العمل السّياسي على منهاج النّبوّة
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
بالتّدقيق في الفترة المكّيّة يتبيّن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد اتّخذ العمل السياسيّ طريقة لإيصال الإسلام إلى الحكم ولم يقم بأعمال مادّية قطّ وحين عُرضت عليه نهى عنها، ففي بيعة العقبة قال العباس بن عبادة بن نضلة: "والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم»، فرجعوا وناموا حتى أصبحوا. [رواه أحمد]، كما رُوي أنّ عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له رضي الله عنهم أتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبيّ الله كنّا في عزّ ونحن مشركون فلمّا آمنّا صرنا أذلّة فقال: «إنّي أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم». [رواه البيهقي] أمّا ما وقع من سعد بن أبي وقاص في حادثة ضربه لأحد المشركين في الشّعاب فقد كان دفاعا عن النفس فقد كان مستخفيا بصلاته هو ونفر من الصّحابة وكشفهم المشركون وهاجموهم.
وبالتّدقيق في تلك الفترة يتبيّن كذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقبل بالمساومة ولم يقدّم أيّ تنازل. فلم ينتهج عليه الصّلاة والسّلام أسلوب التّفاوض والتّوافق والمهادنة. فلطالما حاول قادة مكّة مساومة النّبيّ صلى الله عليه وسلم دون جدوى؛ قام عتبة بن ربيعة في نادي قريش وقال: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطّة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد، أسمع»؛ قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم، قال: «فاسمع مني»؛ قال: أفعل؛ فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه». فلما سمعها منه عتبة، أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه؛ «ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك».
وساوموه عليه الصلاة والسلام في دينه فقالوا نعبد إلهك عاما وتعبد إلهنا عاما فنزل قول الله عزّ وجلّ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [سورة الكافرون] بل وصل بهم الحدّ أن طلبوا منه على الأقلّ أن يترك الفقراء من المؤمنين أمثال صهيب الرّوميّ وبلال بن رباح وخبّاب بن الأرت وابن مسعود رضي الله عنهم مقابل أن يقبلوا الإسلام ويعتنقوه، فأنزل الله تعالى ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطا﴾ [الكهف: 28]
أمّا العمل السّياسيّ الذّي انتهجه المصطفى عليه الصّلاة والسّلام فيتمثّل في ثلاث مراحل أوّلها مرحلة التّثقيف وتتمثّل في عمليّة بناء الكتلة وتأهيلها لتحمّل أعباء الدّعوة وتكوين الأفراد تكوينا متميّزا بُغية تحويلهم إلى شخصيّات إسلاميّة تدرك حقيقة الإسلام الذي تحمله وتبصر الواقع من زاوية نظر العقيدة فتدرك ضرورة التّغيير. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة يضمّ كلّ من يستجيب له ويُلحقه بدار الأرقم بن الأرقم حيث كان يعلّمهم القرآن، ويفرغهم من مفاهيم الجاهليّة ويمليهم بمفاهيم العقيدة الإسلاميّة. وكذلك كان ينسج الصّحابة المؤهَّلون بتكليف من رسول الله صلى الله عليه وسلم فالخباب بن الأرت رضي الله عنه كان يعلّم فاطمة بنت الخطاب وزوجها القرآن وأبو بكر الصّديق يعلّم نفرا من الذّين آمنوا.
