الجمعة، 18 صَفر 1446هـ| 2024/08/23م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

قيصر يطمع بالمزيد ويتجرأ على ما هو لله!!

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لطالما زعم بعض الناس أن الدين والسياسة أمران منفصلان وخلطهما من المهلكات، يصرفون الناس عن أي خلط بينهما، ويضعون التنافر كأساس للنظرة، ويدعون أن الدين والدولة كالزيت والماء، لا يعُم السلام ولا يحل الوئام أو ينعم العباد بالاستقرار إلا إذا تم هذا الفصل. انطلقت الدعوات بين الفينة والأخرى بتحييد المساجد وترسيخ فصل المؤسسات الدينية عن السلطة السياسية. وركز الإعلام في بلاد المسلمين على ضرورة حصر العلماء والمشايخ بأمور الدين، وعزلهم عن السياسة، وتبع تلكم الدعوات جملة من القرارات التي تنظم دُور العبادة ودَور "رجال الدين" في كل من مصر وتونس والمغرب وغيرها. واتخذت إجراءات مثل: مراقبة المساجد، ووضعها تحت سيطرة وإشراف كامل من الدولة، ومنع الاعتكاف في رمضان إلا بقانون، وتوحيد الخطب، وإجراءات أخرى يقصد منها التضييق على رواد المساجد، وتقليص دَور المساجد في حدود الصلوات الراتبة؛ بذريعة حماية الدين من المتسلقين وتجار الدين.


ولعل من أبرز هذه الإجراءات وأكثرها تحدياً الظهير الملكي المغربي رقم 1.14.104 الصادر بالجريدة الرسمية عدد 6268 والمتعلق بتحديد مهام القيّمين الدينيين، وأهم ما جاء فيه هو مادته السابعة التي منعت "ممارسة أي نشاط سياسي أو نقابي، أو اتخاذ أي موقف يكتسي بصبغة سياسية أو نقابية". والمفارقة هنا أن الملك المغربي يدعو لفصل الدين عن السياسة بعد أن أعلن نفسه كرئيس أعلى للمؤسسة الدينية يستمد شرعيته من تعاليم الشريعة، ويسمي نفسه بأمير المؤمنين، ويحافظ على تقاليد البيعة، بل إنه يترأس اللجنة العلمية التي يرجع إليها علماء المغرب. وإن كان الملك هو المرجع الأساس في أمور الدين، مع وجوب الفصل التام الذي أقره في مرسومه. فلأي جهة ينتمي ولماذا يُزجِي الأمور الدينية.. فهل يمثل السلطة الدينية أم المدنية؟ وأين مؤهلاته الشرعية وإجازته التي تمكنه من ترأس السلطة الدينية؟


إنه لمن عجائب الأمور أن تحارب الأنظمة الوضعية تطبيق الشريعة، وتلتزم بنموذج الدولة المدنية العلمانية بدساتيرها المستوردة، ثم تضع صبغة شرعية على قوانين من وضع البشر. بل إن المبررين للظهير الملكي تمادوا في هذا التدليس واستشهدوا بأدبيات السياسة الشرعية، وذكروا قول الماوردي: "إن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"، وقد فسر الماوردي "حراسة الدين" بأنها "صونه على أعرافه المستقرة"!! وهذه حجة عليهم. إذ إن الديمقراطية والليبرالية والسياسات الاقتصادية الرأسمالية والمعاملات الربوية ليست من أحكام الدين المستقرة؟!


لعل من يتابع هذه الدعوة لفصل الدين عن السياسة، يتصور أن أئمة المساجد منفصلون عن الإرادة السياسية، ثم أتى من يغير عليهم الحال، أو أن الحكومات لم تفطن من قبل لأهمية تحييدهم! بينما الواقع على عكس ذلك، فالمساجد كانت خاضعة لسيطرة الحكومة منذ قيام هذه الدول القُطرية وعلماء السلاطين من دواعم ترسيخ حكم أكثر الأنظمة استبداداً وقهراً، وهذا الإبعاد للخطباء إنما هو مغالاةٌ في فصل الدين عن الحياة، وخوف من مارد الإسلام السياسي الذي بدأ يتململ، وذعرٌ من إرهاصات عودة الإسلام لسدة الحكم. أما علماء السلاطين فليس لهم شأن يذكر، ولم تتجاوز خطبهم آداب السلام وحسن التبعل، في أوقات عم الفساد حولهم وجاوز الظالمون المدى..


لم تنطق ألسنة علماء السلاطين إلا بالدعاء للطغاة، في وقت كان المسلمون يقتلون ويحرقون ويهجرون من ديارهم. أضف إلى ذلك أن أنظمة الحكم تعود لهؤلاء الخطباء أنفسهم؛ لإضفاء الشرعية على بعض القوانين التي تخالف شرع الله ولفرض هيمنة تامة للنظام؛ لكي يأمن أي محاسبة شرعية لتقصيره في شؤون الرعية، أو إضعاف البلاد وتبديد ثرواتها.


لم يكتفِ الملك المغربي في ظهيره بتنظيم شؤون رجال الدين، بل أعلن عن التزام البلاد بتبني المذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية كمذهب للبلاد، وهذا يلفت الانتباه لمدى بُعد هذه العلمانية، المطبقة في بلادنا عن أصل العلمانية.. إنها علمانية أخذت الحل الوسط لمدى جديد، يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في موضوع العلمانية: "من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحرارًا، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة." انسلخ قيصر زماننا من لب العلمانية، ولم يلتزم بفصل الدين والدولة حينما تدخل في مواعيد فتح المساجد، وأحوال الصيام والقيام والزكاة، والصدقات والاعتكاف وخطب الجمع والأعياد. ومتى وكيف يصلي المسلم على النبي وآله الأطهار.. هدم ركن العلمانية حينما تدخل في الأصول والفروع، ومناهج الدين في المدارس ومحتوى الموعظة الدينية، بل ومكان الآية والحديث في النص. فما باله لا يَعُدُّ كل هذا مزجاً بين الدين والسياسة..؟ بل هو المزجُ عينُه.


هلل مُدَّعُو العقلانية لهذه المراسيم، وهذه اللغة التي تركز علاقة السياسة بالدين كعلاقة تضاد، وباركوا الإجراءات بحجة أنها تحرر الشعب من أهواء رجال الدين، وتدخلهم في ما لا يفقهون فيه، وتحمي الناس من صراعات طائفية لا تحمد عُقباها. هذه الإجراءات التي تحيد دور المساجد، وتُلزم رجال الدين بالابتعاد عن السياسة، وإبعاد السياسة عن المساجد، تدعو ضمنًا إلى تأكيد علمانية النشطاء والأحزاب التي تحمل شعارات ومسميات دينية وتفرض عليهم التلبس بالعلمانية الصرف إذا ما أرادوا المشاركة في العملية السياسية.


هذا الموقف من الدول يستدعي وقفة من الأحزاب التي تدعي العمل للإسلام، وأن تتنبه ولا تقع في الفخ المنصوب لها بالمشاركة في هكذا ألعوبة تركز الفصل بين الدين والحياة، وتجعل منهم مجرد واجهة مسلمة لفكر قديم ومستهلك، لفظتها الشعوب المسلمة في الصحوة الإسلامية المباركة.


لقد تم تغليف هذه القوانين بعبارات براقة منمقة مثل "بناء مجتمع متراص متضامن"، و"التمسك بالمقومات الروحية"، و"التفتح على روح العصر" ونبذ "كل تعصب أو غُلُو أو تطرف". ادَّعَوا أن الإجراءات تهدف لحماية الدين، ولكنها في حقيقتها هدفت إلى نشر هيمنة أكبر للحكومة على المساجد والمنابر، من أجل حماية الأنظمة. لعل هذا التركيز على تقنين دَور الدين من دُور العبادة يطرح بعض التساؤلات في تعريف العلمانية وتطورها اليوم. تقول دائرة المعارف البريطانية: " "Secularism" حركة اجتماعية، تهدف إلى صرف الناس، وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة، إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها، وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا، والتأمل في الله واليوم الآخر".


اتفق العلمانيون أن لا يكون للدين شأن في الحياة ولكن اختلفوا بين علمانية تقبل بالدين وعلمانية ترفضه أما ما نراه في عالمنا اليوم فهو علمانية متطرفة تراقب الدين وتهابه.. تكيل بمكيالين: فتحارب الإسلام، ولكن لا تستغني عنه، بل تكتفي منه بالقدر الكافي لاستغلال الشعوب. أحياناً تطرح العلمانية الناعمة المتكيفة مع الأنظة الوضعية، وأحيانا تكشف اللثام عن علمانية متطرفة تحاصر المتدينين. لم تقم العلمانية في الأصل لتواجه الدين وتمنعه، بل أتت لتحل النِّزاع القائم بين الكنيسة والسلطة المدنية ولتبعث روح التجدد في مجتمع متحجر، أتت العلمانية لتستقل بالسياسة بعيداً عن الدين الذي اتهمته بقتل الإبداع وتسلط رجال الدين والعجز عن معالجة القضايا المعاصرة. ولكن النِّزاع الآن مختلف ويتعدى النِّزاع القائم في القرون المظلمة في الغرب، وهذا الاختلاف يكمن في حقيقة أن الإسلام مبدأ.


إنَّ التجاذُب بين الدين والسياسة، ليس له أصل في الفكر الإسلامي، بل هو دخيل عليه؛ لأن الإسلام لا يعترف بهذا الطرح، ولا يواجه الثيوقراطية (التي تعني الحكومة الدينية أو الحكم الديني) بالديمقراطية (والتي يراد منها حكم الشعب لنفسه سواء أكانت ديمقراطية رئاسية أم برلمانية) إذ إن كليهما مناقض للفقه السياسي في الإسلام.


الإسلام ليس فيه حكم لرجال دين، ولا يستمد نظام الحكم شرعيته من صك مؤسسة دينية، ولا قدسية لأفراد أيًا كانوا، فالحكم في الإسلام قائم على أن السيادة للشرع، فالذي يُحَسِّنُ ويُقبِّحُ هو الشرع، والذي يجيز ويمنع هو المولى عز وجل، ولذلك كانت القوانين في الشريعة الإسلامية مستمدة من الشرع؛ فلذلك وجب أن تكون العقيدة الإسلامية هي أساس الدولة، وأن لا يوجد في كيانها أو جهازها أو محاسبتها أو كل ما يتعلق بها، إلا ما كان مبنياً عليها. والإسلام لا يمكن أن يُختَزَلَ في أحكام شرعية منتقاة؛ لأنه يؤثر على كل صغيرة وكبيرة في حياة المسلم، حتى إن المستشرقين وعُوا لِهَذَا الأمر من خلال دراسة نصوص الإسلام، وسير المجتمع المسلم عبر القرون، يقول المستشرق الشهير هاملتون جب (1895-1971): "الإسلام ليس مجرد مجموعة من القوانين الدينية، ولكنه حضارة كاملة".


فالإسلام مبدأ قائم على جملة من الأفكار والمفاهيم والمقاييس التي تنبثق من مشكاة واحدة هي العقيدة الإسلامية. وقد من الله علينا بآليات للاجتهاد الشرعي، ومعالجات لمشاكل الإنسان تضمن استيعاب أي واقع جديد. ولا يصح أن يرجع المسلم إلا لهذه العقيدة، فكما جعل الله المساجد لله ليُذكَرَ فيها اسمه جلَّ وعلا، جعل السلطان للأمة، والأمة تختار من يحكمها بشرع الله عز وجل، فلا يأخذ المسلم نظمه إلا من عند الله، ولا يتبنى دساتير إلا بما هو مبني على أسس شرعية. وكما روت أمنا عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما عن الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ». (رواه الإمام أحمد في مسنده)


أما ادعاء العلمانيين بأن فصل الدين عن الحياة هو لتنْزيه الدين عن السياسة؛ لأنه عرضة لفساد النفس البشرية، فما هو إلا محض افتراء. إنهم يعارضون بهذا أساسًا من أسس عقيدة المسلم، فقد تعهد رب العباد بأن يحفظ دينه، فكيف لفكرة بشرية أيًا كانت أن تلوث الدين المنَزَّل من عند الله جل شأنه؟! لم تأتِ العلمانية في السياق الأوروبي إلا لتحقق فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية الكهنوتية المتحكمة، في إطار عجزت فيه عن مواكبة تطور العلم وافتقدت آلية التجدد والحيوية. هذا الواقع منافٍ تمامًا للإسلام؛ لأن الإسلام مبدأ، وهو عقيدة كلية ينبثق عنها نظام يعالج جميع مشاكل الحياة.


لعل الإشكالية الكبرى في هذه الأراجيف هي كونها بنيت على تاريخ الآخر، الذي يصور الدين كأساس للحروب والنِّزاعات، وتستند إلى رسومات على جدران كنائس الغرب، تشهد إلى يومنا هذا على حمامات الدم ومحاكم التفتيش، والحروب الطائفية في بلادهم. تخلَّص الغرب من هذا الإرث الثقيل بتناسيه، ورمي اللوم على الإسلام والمسلمين، وتشويه تاريخهم، بأن جعلَهُ مليئًا بالدموية. وتغافل المروجون للعلمانية على أنها منقذ للبشرية عن الحروب الكثيرة والنِّزاعات التي لم يكن الدين طرفاً فيها. لا يوجد في العالم اليوم دولة قائمة على أساس ديني سوى الفاتيكان، وبالرغم من ذلك فالتهمة ما زالت عالقة بأن الدين أساس الحروب، يصور كمصدر للعنف مثلما اتخذه ماركس في السابق كأفيون للشعوب. ثم هل قامت الحرب العالمية الأولى أو الثانية إلا على أساس ديني؟ وهل أدى النِّزاع الديني إلا لترنح العالم بين قطبين في سنوات الحرب البادرة، يتقاسمان مناطق نفوذ في العالم ويرعبان البشرية بسباق أسلحة تجاوزت حدود الأرض ووصل للفضاء؟


الدولة الحديثة القائمة على أساس المبدأ الرأسمالي أبرزت في الإنسان أسوأ ما فيه، وتميزت بتعزيز الطائفية، والفشل في صهر الشعوب. الكرة الأرضية أصبحت بؤر نزاع وقلاقل تستبد فيه مجموعة من البشر على غيرها، تارة باسم القبليات والجهوية، وتارة باسم الدين، ويظل البقاء للأقوى، وما أحداث ميانمار وسيرلانكا وأفريقيا الوسطى عنا ببعيدة. العلمانية لم تُؤدِّ للسلم، بل على النقيض شهد العالم حربين عالميتين، مات فيهما الملايين من البشر، وعاش العالم مهدداً لعقود بحرب ثالثة، وشهد العالم التطهير العرقي وحروب الإبادة، وأسلحة الدمار الشامل ومعتقلات التعذيب، والإضرار بالبيئة بشكل لم تشهده البشرية من قبل.


إن مكتسبات العلمانية المزعومة هي سراب يحسبه الظمآن ماء فهي تدَّعي العقلانية، ولكنها لم تنتج المنهج العقلي للوصول للحقائق، بل إن العلمانية نفسها جاءت نتيجة تطور تاريخي، ولم تأتِ بنتاج كبحث فكري (بل أتت كحل وسط لنِزَاعِ الكنيسة والسلطة)، تفادت العلمانية السؤال المحوري في ما وراء الكون، وما هي الغاية من خلق الإنسان، بالرغم من أنه لب النقاش ولا غنى عن الوصول لهذه الحقيقة، ولا يمكن أن يعتبر التفكير جديًا إن لم يُبنَ على أساس متين، ويستند إلى قاعدة فكرية ثابتة. العلمانية تفادت فكرة الثوابت وإدراك الحقيقة.


ومسألة التفكير في الخلق هو ما أتت العلمانية لتطمسه إذ لم تجعل هذا السؤال المصيري محل بحث، بل كونت ثقافة شعبوية تقوم على تفاديه، وأغرقت المجتمع بما بات يعرف بثقافة "الجنس، والمخدرات والروك أند رول" فهي بهذا صارت منهجاً يحارب الطريقة العقلية.


وإذا كانت العلمانية تهدف لمحاربة تحالف السلطة المستبدة مع ما يعرف برجال الدين، فإن هذا العصر شهد ازدهارًا لهذا التحالف، وتضخمًا لثروات الذين يُفتون على ذهب المعز وسيفه. شهد تملق علماء السلاطين للسلطة، حتى بات يُضرب بهم المثل في تذبذب الرأي، وخيانة الأمة، وتجلت عندهم أزمة حياء وهم يظهرون على الفضائيات ويسوقون الباطل للشعوب من أجل مصالحهم الشخصية. وكيف يردعهم تحييد المساجد، ولم يردعهم يوم الوعيد؟ لعل واقع رجال الدين عبر العالم يصور فشل هذا الادعاء إذ أصبحوا الإقطاعيين الجدد بأملاك وعقارات لا تعد ولا تحصى، بل إن المؤسسات الدينية ومشاهير رجال الدين يقومون بمشاركات اقتصادية لا يمكن تجاهلها. هيمن قيصر وترك الفاسدين في فسادهم واكتفى هو بالسلطة زاعمًا أن السلطة مفسدة!


إن هذه الدعوات لتحييد المساجد، وعلمنة الدين تستند إلى مراجعة الثقافة الإسلامية، والدعوة لتطويع الفكر الإسلامي، وتقوم على أساس استشراقي يشكك في سند النص، ويفهم ربع المتن، ثم يسيء توظيفه بخبث، ويجعل العقل مناط الحكم والفاصل فيه. إنها نظرة قائمة على خلق لَبسٍ في فهم الواقع وإسقاط تجربة الكنائس البروتستانتية على واقع المسلمين اليوم، ودون اعتبار لما حدث للكنيسة في مواكبتها للحداثة عبر سلسلة من المراجعات الفكرية التي سلختها عن النص الديني. يريدون أن يطوعوا الفكر الإسلامي لأهواء البشر؛ لأنهم لم يعرفوا إلا فكرًا مطاطيًا قابلاً للتطويع، ينصاع لأبعد مدى إذا ما مورس عليه القليل من الضغط. ألا يعتبرون مما آل إليه اللاهثون وراء الحداثة والعقلانية؟ تارة يشككون في حمل مريم البتول بذريعة أن حمل العذراء يتعارض مع العلم، متجاهلين ما ذكره رب العزة من كونها آية، وتارة أخرى يتراجعون عن رفض تولي المرأة الأسقفية، يتنازلون إلى أن تميل كفة الكنيسة في الجدال الدائر لعقود حول حقوق الشواذ وتمكينهم من مناصب قيادية في الكنيسة عبر تأويل النصوص الدينية. أيريد دعاة العلمانية من بني جلدتنا أن نسير في هذا الدرب الوحل؟! إنهم يفعلون فعلة إبليس فيتبعهم الغاوون. يعلمون الناس ما يضرهم ويغررون بالسذج دون أن يقولوا لهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾.


لعل من يروج لتحييد المساجد، وفرض العلمانية، والاحتذاء بالغرب، وتقليد عقيدته وفكره وسياساته يظن أن الأمة مغيبة لا خير فيها، ولا تتعلم من أخطاء الماضي. يقول خير الدين التابع للغرب "سمعت من بعض أعيان أوروبا ما معناه (أن التمدن الأوروبي تدفق سيله في الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار، إلا إذا أخذوه وجروا مجراه في التنظيمات فيمكن نجاتهم من الغرق" (1)


نعم انكشف نموذج المصلح الظلامي الذي يروج بضاعة مستوردة، تناقض عقيدة وحضارة وذوق الأمة، وإن كان الناس قد غرر بهم في السابق بمقولات من ادَّعَوا العلم والتجديد؛ فإن عقارب الساعة لا تعود للخلف، وهذا زمان التمحيص وتمايز الصفوف، ولسان حال الأمة اليوم يقول مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لست بالخبِّ ولا الخبُّ يخدعُنِي".


لقد قسَّم قيصر مَا لَهُ وَمَا لله، ولم يحترم هذا التقسيم، فطمع فيما هو لله.. طمع في الملك كله بعد أن تجاوز حده وتعدَّى على النصف، وأخذ مكانًا ليس له؛ فأفسد في الأرض أيما إفساد.. تجاوز حده؛ لأنه في الأصل إنسان ضعيف محدود قاصر ناقص عاجز محتاج.. تجاوز حده، ولم يحسب حساب يوم يقول فيه الملك القهار: أنا الملك، فأين ملوك الأرض؟


﴿اللَّـهُ نُورُ‌ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ ۚ مَثَلُ نُورِ‌هِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّ‌يٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَ‌ةٍ مُّبَارَ‌كَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْ‌قِيَّةٍ وَلَا غَرْ‌بِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‌ ۚ نُّورٌ‌ عَلَىٰ نُورٍ‌ ۗ يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِ‌هِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِ‌بُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْ‌فَعَ وَيُذْكَرَ‌ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِ‌جَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَ‌ةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ‌ اللَّـهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ‌﴾

 


كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أم يحيى بنت محمد

 

 


(1) خير الدين التونسي: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك.

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع