الاقتصاد الأمريكي, وترقب الأخطر, وهو الانهيار الاقتصادي الذي حصل في بداية شهر أيلول عام 2008م في يوم الاثنين الأسود الذي أرعب العالم, ولأنَّ الاقتصاد العالمي مربوط بالاقتصاد الأمريكي, فطالت الخسائر كل دول العالم بلا استثناء, لا بل إنَّ دولة مثـل آيسلندا أعلنت إفلاسها, وباكستان مرشحة كذلك للإفلاس, وسارعت دول العالم لضخ الأموال في بنوكها بمئات المليارات, حتى لا تشهر إفلاسها, وحتى لا تفقد ما تبقى من ثقة المودعين, وكل هذا لتأجيل وقوع ما يشبه الكساد العظيم الذي وقع سنة 1929م واستمرَّ حتى قبيل الحرب العالمية الثانية, وعقد مؤتمر بريتون وودز لتنظيم شؤون النقد الدولي.
وما أشبه الأمس باليوم حيث تنادت عشرون دولة لتدارس وتدارك وقوع الكارثة, في المؤتمر الذي عقد في واشنطن والذي سمي بمؤتمر العشرون، ولم يسفر عن أي نتائج حسنة, والمتوقع حدوثه هو مزيد من الترقيع للنظام الرأسمالي والأزمة المالية, بتأجيل وقوعها الكارثي كإعصار مدمر يرفض الترقيع, فيغير الواقع الدولي. وإما اختلاف مبدئي لحل الأزمة بإعادة نظام الذهب بوصفه نقدًا دوليًا, وهو أيضًا سيؤدي إلى تغيير الواقع الدولي, وفي كلا الأمرين نرجو الله العلي القدير أن يدبر لهذه الأمة خيرًا بأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم, وينصر الإسلام والمسلمين, بإقامة دولة الخلافة التي تنقذ البشرية من شر الرأسمالية الجشعة المتوحشة, وإنَّ الله على ذلك قدير وبالإجابة جدير, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.