ثمّ مرحلة التّفاعل وذلك لمّا نزل قول الله تعالى ﴿فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين﴾ [الحجر: 94] والغاية من هذه المرحلة هي إيجاد رأي عامّ منبثق عن وعي عامّ على الإسلام، أي مخاطبة المجتمع بالإسلام ودعوة الجماعة لاعتناقه عن وعي وبصيرة. وقد مثّلت هذه المرحلة انطلاقة الكتلة نحو دخول المجتمع، أي بداية الصّراع الفكريّ مع ما يحتويه المجتمع من أفكار وبداية كفاح القائمين عليه بالعمل السّياسيّ وهي مرحلة يظهر فيها التّحدّي والشدّة وكثرة البلاء فالكتلة تتحدّى الأعراف والعادات والمعتقدات وتعمل على تغييرها بالكامل واستبدال ما انبثق من الإسلام بها، وتناكف القادة الذين اكتسبوا الرّيادة والسّيادة بناءً على تلك الأعراف والمعتقدات. فلمّا أمر الله تعالى رسوله بإظهار الكتلة خرج صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في مكّة في صفّين أحدهما على رأسه حمزة بن عبد المطلب والثّاني على رأسه عمر بن الخطاب في استعراض منظّم وطافوا بالكعبة ففهم أهل مكّة أنّ ذلك إعلان عن الكتلة وإيذان بانطلاق الدّعوة للإسلام بشكل متحدٍّ سافر. فخاض المسلمون الصراع الفكريّ فخاطبوا النّاس بالإسلام وأبطلوا معتقداتهم بالحجّة والبرهان وفنّدوا الأسس الفكريّة التي بنيت عليها العلاقات في المجتمع. وفي هذا السّياق كان الوحي يتنزّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مبيّنا حقيقة التّصوّر الإسلاميّ المثبّت لوجود الله ولقدرته ونبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم والفاضح لمعاملات المجتمع المكّي والمسفّه لعقائده. قال الله تعالى ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾ وقال سبحانه بعد أن ذكر أسماء آلهة المشركين ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: 23] وقال عزّ وجلّ ﴿ومَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ [النجم: 3-5]، فكان لهذا الأمر الأثر البليغ على الأشراف المشركين في مكّة؛ روي عن ابن إسحاق أن وفدا من قريش ذهب يعاتب أبا طالب في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل آباءنا. وروي أنّ الوفد رجع إلى أبي طالب مرّة أخرى لمّا مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه في الدّعوة إلى الإسلام وضرب العقائد الفاسدة. واشتدّ ذلك على سادة قريش حتّى قالوا لأبي طالب: إنّا والله لا نصبر على من شتم آباءنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنّا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. وما كان من هؤلاء إلاّ أن صدّوا عن هذا الدّين الجديد بشتّى الوسائل والأساليب، من بينها الاتّهام بالكذب والجنون والتّشويه والتّعتيم.
ولقد كان بارزا في أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما نزل عليه من الوحي أنّ المستهدَف هو الحكم. فأعمال طلب النّصرة من أهل القوّة والمنعة والآيات التّي يظهر فيها النقد اللاّذع لقادة قريش ونقد العلاقات التّي تقوم عليها أمور العامّة وبشائر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أنّ المسلمين سيملكون الأرض أكبر دليل على ذلك. فقد نزل في أبي لهب قول الله تعالى ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: 1-3]، ونزل في الوليد بن مغيرة قول الله تعالى ﴿سأصليه سقر﴾ وقوله عزّ وجلّ ﴿عتلّ بعد ذلك زنيم﴾، ونزل في أبي جهل ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [سورة العلق]، ونزلت في أميّة بن خلف سورة الهُمزة ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ﴾
أمّا بشائر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه فمنها ما روي عن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه أنّه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» [رواه البخاري] ومنها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغها» [رواه مسلم]. وأمّا أعمال طلب النّصرة من أهل القوّة والمنعة فالأحداث والرّوايات فيها مستفيضة ومعروفة ولا فائدة من احصائها كلّها ويكفي فيها ما ذكر عن حادثة بيعة العقبة: ".. فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم. فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا.. قال لهم صلى الله عليه وسلم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك". [سيرة ابن هشام]
وقد استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم في المدينة بعد أن وُجد الرّأي العام المنبثق عن الوعي العام على الإسلام ونصره أهل القوّة من الأوس والخزرج. فكانت مرحلة تطبيق الإسلام أي مرحلة تنظيم العلاقات في المجتمع وفق أحكام الإسلام ومباشرة رعاية الشّؤون عمليّا وهي المرحلة الأخيرة.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
سلمان الغرايري - عضو المكتب الإعلامي لحزب التّحرير في تونس