السياسة...؟
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
قيل لأحدهم وقد وضع عَلَمين على قميصه (أحدهما لدولة غرّبية والآخر لدولة عربية)، لماذا تضع هذين العلمين على قميصك؟! فأجاب مندهشاً، وما الضرر في ذلك؟! فقيل له ألا تعلم بأن مثل هذا الفعل حرام؟ فقال وكيف ذلك؟! قيل له، أما العَلَم الأول فهو رمز الظلم والقتل والإستعمار واستباحة دم المسلم ونهب خيراته، وأما الآخر فهو رمز الإنفصال والإنقسام عن جسم الأمة ورمز الفرقة و الوطنية والقومية، فلا يجوز موالاة أحدهما أو كليهما. فقال آخر كان يقف بجواره وما لنا وللسياسة؟ وما علاقة الدين بالسياسة؟ فلنضع السياسة على جانب والدين على جانب آخر.
إنّ مثل هذه العبارات تطفوا على السطح عادة عندما يخوض الناس في حديث سياسي ما، ويعلّلون ذلك بقولهم إنّ السياسة هي المكر والكذب والدهاء والخديعة، وهذه الصفات بعيدة كل البعد عن مفهوم الدين الذي يتصف بالرحمة والصدق والأمانة والخير والسلام والمحبة، فكيف للدين الذي يدعو الى الصفات الخُلقية الرفيعة أن يكون له علاقة بالسياسة البعيدة كل البعد عن القيم الأخلاقية؟ فالجمع بينها جُرم فاحش. ولذلك فإن السياسة لا علاقة لها بالدين، وعليه لا بد من فصلهما عن بعضهما البعض.
وهناك عبارات أخرى نسمعها بين الفينة والأخرى على الفضائيات أو نقرأها في الصحف والمجلات على ألسن من يُسمَّون بالمفكرين السياسيين، من مثل أن السياسة فنّ الممكن أو الرضا بالأمر الواقع، وبناءً عليه لا تستطيع الأمة أن تكون سياسية لا من قريب ولا من بعيد، لأنه لا يوجد لها إمكانيات مادية أو فكرية كي تفرض أمرها أو تغير واقعها، بل إن الإمكانيات كلها محتكرة في يد الغرب، والأمة لا تملك إلا أن ترضى بالأمر الواقع وتسير حسبه، فالواقع الآن، وعلى سبيل المثال، يفرض على الأمة الإذعان للغرب وشروطه، والقبول والتسليم باحتلال أرض فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها. وعليه فإن الأمة لا تستطيع أن تكون فاعلة في الموقف الدولي بل خاضعة له.
فما هي حقيقة هذه المقولات وما هو واقعها؟ وما هو التعريف الحقيقي للسياسة؟ وما هي نظرة الإسلام للسياسة؟ وهل حقيقة أن الإسلام ليس له دخل بالسياسة؟. ففي هذا المقال سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات من وجهة نظر الاسلام.
جاء في لسان العرب لإبن منظور: «والسَّوْسُ: الرِّياسَةُ، يقال ساسوهم سَوْساً. وسَاس الأَمرَ سِياسةً: قام به. والسِّياسةُ: القيامُ على الشيء بما يُصْلِحه. والسياسةُ: فعل السائس. يقال: هو يَسُوسُ الدوابَّ إِذا قام عليها وراضَها، والوالي يَسُوسُ رَعِيَّتَه». فالسياسة في اللغة، هي القيام بالأمر ورعايته، سواء كان هذا الأمر متعلقاً بالإنسان أم بالحيوان أم بغيره.
أما السياسة في الإصطلاح الشرعي فإننا نستطيع استخلاصها من حديث الرسول «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» رواه البخاري. أي أن الأنبياء هم من كانوا يسوسون ،أي يقومون برعاية شؤون بني اسرائيل وأمرهم، وأن من يقوم برعاية أمر الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم الخلفاء فأًمر الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعتهم لأن الله سائلهم عما استرعاهم.
فالسياسة من منظور الإسلام هي الرعاية والمسؤولية والقيام على شؤون الناس بما يُصلحهم حسب أحكام الإسلام وشريعته، وهذا ما يقرره حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يرويه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قَالَ أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُ وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». وعليه فإن السياسة في الإسلام هي رعاية شؤون الأمة داخلياً وخارجياً. أي تطبيق أحكام الإسلام على الناس في داخل دولة الإسلام تطبيقا كاملا شاملا لجميع مناحي الحياة، وهذا ما يسمى بالسياسة الداخلية في الإسلام، وحمله الى العالم لتطبيقه على الناس، وهذا ما يسمى بالسياسة الخارجية في الإسلام. فالإسلام يفرض على المسلمين العيش بحسب أحكامه وقوانينه أي يفرض عليهم العمل بالسياسة، لأن فيه من الأحكام ما يُصلح شأن البشر في كل زمان ومكان، وعليه فإن الإسلام دين سياسي من الدرجة الأولى، فالرسول وصحابته من بعده والخلفاء كانوا سياسيين من الطراز الأول، لأنهم طبقوا الإسلام في الداخل وحملوه لهداية البشر في الخارج.
وبناءً على ذلك فان السياسة فرض، فقد فرضها الله على الحاكم وجعلها مسؤولية في عنقه يحاسب عليها يوم القيامة، ولقد فرض الله كذلك على المسلمين العمل في السياسة، أفرادٍ وجماعات وأئمة وعلماء، عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاسبة الحاكم اذا قصّر في حكمه أو إذا خالف حكما شرعيا. فلا ينبغي لعالم أو إمام أن يجبن ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا رأى ظلم الحاكم يقع على الرعية، ولا يحق للحركات والأحزاب الإسلامية ولا أئمة المساجد غض البصر عما يحدث للأمة من قتل وسفك دم دون التعرض له وبيانه للناس وتوعيتهم عليه. إنه لمن المبكي أن ينشغل أئمة المساجد في الحديث عن الإنخراط في الإنتخابات والذوبان في المجتمعات في الوقت الذي تُقصف فيه الباكستان وأفغانستان، وفي الوقت الذي تتعرض فيه السودان الى جريمة الإنقسام. قال الله تعالى: ) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران 144). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم «...ثُمَّ قَالَ كَلَّا وَاللهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيْ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا» رواه أبو داوود.
ولم تقتصر السياسة على الحُكّام بل فرضها الله سبحانه وتعالى على الرجل فهو يعمل بالسياسة في بيته برعايته شؤون البيت، فلقد أوجب الشرع عليه تأمين المأكل والملبس والمسكن لمن يعول، كما أن المرأة تعمل في السياسة لأن الإسلام فرض عليها رعاية شؤون البيت الداخلية وهي مُحاسبة على ذلك، وحتى العبد يعمل في السياسة لأن الله فرض عليه رعاية شؤون مال سيده وهو محاسب على ذلك.
وعليه فإن العبارات التي ذ ُكرت سابقا لا علاقة لها بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد، وهي تخالف مفهوم السياسة في الإسلام، ولقد وضعها الغرب جزءاً من غزوه الفكري للأمة الإسلامية من أجل تمييع مفهوم السياسة الحقيقي عند المسلمين.
أما مقولة أن السياسة هي الكذب والخداع، فان هذه المقولة تعود الى النظرية الميكافيلية، والميكافيلية هي مبدأ سياسي ابتدعه الفيلسوف الإيطالي ماكيافيلي المتوفي عام 1527م ودَوَّنه في كتابه الأمير. ويقضي هذا المبدأ بإيثار الغشّ والخداع والمراوغة والتسويف وسوء النية والدهاء والأنانية في تحقيق الأهداف المنشودة، دون إقامة أي اعتبار إلى مبادئ الدين والأخلاق، على أساس أنّ الغاية تبرّر الوسيلة.
فهذه التعريفات أوجدها سياسيو الغرب بداية من أجل تبرير ما يقومون به من ظلم للبلاد وللعباد، ومن ثم قاموا بغرسها في نفوس أبناء الأمة الإسلامية كي يصرفوا عنهم الفهم الحقيقي للإسلام بأنه نظام حياة متكامل، وبالتالي لا يعملوا على إيجاده في واقع الحياة، لانه بعيد عن خُبث السياسة ومكرها، ودهاء السياسيين ومراوغاتهم.
وأما مقولة أن السياسة فن الممكن، فإن الغاية منها هو جعل الأمة تُقرّ وتقبل بالأمر الواقع والإنهزامية. فهي لا تمتلك الإمكانيات الفكرية والمادية لتغيير واقعها الى الأحسن، وبالتالي يجب أن تبقى في ذيل الأمم، وأن كل محاولة للتغيير والنهوض بالأمة وإعادتها الى مجدها وعزها حتما ستؤول الى الفشل، وبالتالي فإن نهضة الأمة وتغيير حالها ضرب من الخيال لا يستطيع أحد مهما كانت قوته تحقيقها.
والرد على كل من يتشدق بهذه المصطلحات الغربية الغريبة، هو أن العقيدة الإسلامية عقيدة سياسية، فمنها انبثقت سياسة داخلية لم يوجد مثلها في التاريخ، فكان منها النظام الإجتماعي الذي حدد العلاقة بين الرجل والمرأة ورعاها أدق رعاية، و حافظ من خلالها على النسل والنسب، فحرم الزنى واللواط والإختلاط وأمر بصلة الرحم وبر الوالدين، فكان هذا النسيج الإجتماعي المتماسك. وكانت السياسة الإقتصادية المُثلى التي عالجت المشكلة الإقتصادية علاجا ناجعاً، بحيث فرضت نظاما اقتصاديا في توزيع الثروة كفل لكل فرد اشباع حاجاته الأساسية ومكّنته من تحقيق أعلى مستوى من الرفاه فقضت على الفقر والعَوَز، فكانت أحكام الزكاة والملكيات، وأحكام الأراضي والبيوع والشركات، وكان تحريم الربا والغبن والإحتكار. كما جاء الإسلام بنظام حُكم فريد من نوعه جعل الحاكمية فيه لله وحده، والسيادة للشرع، والسلطان للأمة، فكانت أحكام البيعة وأحكام عزل الخليفة، وكانت أحكام الولاة وعزلهم ومحاسبتهم. وأما على صعيد السياسة الخارجية التي جُعِلت الغاية منها نشر الإسلام للعالم فكانت أحكام الجهاد وأحكام الصلح والهدنة وحسن الجوار وكانت أحكام العلاقات الدولية.
إن أحكام الإسلام وأفكاره سياسيةً وليست ضربا من الخيال كما يدّعي مُروجو الفكرالغربي، بل هي حقيقية وواقعية تم تطبيقها على مدار عشرات العقود، وهي وحدها القادر على تغيير واقع الأمة إلى الأحسن، بل إن الأمة إذا ما طبقتها فإنها ستكون الفاعل الوحيد في الموقف الدولي، وستكون لها القدرة على وضع القانون الدولي حسب سياسة الإسلام والتي ستُخضع العالم له. أوَ بعد هذه السياسات والأنظمة يبقى من يقول أن السياسة بعيدة عن الدين وأن لا علاقة للإسلام بالسياسة؟!.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير- الأستاذ أبو أسيد جزاه الله خيرا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته