بالترويض والتدجين والتضليل احتنكوا الأمة
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
في زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام دار حوار عقائدي وفكري بينه وبين قومه نقله إلينا القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ)[الشعراء: 69/77]. وفي موضع آخر من الكتاب الكريم يقول جل ثناؤه : (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ )[الصافات: 85/87]. أي ما حجتكم ودليلكم بأن هذه الأصنام آلهة؟ فهل تحسون بنفعها أو ضرها؟ وهل تخلق كما يخلق الله؟ وهل تسقيكم وتخرج لكم من الأرض أقواتكم. وهل تسمع وتبصر كما تسمعون وتبصرون ؟ وبعد هذا وذاك من الذي خلقكم ومن الذي خلق هذا الخشب وهذه الحجارة التي صنعتم منها أصنامكم وأوثانكم وسميتموها بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان. ثم (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[الصافات: 95/96]. إلى غير ذلك من الحجج والبراهين المفحمة لهم. ولَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّة عَدَلُوا إِلَى أَخْذِهِ بِالْيَدِ وَالْقَهْر. أي حينما لم يتغلبوا عليه فكريا بالحوار والنقاش تحولوا إلى الوعيد والتهديد. وذلك باستفزاز الشعور عن طريق إثارة غريزة حب الحياة والتعلق بالدنيا لعله يرجع: ( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ)[الصافات: 97]. غير أن سيدنا إبراهيم لم يعبأ بوعيدهم وتهديدهم لإدراكه بأنهم لا يملكون شيئا من أمر هذه الحياة. وأنه لا سلطان لهم عليه. فردّ عليهم قائلا بثقة المؤمن الواثق بالله : ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ )[الشعراء: 78/82]. أي ما أوهن ما تكيدون. وليؤكد لهم ذلك أثار عدة قضايا عقائدية ليس لهم باع في مناقشتها أو الردّ عليها. أثار معهم مسألة الخلق والإيجاد. (الله الذي خلقني). ثم مسألة الهداية (وهو الذي هداني وأرشدني إلى طريق الحق) ثم مسألة الرزق ( هو الذي يطعمني ويسقيني ) ثم مسألة القضاء ( فإذا مرضت وأصابني وعك فهو الذي يشفيني ) ثم مسألة الآجال ( هو الذي يميتني ) وفي الأخير مسألة البعث والنشور والجزاء والعقاب ( وهو الذي يحيني، وهو من أطمع في رحمته وغفرانه يوم الدين ). فماذا بقي في أيديكم من أمر لتقهرونني به بعد هذا كله؟ فافعلوا بي إذا ما شئتم، (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الصافات: 99]. فهذا الردّ القوي من سيدنا إبراهيم عليه السلام يبين لنا أنه ليس لأي كائن من كان مهما بلغ من الطغيان والجبروت سلطان مطلق على العباد.
وقد أطلعتنا سور القرآن الكريم على عدة حوادث مماثلة لهذه القصة. من بينها ما حصل مع سيدنا موسى عليه السلام والسحرة الذين استنجد بهم فرعون ليدحضوا بسحرهم حجج موسى. ففرعون طغى في الأرض وزعم أنه الإله المعبود ( فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)[النازعات:24] وفي آية أخرى : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[القصص 38]. ولما وقعت المحاجّة بينه وبين سيدنا موسى ورأى آيات الله الظاهرة طلب بإحضار السحرة لعلهم يدحضون حجته ويتغلبّون عليه. غير أنّ السحرة سرعان ما انقلبوا عليه وتخلوا عنه وأمنوا بسيدنا موسى لما ظهرت لهم آيات الله وحججه وعرفوا الحق من الباطل. فما بقي من سلاح آخر في يد هذا الطاغية المتجبّر إلا سلاح التهديد والوعيد بالصلب والتقطيع والقتل. لكن ذلك لم يؤثر في نفسية المؤمنين الجدد. ووقفوا أمامه وقفة شموخ وعز، راشقين كبرياءه بكلمات تهز عروش الطغاة أمثاله : (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )[طه: 72/73]. أي لا نفضلك على موسى الذي أتانا بالبراهين والأدلة القاطعة فكفرنا بك وأمنا به، وأما تهديدك ووعيدك فلن يزيدنا إلا ثباتا واحتسابا. فافعل بنا ما شئت فإنك لا تملك من هذه الدنيا إلا التنكيل والتعذيب، وأما الذي يملك الدنيا والآخرة، والموت والحياة، والبعث والنشور هو الله الذي نطمع أن يغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر ويرحمنا برحمته الواسعة.
هكذا هم عباد الله المؤمنون المخلصون إذا ما فقهوا معنى الحياة وأدركوا أن هذه الدنيا ما هي إلا معبر للآخرة، وتعلقت هممهم برضوان الله، دخلوا ضمن الفريق الذي قالت فيهم الآية : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ). والسنة الشريفة لا تخلوا هي الأخرى من ذكر هذه المواقف الإيمانية. لتربي المؤمنين على الصبر والثبات على الحق وتحمل الأذى في سبيل هذا الدين. ففي الحديث الشريف " عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمُوتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ." [سنن أبي داود].
إن هذا الصنف من المؤمنين الذين جاء ذكرهم في الكتاب والسنة، لم ولن ينقرض من الدنيا. فاليوم كما هو بالأمس. لازال هناك رجال ونساء صادقين في إيمانهم ومخلصين لربهم قد قهروا الطغاة والجبابرة بقوة هذا الإيمان، وبثباتهم على الحق. واستعصوا عليهم فما استطاعوا تضليلهم ولا ترويضهم ولا تدجينهم. نعم هم الذين قهروا الجبابرة والطغاة وليس العكس. فالكثيرون يخطئون حينما يظنون أن الجبابرة قد تغلبوا على المؤمنين وقهروهم بقوة الحديد والنار. وهذا خطأ. فالذين قُهِرُوا هم الطغاة وليس المؤمنون. ذلك بأن المجرمين بذلوا كل ما في وسعهم وفعلوا بالمؤمنين كل الأفاعيل. من رمي بالرصاص، وتعليق في حبال المشانق، وحرق بالنار، وتمزيق للأجساد، وتكسير للعظام، وسلخ للجلود، وقلع للأظافر، واغتصاب وانتهاك للأعراض. ومع ذلك باؤوا بالفشل.
فوتيرة الإيمان لازالت في تصاعد مستمر، ونسبة الملتحقين بركب الدعوة إلى الله لازالت تتضاعف يوما بعد يوم، ونداءات الإيمان لازالت تدندن في كل مكان. والمعتقلون في سجون الظلمة والمهجرون من ديارهم لازالوا متمسكين بعقيدتهم، ومقاومة أشكال الاستعمار وعملاءه، وصراع الأفكار الدخيلة علينا لازال محتدم. وما بقي لهؤلاء الطغاة المجرمين إلا العض على الأنامل وإنفاق الأموال في الباطل لصد المؤمنين عن دينهم ثم من بعد ذلك سيغلبون وتعود عليهم أموالهم وجهودهم وكل ما أنفقوه في سبيل الطغيان والجبروت حسرة عليهم. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)[الأنفال: 36]. وهكذا يظهر لنا مما سبق أن المجرمين الضالين والمضلين يفتقرون للسلطان المطلق الذي يمكنهم من إخضاع أعناق المؤمنين الواعين. أما غيرهم فلا حاجة للسلطان لترويضهم وتدجينهم وتضليلهم. بل يكفي ترويضهم وتحريفهم عن الحق بأفكار فاسدة. ويمكن تدجينهم بالترويع والترهيب والتافه من المتاع. ويمكن تضليلهم بالتلاعب بعقولهم وتخليط الأمور عليهم.