الإثنين، 23 جمادى الأولى 1446هـ| 2024/11/25م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

التطرّف والإعتدال

بسم الله الرحمن الرحيم

 {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ }(البقرة: ١٠٩)

 كثيرا ما نسمع هذه الأيام على ألسنة الحكام والساسة الغربيين وأعوانهم من حكام المسلمين ألفاظاً مثل التطرّف والإعتدال، والتشدد والوسطية، والأصولية وغيرها من الألفاظ التي ترمي إلى التمييز بين إسلام يقبله الغرب وإسلام مرفوض عندهم، أو للتمييز بين حركات مقبولة أو مرفوضة عندهم، ولكن قبل الخوض في هذه المسألة لا بد من الوقوف عند حقيقة أقرّها الإسلام قبل 14 قرناً، وهي أن الغرب لن يرضى عن الإسلام مهما كان شكله فلا إسلام معتدل ولا متطرّف، ولا وسطي ولا أصولي، بل إن الإسلام منبوذ عندهم جملةً وتفصيلاً، وما التمييز بين متطرّف ومعتدل إلا من باب ذر الرماد في العيون لصرف المسلمين عن الإسلام بالكُليّة، وذلك ما أخبرنا به سبحانه وتعالى في قوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم (البقرة120) فما هي حقيقة هذا التصنيف بين معتدل ومتطرّف، ومتشدد ووسطي وغيرها من تلك الأوصاف؟

إن الناظر في حال الأمة الإسلامية اليوم يرى أن هذه الأمة وبعد انهيار كيانها السياسي، وتقسيمه على يد المستعمر، وبعد زمن مرير من سقوط حضارتها وانحطاطها عن ركب الأمم، بدأت اليوم تدب فيها حيوية الإسلام، وبدأت تفيق من غفوتها شيئاً فشيئاً، مما أيقظ عيون الغرب عليها، بل أدهشه ما رأى من صمودها وجلَدِها، وكأن لسان حاله يقول: «أليست هذه هي الأمة التي قَتَلت أمها في إستانبول قبل تسع وثمانين سنة؟ أليست هذه هي الأمة التي مزقتُها إلى ما يزيد على خمسين مِزقة حتى لا تقوم لها قائمة؟ ألم نضع عليها حكاماً نواطير لنا يحرسون مصالحنا، يقتّلون أبناءها المخلصين، ويسومونهم سوء العذاب حتى تبقى في الدرك الأسفل من الأمم؟ ألم نغرس في قلبها خنجراً مسموما يُسمّى «إسرائيل» ليُبقي على ضعفها وهزالها؟ ألم ننهب خيراتها وثرواتها وننشر فيها كل أنواع الفساد والأمراض من قومية وقبلية وغيرها؟ فلو أن ما نزل بهذه الأمة قد نزل بالجبال الراسيات لهدّها! فما بالها وبعد كل ذلك قد بدأت تتعافى من جرحها، وتفيق من غفوتها، وتكاد تقف على قدميها من جديد؟ بل وتكاد تقف في وجهنا نداً لِنِدّ؟؟»

نعم لقد هالَ الغرب ما رأى من صمود هذه الأمة العظيمة، حتى جُنَّ جنونه، وفقد صوابه، فراح يشنُّ عليها حروبه الشرسة، تارة بالتصريح وتارة بالتلميح، تارةً يعلنها حرباً صليبية على الإسلام كما صرّح بذلك جورج بوش في أكثر من موضع، وتارة بالتضليل والتلبيس على المسلمين، حتى يتسنى لهم القضاء على الإسلام قضاءً مبرماً، وما فكرة التطرف والإعتدال إلا حلقة في مسلسل الحرب الخفية على الإسلام والتي لا بد من كشفها وإظهار حقيقتها للأمة.

إن ألفاظ التطرّف والإعتدال لم ترد في النصوص الشرعية ولم يستعملها فقهاء الإسلام في المعاني الشرعية فليس لهما إلا الدلالة اللغوية.

والتطرّف في اللغة: هو مجاوزة حدّ الشيء، فيقال: تَطرَّفت الناقة أَي رَعَتْ أَطرافَ المرعى ولم تَخْتَلِطْ بالنوق، رجل مُطرِف: بعيد عن قومه، وإذا أردنا أن نستعمل اللفظة في معنى شرعي نقول: إن التطرّف هو تجاوز الحدود التي وضعها الشرع، أي مخالفة أحكام الإسلام. أما الإعتدال في اللغة فمعناه: الإستقامة والإستواء، فهم يقولون: إستقام الشيء إذا استوى واعتدل، وبهذا يصبح معنى الإعتدال شرعاً هو الإلتزام بالأحكام الشرعية والإستقامة عليها.

فالذي يزيد أو يُنقِص في عدد ركعات الفريضة، أو يطوف حول الكعبة في الحج عشرة أشواط بدل سبعة، أو يمتنع عن الزواج لأنه يلهي عن العبادة، ويقتصر على العبادات ويترك باقي الفرائض فذلك يعتبر متطرّفاً لأنه تجاوز حدود الشرع التي وضعها الله سبحانه.

وأما الذي يلتزم أحكام الله تعالى ويبتعد عن نواهيه، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقول الحق أينما كان ويحمل الدعوة في الأمة ليعود الحكم بما أنزل الله، ويلتزم حدود الله كما هي حتى لو ناقضت مصالحه وأهواءه، فذلك هو المعتدل، قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (البقرة229)، فالتطرّف شرعا هو تعدي حدود الله، والإعتدال هو التمسك والإلتزام بشرع الله في كل صغيرة وكبيرة.

هذه حقيقة معاني التطرف والإعتدال عند المسلمين فيما أخبر به الحق سبحانه وتعالى في القرآن، أما حقيقة معاني التطرف والإعتدال التي يريدها الغرب وعلى رأسه أمريكا فهي مغايرة تماماً لما يفهمه المسلمون عن معنى الإعتدال والتطرّف، فالمتطرف عند الغرب هو كل مسلم يلتزم أحكام الإسلام إلتزاما كاملاً، ويدعو إلى تطبيق الإسلام في واقع الحياة، وكل من يرفض اللعبة الديمقراطية، أو يرفض تطبيق أحكام الكفر، أو يدعو إلى الخلافة أو إقامة دولة إسلامية، فكل هؤلاء في نظر الغرب متطرفون سواءً أكانوا أفراداً أم جماعات، فموسوعة «سبكتروم» الأمريكية عرّفت مصطلح الأصولية بقولها: «الأصولية، مصطلح جامع يشير إلى المجموعات الإسلامية المتعددة التي تعتمد الإسلام كسلاح سياسي، وتتطلّع إلى دولة إسلامية. وهذا يعني، قيام نظام الدولة بأكمله على الشريعة الإسلامية...» ويقول البروفيسور الأمريكي أموس بيرلموتر AMOS PERLMUTTER - في مقال نشرته صحيفة الواشنطن بوست في 19/1/1992م: «إنّ الأصولية الإسلامية هي حركة عدوانية وقائمة على الإرهاب والفوضى كالحركات الإرهابية والحركات البلشفية والفاشية والنازية».

وقد جيّشَ الغرب وعلى رأسه أمريكا جيوشاً من المغرضين المضِلّين لنشر معاني التطرف والإعتدال التي يريدها، واستخدم لذلك حكام المسلمين وعلماء السلاطين في سلسلة من الأعمال التي يراد من ورائها تطويق صحوة المسلمين وخنقها، ومن مظاهر هذه الحملة على الإسلام ما نسمع كل يوم عن الدعوة إلى تطوير الخطاب الديني، وتطوير مناهج التعليم، وتأهيل الخطباء والوعاظ الذين يرضى عنهم النظام فلا يسمح لغيرهم بالخطابة، بل إن مواضيع الخطب في المساجد لا بد أن تأخذ موافقة الأنظمة العميلة للغرب، حتى أصبحت المساجد في بعض البلاد الإسلامية منابراً للتسبيح بحمد الأنظمة، فالسعودية مثلاً فرضت رقابة الكترونية على المساجد بوضع كاميرات على المسجد والمصلين والإمام، ومنعت العلماء من إصدار الفتاوى إلا الذين يسمح لهم النظام بذلك، وفي رمضان هذا العام فرضت على كل من يريد الإعتكاف إعطاء إسمه ومعلوماته كاملة حتى يسمح له بالإعتكاف، أما في تونس فقد فرضت على المصلين أن يحملوا بطاقة مغناطيسية عليها إسمه ومعلوماته والمسجد الذي ينوي أن يصلي فيه، وطرد كل مسلم لا يحمل هذه البطاقة.

أما فيما يتعلّق بالحركات والجماعات الإسلامية، فقد أظهر الغرب سياسة جديدة تقوم على اساس دعم الحركات الإسلامية «المعتدلة» للوقوف في وجه الحركات التي تسميها «متطرّفة» لكي يتسنى لهم هزيمة الإسلام فكرياً، وفي هذا السياق.يقول توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، في مقال له بعنوان «معركة القيم العالمية»: «إننا لن نستطيع هزيمة الأيدولوجيا المتطّرفة عند المسلمين عن طريق القتل أوالسجن، بل لا بدّ لنا من أن نهزمها فكرياً، وحتى نستطيع أن نهزم أيدولوجيا الإرهاب والتطرّف لابد من دعم الإسلاميين المعتدلين في العالم الإسلامي ليخوضوا هم أنفسهم هذه المعركة داخليا»، أما وزير التخطيط السابق في وزارة الخارجية الأمريكية ريتشارد هاس فيوصي بـ «إيصال حركات إسلامية معتدلة إلى الحكم عن طريق الإنتخابات بشرط القبول باللعبة الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ونبذ العنف والإرهاب»، وكذلك قدّمت زينو باران، مديرة قسم الأمن الدولي وبرامج الطاقة في مركز نيكسون توصية للكونغرس الأمريكي قالت فيها: «إن أفضل الحلفاء في هذا الصراع هم المسلمون المعتدلون، ويجب إعطاؤهم مساحة سياسية كي لا يبقى الإسلام أسيراً في أيدي المتطرّفين، بينما يبقى المسلمون المعتدلون على الهامش».

أما الصحفي دافيد كابلان في دراسة نشرت في (US News & World Report) يقول: «يتفق كبار موظفي الإدارة الأمريكية على أن العدو العقائدي الأكبر هو الصورة المسَيّسة للإسلام المتطرف وأن واشنطن وحلفائها لا يستطيعون مواجهتها لأنها تزداد قوة)، وفي مقالة له بعنوان «القلوب والعقول والدولارات» يقول: (إن أميركا تنفق الملايين لكي تغير صورة الإسلام، ليس فقط داخل العالم الإسلامي ولكن داخل الإسلام ذاته، ويقول: إن واشنطن ترى أن العقيدة السياسية في الإسلام هي الأسباب الجذرية للإرهاب وليس الفقر أو السياسة الخارجية للولايات المتحدة».

ويكمل كابلان «إن حكومة الولايات المتحدة تقود حملة من الحرب السياسية لا مثيل لها منذ قمة الحرب الباردة، ولهذا قامت واشنطن وبهدوء بتمويل برامج إسلامية للراديو والتلفزيون، وتدريس مقررات بالمدارس الإسلامية، ودعم مؤسسات وجماعات بحث إسلامية، وورشات عمل سياسية، أو أي برامج تدعم الإسلام المعتدل. وتتجه المساعدات الفيدرالية إلى ترميم المساجد والمحافظة على نسخ القرآن التاريخية القديمة وصيانتها، وحتى بناء مدارس إسلامية... وتقوم محطات فردية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية بضخ المال من أجل تحييد الأئمة المعادين للولايات المتحدة وأتباعهم. يفسر لنا هذا الموقف أحد الموظفين الرسميين المتقاعدين حديثا قائلا: «إذا وجدت الملا عمر يفعل هذا في أحد أركان الطريق، فكن أنت الملا «برادلي» على ركن الطريق الآخر لتقاوم وتفسد ما يفعل» لقد قام عملاء الاستخبارات بتشييد مواقع إسلامية زائفة على شبكة المعلومات ورصد وسائل الإعلام والأنباء العربية».

ماأشبه اليوم بالبارحة! فهذه الأعمال تذكرنا بحملة نابليون الصليبية على مصر عندما خاطب أهل مصر قائلاً: «إنني قدمت إليكم لأخلّص حقكم من يد الظالمين.. إنني أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم...أيها المشايخ والقضاة، قولوا لأمتكم أن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون..» (عجائب الآثار في التراجم والآثار- عبد الرحمن الجبرتي ص 183) مع أنه كان في نفس الوقت يقصف الأزهر الشريف بالمدفعية !

هذا غيض من فيض الأعمال التي يقوم بها الغرب لا لإقناع المسلمين بالتعريف الغربي لـ«الإسلام المعتدل» فحسب، بل لطمس معالم الإسلام كلياً ومحوها عن الوجود ليطفئوا نور الهدى والحق عن الناس، ولكن الفضل والمنة لله سبحانه وتعالى، الذي تكفل بحفظ دينه، وسخر لهذا الدين من يدافع وينافح عنه، ليعم الحق والعدل وجه الأرض ويظهر دين الله رغم كيد الكائدين.  يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (التوبة:33)

 

اعده الى الاذاعة

ابو زيد

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع