السبت، 19 صَفر 1446هـ| 2024/08/24م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

عذاب القبر - رد على موقع إسلام ويب

  •   الموافق  
  • 1 تعليق

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..


ورد في موقع "الإسلام ويب" على الإنترنت، والموقع بإشراف وزارة الأوقاف القطرية فيما نعلم، جواب سؤال يقول سائله:


السؤال: "لدي صديق ينضم لحزب التحرير، فقلت له إن حزب التحرير ينكر عذاب القبر، فقال لي لا، الحزب لا ينكره، بل لا يعتبره جزءا من العقيدة، فهل يوجد فرق بين من ينكر عذاب القبر ومن لا يعتبره جزءا من العقيدة.؟" انتهى السؤال


- سنقوم بعرض الجواب فقرة فقرة، ثم ننظر فيها ونعقب عليها بما يفتح الله تعالى به علينا سائلين المولى عز وجل أن يجري الحق على ألسنتنا وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه اللهم آمين.


الفقرة الأولى من الجواب:


"الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:


فقد اعتبر مؤسس حزب التحرير أدلة ثبوت عذاب القبر أدلة ظنية الثبوت، من الظن المنهي عن اتباعه! ويحرم عنده اعتقاد مدلول هذه الأدلة الظنية، لكن يجوز تصديقه، هكذا قرر ذلك في كتاب الدوسية، فقال: يجب أن يعلم أن الحرام هو الاعتقاد وليس مجرد التصديق، فالتصديق لا شيء فيه، وهو مباح، ولكن الجزم هو الحرام، لأنه جزم مبني على ظن، ولذم الله لمن بنى عقيدته على الظن، إلا أن عدم الاعتقاد لا يعني الإنكار، وإنما يعني فقط عدم الجزم. اهـ.


وكأن التصديق عنده لا يبلغ حد الإيمان الواجب! ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاضطراب، فإن جواز التصديق يقتضي جواز التكذيب أيضا، والتكذيب لا يختلف عن الإنكار!!!" انتهت الفقرة الأولى


وسنتناول القضايا التالية في تلك الفتوى بالتحليل وهي:


أولا: حرمة اتباع الظن في العقائد


ثانيا: الفرق بين التصديق والاعتقاد.


ثم نأتي بالفقرة الثانية من الجواب ونحلله:


ثالثا: ثبوت الاعتقاد بما تواتر، والاختلاف في إثبات تواتر أو عدم تواتر بعض الأحاديث لفظيا أو معنويا


رابعا: عذاب القبر

 


أولا: حرمة اتباع الظن في العقائد:


جاء في تعريف الظن في الموسوعة الفقهية الكويتية: "الظَّنُّ: هُوَ إدْرَاكُ الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مَعَ احْتِمَالِ النَّقِيضِ" انتهى


إن عدم الجزم في أي أمر من أمور العقيدة التي ثبتت بالقطع يعني الكفر، فعدم الجزم يعني أن يبقى احتمال النقيض قائما في الذهن، لم تنفه الأدلة القطعية الجازمة، وهذا يفضي إلى جعل ما أُمرنا أن نقطع به محل ظن أو شك، كأن يقول أحدهم: إيماني، أو يقيني بوجود الجنة لم يبلغ المائة بالمائة، فهذه الفجوة بين القطع وبين ما وصله تجعله يدخل فيمن قال فيهم مولانا جل وعلا: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: 32] ، فهذا الظن أدخلهم النار بكفرهم، وكل شأن من شئون الاعتقاد مثيله في وجوب القطع به، لذلك وجدنا أن الله تعالى قد حرم اتباع الظن في العقيدة، ودليل ذلك قوله تعالى ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، فامتدحهم باليقين لا بالظن، وأمرهم بالإيمان لا بالظن ولا الشك، هذا، وقد فرق علماء الأمة بين الظن في العقيدة وحرموه، وبين بناء العمل على الظن واستدلوا على جوازه.


قال العلامة ابن قيم الجوزية في كتاب الصواعق المرسلة: "الوجه السابع والأربعون... وإن قال بل تفيد ظنًا غالبًا وإن لم تفد يقينًا قيل له: فالله تعالى قد ذم الظن المجرد وأهله، فقال تعالى: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: 28] ؛ فأخبر أن الظن لا يوافق الحق ولا يطابقه، وقال تعالى ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: 23]؛ وقال أهل النار ﴿إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: 32]؛ فلو كان ما أخبر الله به عن أسمائه وصفاته واليوم الآخر وأحوال الأمم وعقوباتهم لا تفيد إلا ظنًا لكان المؤمنون إن يظنون إلا ظنًا وما هم بمستيقنين، ولكان قول الله تعالى ﴿وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 4]؛ خبراً غير مطابـق للواقع"، انتهى.


وجنبا إلى جنب مع تحريم بناء العقيدة على الظن، أوجب الله تعالى على كل مسلم أن يوصل اعتقاده إلى مرحلة القطع أو اليقين أو العلم أو الإيمان سمِّها ما شئت، وهذه المرحلة لا يمكن الوصول إليها عن طريق الظن أو التقليد، قال تعالى ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ﴾ [محمد: 19] ﴿وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿اعلموا أن الله شديد العقاب﴾ فالأمر هنا بالعلم ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].


وجنبا إلى جنب مع حرمة بناء الاعتقاد على الظن، والأمر بالعلم واليقين في الحقائق العقدية، أمر الله تعالى بأن يستند الاعتقاد على الدليل، والدليل هو ما يوصل إلى القطع ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ الله قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ﴿قَالُواْ اتَّخَذَ الله وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، فالحقيقة العقدية التي لا يقوم عليها سلطان أي دليل أو برهان يوصلها لمرحلة القطع والاعتقاد الجازم، والتي لا تطابق الواقع، والتي تستند إلى الظن تدخل عند من لم تقم لديه أدلة القطع عليها في القول على الله بغير علم وهو من المحرمات بنص الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأعراف الواردة أعلاه ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ.... وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي حرم ربي أن تشركوا به ما لم ينزل به سلطانا، وحرم ربي أن تقولوا عليه ما لا تعلمون أي ما لم يبلغ العلم، ومن المعلوم قطعا أن الله تعالى لم ينزل سلطانا أي دليلا يأذن بشيء من الشرك، فدخل تحت قوله: ﴿وَأَن تُشْرِكُواْ﴾ تحريم كل شرك وعبادة لغير الله، وبالتالي وجوب وجود الدليل على ما أمر به من عقائد فيه تنفي الند والشريك، قال الزمخشريّ: "فيه تهكم؛ لأنه لا يجوز أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره. وفي (العناية): إنما جاء التهكم من حيث أنه يوهم أنه لو كان عليه سلطان لم يكن محرّماً، دلالة على تقليدهم في الغيّ، والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معاً على الوجه الأبلغ" انتهى.


قال الرازيّ: "وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل". وتبعه القاضي فقال: "في الآية تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان، ونظيرها قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ [الحج: 71]، فنعى عليهم عقائدهم التي لا تقوم على العلم، فالعلم هنا اليقين الذي لا شك فيه، فأنتم تخرصون بالظن وتكذبون"، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ". انتهى. فلا يحصل اليقين إلا بعلم لا شك معه، والقول على الله بغير علم في العقائد يعني القول على الله بالظن أو بما دون الظن من الشك أو الكذب أو الخرص، وهو كله مما لم يبلغ منزلة العلم، أي لم يبلغ مرتبة اليقين الذي لا شك فيه، وكله حرام بنص الآية الكريمة، فنص الآية الكريمة أن الله لا يقبل في العقائد إلا العلم أي اليقين الذي لا شك فيه.


ومن أقوال أهل العلم في هذا الأمر نقتبس شواهد قليلة من أقوالٍ كثيرة ليُعلم أن هذا الأمر ليس بدعا من القول بل هو من المعلوم المستقر عند أهل العلم من سلف هذه الأمة رحمهم الله تعالى:


نموذج من بعض أقوال أهل العلم في منع إثبات العقيدة بالظني:


يقول الإمام الشاطبي: (إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي..... والثالث: أنه لو جاز جعل الظني أصلا في أصول الفقه لجاز جعله أصلا في أصول الدين، وليس كذلك باتفاق،.... وقال: وقد قال بعضهم لا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن لأنه تشريع ولم نتعبد بالظن إلا في الفروع)، وقال الإمام جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي في كتاب نهاية السول عند الكلام على دلالة افعل من حيث إن الدليل الظني لا يعتبر قال: (وأما بالآحاد فهو باطل لأن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين وكذلك قواعد أصول الفقه كما نقله الأنباري شارح البرهان عن العلماء قاطبة.)


وفي تفسيره لقوله تعالى: ﴿وما يتبع أكثرهم إلا ظنا﴾، قال القرطبي رحمه الله: "وقيل: الحق هنا اليقين، أي ليس الظن كاليقين، وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكتفى بالظن في العقائد..". .


وقال الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ﴾ "وقال الحسن والزجاج: كان تكذيبهم إياه على الظن لا على اليقين فكفروا به ظانين لا متيقنين، وهذا يدل على أن حصول الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر." انتهى


وقال سبط ابن العجمي في التوضيح باب الركن الرابع: القياس: "(قَوْلُهُ: وَحُكْمُهُ) أَيْ الأَثَرِ الثَّابِتِ بِالاجْتِهَادِ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ، فَلا يَجْرِي الاجْتِهَادُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَفِيمَا يَجِبُ فِيهِ الاعْتِقَادُ الْجَازِمُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ." انتهى.


وقال النووي الحاوي في مراح لبيد: "﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنَّاً﴾ أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم إلا ظناً واهياً أما بعضهم فقد يتبعون العلم فيقفون على بطلان الشرك لكن لا يقبلون العلم عناداً، وفي ذلك دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب، والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز ﴿إِنَّ ٱلظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقِّ﴾ أي عن العلم ﴿شَيْئا﴾ من الإغناء في العقائد ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيم بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ من الاتباع للظنون الفاسدة والإعراض عن البراهين القاطعة." انتهى.


نكتفي بهذا الغيض من فيض أقوال أهل العلم في منع الاعتقاد بناء على الظن، وفيه بيان لمن ألقى السمع وهو شهيد.


ثانيا: الفرق بين التصديق والاعتقاد


بغض النظر عن الاختلافات في تعريف الإيمان، فإننا نجد إطباقا على وجوب وجود الجزم والمطابقة للواقع والدليل جنبا إلى جنب مع التصديق ليرتقي التصديق لمرحلة الإيمان،


ورد في كتاب: نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر للعلامة الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني الناشر فاروقي كتب خانة ملتان - باكستان في الصفحة 14 "واليقين: هو الاعتقاد الجازم المطابق"، مثل هذا التعريف للإيمان قال به السيوطي في كتابه تدريب الراوي صفحة 131 وذكر الإمام القرافي في تنقيح الفصول صفحة 192 مثل ذلك، وفي تفسير غرائب القرآن في تفسير قوله تعالى: ﴿وما قتلوه يقينا﴾: "واليقين عقد جازم مطابق ثابت لدليل"، وقال في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: "مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ، وَهُوَ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِدَلِيلٍ". في الشرح قال: "(قَوْلُهُ: وَهُوَ الْجَازِمُ ) أَيْ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ (قَوْلُهُ: الْمُطَابِقُ) قَيَّدَ بِهِ؛ لِيَكُونَ اعْتِقَادًا صَحِيحًا، وَإِلَّا فَغَيْرُ الْمُطَابِقِ اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ."


بمثل هذا جاء في التعريفات للجرجاني 41؛ التحصيل من المحصول للأرموي 1/169؛ المحصول 1/12؛ إجابة السائل للصنعاني 60؛ تفسير الرازي 2/27-61؛ تفسير ابن كثير 1/40؛ حاشيتا التفتازاني والجرجاني على ابن الحاجب 1/60-61؛ شعب الإيمان 1/35؛ الشخصية الإسلامية للنبهاني 1/19.


وقال المناوي: "العلم الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع إذ هو صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض." التوقيف على مهمات التعريف. باب العين.


وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: "و﴿وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ﴾، أي ليس لهم به اعتقاد جازم لأنّ الاعتقاد الجازم لا يكون إلاّ عن دليل، والباطل لا يمكن حصول دليل عليه". تفسير سورة الحج.


وقال الحافظ زين الدين العراقي في شرح البهجة في فصل في بيان صلاة الجماعة: "(قَوْلُهُ: عَلِمَ مِنْهُ بُطْلانَهَا) أَيْ: لِعِلْمِهِ أَنَّ اجْتِهَادَهُ، أَوْ اجْتِهَادَ مُقَلَّدِهِ بِالْفَتْحِ أَدَّاهُ أَيْ: أَدَّى إمَامَهُ إلَى بُطْلانِهَا حِينَئِذٍ فَهُوَ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ لِدَلِيلٍ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةً فَالأَمْرُ ظَاهِرٌ فَلْيَتَأَمَّلْ."


وهذا أيضا غيض من فيض من أقوال أهل العلم فيما يستوجب وجوده لوجود الإيمان من الجزم والمطابقة للواقع والدليل إذ بهذا كله يرفع التصديق إلى درجة الإيمان، وإلا فإنه يبقى تصديقا فقط، والمطلوب في الحقائق الإيمانية والمسائل العقدية أن يكون دليلها مفضيا إلى التصديق الجازم.


وهنا نعود لنستعرض فقرة من جوابكم على السؤال: قال قائلكم في موقع الإسلام ويب: "وكأن التصديق عنده لا يبلغ حد الإيمان الواجب! ولا يخفى ما في هذا الكلام من الاضطراب، فإن جواز التصديق يقتضي جواز التكذيب أيضا، والتكذيب لا يختلف عن الإنكار!!!".


نقول جوابا وتوضيحا بأنه بناء على ما سبق من تفصيل وبيان، يتبين لنا الفرق بين التصديق والتصديق الجازم، وأن التحريم في شأن الاعتقاد يتناول التصديق الجازم بما ثبت بالظن لا بالقطع، وأن الشارع لم يحرم مجرد التصديق، على أن التصديق بالخبر الثابت بالظن لا يساوي التكذيب، ولقد جاء في العدد 68 من مجلة الوعي لشهر جمادى الآخرة 1413هـ كانون الأول 1992م في هذا قولا بينا واضحا لا يشوبه ما حاول المجيب عن السؤال في موقعكم من اللمز فيه بقوله أن جواز التصديق يقتضي جواز التكذيب، جاء فيه: "وخلاصة الجواب أن الأحاديث التي تتكلم عن عذاب القبر هي صحيحة ويمكن التوفيق بينها وبين الآيات التي يظهر أنها تعارض هذه الأحاديث. ولذلك فلا يجوز لمسلم أن ينكر هذه الأحاديث، ومنكرها هو منكر للحديث الصحيح فهو آثم، لأن منكر الحديث الصحيح يترتب عليه تعطيل العمل به."


على أنه ينبغي أن يكون واضحا أن المسألة ليست متعلقة بتصديق الخبر أو المخبر ولا بتكذيبهما، بل المسألة متعلقة ببناء العقيدة على التصديق بخبر المخبر، أو بناء العمل بناء على الخبر، أي هل يبلغ الخبر مبلغا يفضي لوجوب بناء الاعتقاد بناء عليه أم أنه لم يبلغ هذا المبلغ فيبقى في دائرة التصديق لا القطع، ألا ترى أن الشارع قد اشترط وجود أربعة شهداء لإثبات واقعة الزنا حتى تجب العقوبة، فإذا جاء بالشهادة ثلاثة من الصادقين العدول، حتى لو كانوا من كبار الصحابة، فإن القاضي لا يقضي بشهادتهم حتى يأتوا بالرابع، وهذا ليس من باب تكذيبهم، ولكن الشهادة لها نصاب لا بد من بلوغه لتقوم البينة.


قال شارح أصول البزدوي: "(بَابُ تَقْسِيمِ الرَّاوِي الَّذِي جُعِلَ خَبَرُهُ حُجَّةً): وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَبُولِ التَّصْدِيقُ، وَلَا بِالرَّدِّ التَّكْذِيبُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا قَبُولُ قَوْلِ الْعَدْلِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ كَاذِبًا أَوْ غَالِطًا، وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ قَوْلِ الْفَاسِقِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ صَادِقًا، بَلْ الْمَقْبُولُ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْمَرْدُودُ مَا لَا تَكْلِيفَ عَلَيْنَا فِي الْعَمَلِ بِهِ ثُمَّ لِلْقَبُولِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ بَعْضِ شَرَائِطِهِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الرَّاوِي مَعْرُوفًا بِالرِّوَايَةِ وَالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ وَالْفَقَاهَةِ لِقَبُولِ خَبَرِهِ مُطْلَقًا، مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ أَوْ مُخَالِفًا وَلَيْسَتْ الْفَقَاهَةُ فِيهِ شَرْطًا عِنْدَ الْبَعْضِ.". كلام حري أن يكتب بماء الذهب.


وقال الشافعي رحمه الله تعالى:


"وَأَوْجَبَ اللَّهُ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - عَلَى عِبَادِهِ حُدُودًا وَبَيْنَهُمْ حُقُوقًا فَدَلَّ عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ بِشَهَادَاتٍ وَالشَّهَادَاتُ أَخْبَارٌ وَدَلَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ أَنَّ الشُّهُودَ فِي الزِّنَا أَرْبَعَةٌ وَأَمَرَ فِي الدَّيْنِ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَفِي الْوَصَايَا بِشَاهِدَيْنِ... فَلَمَّا تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِقَبُولِ الشُّهُودِ عَلَى الْعَدَالَةِ عِنْدَنَا وَدَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى إنْفَاذِ الْحُكْمِ بِشَهَادَاتِهِمْ، وَشَهَادَاتُهُمْ أَخْبَارٌ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِمْ وَعَدَدِهِمْ تَعَبُّدٌ.".


لذلك نعود فنقول ليس المراد اتخاذ إجراء تكذيب الخبر، وإنما هل يبنى على الخبر اعتقاد ببلوغه شرائطه الشرعية؟ هل يبنى عليه عمل؟ هل يبنى عليه قضاء؟ لذلك كان من الجهل الفاضح نقل المسألة إلى خانة أن عدم الجزم بالتصديق يعني إمكانية التكذيب أو الإنكار!

 

الفقرة الثانية من الجواب:


"ثم إن هذا المذهب لا يستقيم حتى على أصول مؤسس الحزب نفسه حيث قال في كتابه الشخصية الإسلامية: وحكم الخبر المتواتر أنه يفيد العلم الضروري... والخبر المتواتر قسمان: متواتر لفظا... ومتواتر معنى، كأن يتفق الناقلون على أمر في وقائع مختلفة. اهـ.


وعذاب القبر ونعيمه لا ينزل عن هذه الدرجة، فأدلته متواترة، وقد جمع منها الإمام البيهقي طائفة كثيرة في كتابه: إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين ـ وذكر الكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر سؤال الملكين في القبر، من حديث ثمانية وعشرين صحابيا، وعذاب القبر ونعيمه من حديث اثنين وثلاثين صحابيا، وذكر نصوص أهل العلم المثبت لتواتر ذلك، وقد سبق لنا بيان بعض أدلته والنص على تواترها وحكم منكرها، في الفتاوى التالية أرقامها: 2112، 58302، 229468". انتهت الفقرة الثانية


نقول جوابا عليها:


ثالثا: ثبوت الاعتقاد بما تواتر، والاختلاف في إثبات تواتر أو عدم تواتر بعض الأحاديث لفظا أو معنى:


يقول الآمدي في الإحكام: (اعلم أنه لما كانت أصول الفقه هي أدلة الفقه وكان الكلام فيها مما يحتاج إلى معرفة الدليل وانقسامه إلى ما يفيد العلم أو الظن وكان ذلك مما لا يتم دون النظر دعت الحاجة إلى تعريف معنى الدليل والعلم والظن،... والأصوليون يفرقون بين ما أوصل إلى العلم وما أوصل إلى الظن فيخصون اسم الدليل بما أوصل إلى العلم واسم الأمارة بما أوصل إلى الظن.)..) .


أما أدلة الاعتقاد فهي عقلية ونقلية، والله تعالى أمر باستعمال العقل للتدليل عليه سبحانه وتعالى، وذم من لا يستعمل عقله ليؤمن، ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]


وأما الأدلة النقلية، فالمتواتر منها يفيد القطع، سواء كان التواتر لفظيا أم معنويا، وحتى يبنى على المتواتر اللفظي الإيمان، فإنه لا بد أن يكون قطعيا في دلالته على الموضوع المراد الإيمان به، ومثال ذلك أن القرآن كله متواتر لفظا، فمنه ما هو قطعي في دلالته كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: 40]، ومنها ما هو ظني في دلالته: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ فيتردد معنى قروء بين الحيض والطهر، فلا يقطع بأحدهما،


وعلى ضوء ما سبق من تحريم بناء الاعتقاد على الظن، فإن الدليل المقبول في المسائل العقدية يجب أن يكون قطعيا في ثبوته قطعيا في دلالته،


وأما أخبار الآحاد ففي ذاتها لا تفيد إلا ظنا، ولم يقل بإفادتها القطع بذواتها إلا قلة قليلة جدا في تاريخ الإسلام، قيل واحد وهو ابن خويز منداد، وقيل عن غيره، والحاصل أن من يقول بأنها تفيد القطع بذواتها قد لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، وإلا فقد أجمعت كلمة العلماء قاطبة على أنها لا تفيد إلا الظن بذواتها، واختلف العلماء فيما يرفع عنها الظنية من قرائن خارجية، أي ليست من الخبر ذاته، بل قرائن خارجة عن الخبر، فاختلفوا، ويرقى إلى البحث من بين القرائن التي اختُلِفَ فيها ثلاث قرائن:


أ) تلقي الأمة للخبر بالقبول، ب) علم الشيخين بالحديث، ج) التواتر المعنوي. وأضاف الشاطبي في الاعتصام ضربا رابعا: الظن المستند إلى أصل قطعي، وواضح أن القطع في هذه الحالة الرابعة أتى من الأصل القطعي لا من الخبر الظني.


فمن أهل العلم من رأى أن الظنية ترتفع بتلقي الأمة للخبر بالقبول، ومنهم من نفى ذلك، ومنهم من رأى أن الظنية ترتفع بعلم الشيخين بالحديث، ومنهم من نفى ذلك، ومنهم من رأى أن الظنية ترتفع بالتواتر معنى، ومنهم من نفى ذلك.


وهذه آراء إسلامية نجلّها، وإن كنا لا نقول إلا بالثالث منها، أي بالتواتر المعنوي، وَرَدَ في كتاب الشخصية الإسلامية لحزب التحرير الجزء الأول ما نصه: "وحكم الخبر المتواتر أنه يفيد العلم الضروري، وهو الذي يضطر إليه الإنسان بحيث لا يمكن دفعه. وإنما كان ضرورياً لأنه غير محتاج إلى نظر. أي أن الخبر المتواتر يفيد اليقين. والخبر المتواتر قسمان: متواتر لفظاً كحديث: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» أخرجه مسلم عن أبي هريرة، وحديث مسح الخفين، وحديث الحوض، وحديث الشفاعة، ورفع اليدين في الصلاة. ومتواتر معنى كأن يتفق الناقلون على أمر في وقائع مختلفة ككون سنّة الصبح ركعتين. وهو موجود، ورويت أحاديث متواترة عديدة وإن كان قد اختلف في اعتبارها متواترة عند العلماء باختلاف نظرتهم إلى المتواتر" انتهى.


وقول حزب التحرير بالتواتر المعنوي قديم منذ أيام الإمام المؤسس تقي الدين النبهاني رحمه الله، إذ قال في جواب سؤال بتاريخ 1973 ما نصه: "ثم إن واقع حياة المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هي فصل النساء عن الرجال، أي فصل المرأة عن الرجل، ‎وهذا الفصل معناه منع اجتماع الرجال بالنساء، أي منع اجتماع الرجل بالمرأة. فالأدلة العامة للأحكام الشرعية المتعلق بالمرأة تجاه الرجل تدل دلالة قاطعة وليست ظنية على فصل النساء عن الرجال، لأنها جاءت بأدلة قطعية الثبوت قطعية الدلالة من آيات قرآنية وأحاديث متواترة،‎ حتى أصبح فصل الرجال عن النساء عند المسلمين مما هو معلوم من الدين بالضرورة، لقوة ثبوته وبداهته." انتهى، فالشاهد هنا قوله: أحاديث متواترة، ومعلوم أنها متواترة معنى.


كما ورد في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الأول: "فصلاة ركعتي سنة الفجر سنة لو لم يصلّها لا شيء عليه، ولو صلاها له ثواب مثل ركعتي المغرب سواء بسواء من حيث الحكم الشرعي، أما من حيث العقيدة، فالتصديق بركعتي الفجر أمر حتمي وإنكارهما كفر، لأنهما ثبتتا بطريق التواتر." انتهى، ومعلوم أن أحاديث ركعتي الفجر في كتب السنن آحاد، إلا أن ثبوتهما كان بالتواتر المعنوي.


وهذه قضايا يترتب عليها أن من ثبت له ارتفاع الظنية وبلوغ الخبر القطع بأحد هذه القرائن، فإنه يقطع بناء على ذلك ويبني على ما قطع عليه إيمانا ويقينا، ومن لم يثبت لديه هذا الارتفاع فإنه لا يقطع ولا يجوز له أن يبني على ذلك إيمانا، كل هذا يتم من غير نكير، ولا رمي بالكفر ولا بالخروج من الملة، ولا بتسفيه رأي المخالف.


فهذه الأخبار المتواترة لفظا على سبيل المثال، نجد أن هنالك من نفى وجود التواتر اللفظي بالكلية، وأكثر أهل العلم يقولون بتواتر قوله صلى الله عليه وسلم: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.


وأما باقي الأخبار المتواترة لفظا فقد جرى الخلاف حول تواترها، فتجد عالما يقول بأن الحديث الفلاني متواتر عندي، وتجد آخر لا يعده في جملة المتواتر، فيجب على الأول القطع ويحرم على الثاني القطع، كل هذا من غير نكير!!.


ورد في كتاب نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني: "وفي كتاب مُسَلَّمِ الثبوت في أصول الفقه للشيخ محب اللّه بن عبد الشكور في الكلام على المتواتر ما نصه المتواتر من الحديث قيل لا يوجد، وقال ابن الصلاح إلا أن يدعي في حديث من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فإن رواته أزيد من مائة صحابي وفيهم العشرة المبشرة وقد يقال مراده التواتر لفظاً وإلا فحديث المسح على الخفين متواتر رواه سبعون صحابياً وقيل حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف متواتر رواه عشرون من الأصحاب وقال ابن الجوزي تتبعت الأحاديث المتواترة فبلغت جملة منها حديث الشفاعة وحديث الحساب وحديث النظر إلى اللّه تعالى في الآخرة وحديث غسل الرجلين في الوضوء وحديث عذاب القبر وحديث المسح على الخفين اهـ‏.‏"


وقال الكتاني في موضع آخر: "وقد قال في شرح النخبة للعلامة أبي الحسن محمد صادق السندي المدني ما نصه ‏"‏وقد تساهل السيوطي في الحكم بالتواتر فحكم على عدة من الأحاديث بذلك وأوردها في كتاب سماه الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة اهـ‏"‏ وهو كذلك فإنه ذكر عدة أحاديث ربما يقطع الحديثي بعدم تواترها ويظهر أيضاً من كلامه أنه قصد جمع المتواتر اللفظي ثم أنه كثيراً ما يورد أحاديث صرح هو أو غيره في بعض الكتب بأن تواترها معنوي‏.‏" انتهى.


لقد اختلف المحققون والعلماء في عدد الأحاديث المتواترة لفظا، فمنهم من أوصلها إلى بضعة وثمانين، ومنهم من جاوز المائة، ومنهم من قال أكثر ومنهم من قال أقل من ذلك.


فكل واحد من هذه الأحاديث في حق من أثبت تواتره يفيد العلم لديه، وكل واحد منها في حق من لم يوصلها إلى التواتر لا يفيد لديه إلا الظن، مع أنهم كلهم يقولون أن الخبر إذا تواتر أفاد القطع، لكن عين الحديث قد يوصله أحدهما إلى التواتر ولا يوصله الآخر إليه، بناء على اختلاف شروط التواتر والتحقق في أحوال الرواة وغير ذلك، مما قد يفضي إلى اختلاف الحكم.


فالواضح اختلاف حكم بعض أهل العلم على حديث ما بأنه متواتر لفظا، فهو كذلك عند أحدهم، وليس كذلك عند غيره، فليس الأمر بحال أن الحكم واحد، وأن الكل مطبقون على أن هذا الحديث متواتر.


فالقاعدة إذن: أن من ثبت لديه أن الخبر متواتر بنى عليه اعتقادا، ومن لم يثبت لديه تواتر الخبر يبقى الخبر لديه في دائرة الظن التي لا يجوز بناء الاعتقاد عليها، وكون الثاني لا يثبت تواتر الخبر، فإنه لا يكذبه، ولا يرده، وإنما لا يوصله لمرحلة القطع.


يقول العلامة ابن دقيق العيد رضي الله عنه من عيون الكلام ما يلي:


"أَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ دَلِيلَ الإِجْمَاعِ ظَنِّيٌّ، فَلا سَبِيلَ إلَى تَكْفِيرِ مُخَالِفِهِ كَسَائِرِ الظَّنِّيَّاتِ" انتهى، أي أن من لم يقل به، يكون في حقه من الظنيات، فالإمام مالك يرى الإجماع إجماع أهل المدينة، وغيره يرى الإجماع إجماع الأمة، وغيرهم يرى الإجماع إجماع الصحابة، فمن لم ير الإجماع إجماع أهل المدينة على سبيل المثال يبقى لديه هذا الدليل - أي إجماع أهل المدينة - في دائرة الظنيات، ومن لا يوصل إجماع أهل المدينة لمرتبة الدليل بقي لديه في مرتبة الظنيات فلم يكن لديه أصلا من أصول الفقه، وأصول الفقه قطعية، فإجماع أهل المدينة أصل أوصله الإمام مالك لمرتبة الأصول، فهو عنده قطعي، كمصدر من مصادر التشريع، وهذا لا يعني أن ما استند إلى هذا الدليل يصبح قطعيا، بل معناه أن الدليل بنفسه هو قطعي، كقولك أن السنة دليل، وهي كذلك، فهي دليل قطعي، ولكن مما يبتنى على هذا الدليل من السنة ما هو قطعي ومما يبتنى عليها ما هو ظني، لكنها هي بنفسها دليل قطعي، فتأمل هذا الفهم العظيم من هذا العالم الرباني رحمه الله، ننبه هنا أن الإجماع لدى حزب التحرير هو إجماع الصحابة.


قال الفتوحي في شرح الكوكب المنير: "(وَيَمْتَنِعُ اسْتِدْلالٌ بِهِ) أَيْ بِالتَّوَاتُرِ (عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِهِ عِلْمٌ) يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ التَّوَاتُرُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ آخَرِينَ، امْتَنَعَ الاسْتِدْلال بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ مَنْ حَصَلَ لَهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ؛ لأَنَّهُ يَقُولُ: مَا تَدَّعِيهِ مِنْ التَّوَاتُرِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فَلا أَسْمَعُهُ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ عِنْدِي (وَ) يَمْتَنِعُ (كِتْمَانُ أَهْلِهِ) أَيْ أَهْلِ التَّوَاتُرِ (مَا) أَيْ شَيْئًا (يُحْتَاجُ إلَى نَقْلِهِ كَ) امْتِنَاعِ (كَذِبٍ عَلَى عَدَدِهِمْ) أَيْ عَدَدِ الْحَاصِلِ الْعِلْمُ بِهِمْ فِي التَّوَاتُرِ (عَادَةً) أَيْ فِي الْعَادَةِ.".
فهذا ابن عمر رضي الله عنهما لم يحصل له علم بالمسح على الخفين وهو متواتر، قال الشوكاني: "وعن عبد الله بن عمر: «أَنَّ سَعْداً حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الخُفَّيْنِ، وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ نَعَمْ إذَا حَدَّثَكَ سَعْدٌ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ شَيْئاً فَلاَ تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ» رواه أحمد والبخاري. وفيه دليل على قبول خبر الواحد . الحديث أخرجه أحمد أيضاً من طريق أخرى عن ابن عمر وفيه قال: «رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَاصٍ يَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْهِ بِالعِرَاقِ حِينَ تَوَضَّأَ فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ، فَلَمَا اجْتَمَعْنَا عِنْدَ عُمَرَ قَالَ لِي سَعْدٌ سلْ أَبَاكَ فَذَكَرَ القِصَّةِ»... قال: وفيه أن الصحابي قديم الصحبة قد يخفى عليه من الأمور الجليلة في الشرع ما يطلع عليه غيره، لأن ابن عمر أنكر المسح على الخفين مع قديم صحبته وكثرة روايته، وقد روى القصة في الموطأ أيضاً... وعن المغيرة بن شعبة قال: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسَيْتَ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتَ نَسَيْتَ بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَ وَجَلَّ» رواه أحمد وأبو داود وقال الحسن البصري: "روى المسح سبعون نفساً فعلاً منه وقولاً". الحديث إسناده صحيح ولم يتكلم عليه أبو داود ولا المنذري في تخريج السنن ولا غيرهما .


ومع هذا نجد أن خَبَرَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ: رَوَاهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَالُوا: إنَّ الْمَسْحَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، فَأَخْطَأُوا، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِمْ بِالضَّلالِ، وَيُخْشَى عَلَيْهِمْ الْمَأْثَمُ،


فهنا خبر متواتر خالف فيه ثلاثة من كبار الصحابة، ابن عباس وعائشة وأبو هريرة رضي الله عنهم، تأولوا ذلك بأنه منسوخ، فلم يعملوا بناء عليه، وتم هذا من غير نكير ولا رمي بالكفر ولا قذف بالخروج على إجماع!


رابعا: عذاب القبر


أولا: لقد وردت في السنة المطهرة أحاديث كثيرة تتحدث عن عذاب القبر، وقد أوصل جمهرة أهل العلم هذه الأحاديث حد التواتر المعنوي،، ووردت آيات في القرآن الكريم قد تشير إلى عذاب القبر ولكنها غير قطعية الدلالة فيه، ووردت آيات في القرآن الكريم يفهم منها أنه لا يوجد عذاب قبل عذاب يوم القيامة،، بعضها من الممكن بسهولة تأويله ليفهم منه ما ينفي التعارض مع الأحاديث السابق ذكرها، وبعضها يشق على الباحث فعله إلا أن يتكلف تكلفا شديدا، مما يلقي بظلال قد لا توصل الأحاديث مبلغ التواتر المعنوي، ولولا هذا لقلنا بتواتر أحاديث عذاب القبر تواترا معنويا.


قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: "ففي هذين النوعين من الانتقاد للحديث علم كثير، وصيانة للدين بليغة؛ فإن أصل البدع والأهواء إنما ظهر من قِبَلِ ترك عرض أخبار الآحاد على الكتاب والسنة المشهورة، فإن قوماً جعلوها أصلاً مع الشبهة في اتصالها برسول الله عليه السلام ومع أنها لا توجب علم اليقين، ثم تأوّلوا عليها الكتاب والسنة المشهورة فجعلوا التبع متبوعاً، وجعلوا الأساس ما هو غير متيقّن به فوقعوا في الأهواء والبدع. من هنا فإن الصواب أن تعرض أخبار الآحاد الواردة في القبر على الكتاب والسنة القطعية، فتفهم على ضوئها، وحين فعلنا ذلك وجدنا حاجة لتأول الفهم، ولإيجاد مخارج للتعارض، مما جعلنا نهبط بما في هذه الأخبار عن درجة التواتر المعنوي إلى درجة التصديق غير الجازم."


ثانيا: نقل نصوص ما ورد فيه ذكر عذاب القبر في ثقافة حزب التحرير بالنص الحرفي:


أ) جاء في دوسية "إزالة الأتربة عن الجذور: ربط الأفكار والأحكام بالعقيدة الإسلامية" ما نصه:


"فلهذه الأسباب الثلاثة لا يجوز أن يكون دليل العقيدة ظنيا، بل لا بد من أن يكون قطعيا، وأما كونه يحرم على المسلم أن يعتقد ما يكون دليله ظنيا فلأن النهي عن الاعتقاد بالظن نهيٌ جازمٌ والنهي الجازم يعني التحريم، أي تحريم ما جاء النهي جازما عنه، وقد جاء النهي الجازم عن الاعتقاد بالظن فكان حراما. ولذلك فإنه لا يصح أن يكون دليل العقائد ظنيا لأن العقائد جزمٌ لا تثبت بالظن فالظن لا يفيد لا قطعا ولا جزما.


غير أنه ينبغي أن يعلم أن الحرام هو الاعتقاد، وليس مجرد التصديق، فالتصديق لا شيء فيه، وهو غير حرام، ولكن الجزم هو الحرام، أي التصديق الجازم هو الحرام، لأنه جزم بني على ظن ولذم الله لمن يبني عقيدته على الظن. إلا أن عدم الاعتقاد لا يعني الإنكار، وإنما يعني فقط عدم الجزم، فليس معنى لا اعتقد بالشيء أنكره بل معناه لا أجزم به،


فلا بد من ملاحظة هذه الناحية الدقيقة ملاحظة تامة، لأنه قد وردت أحاديث صحيحة ظنية في أمور تعتبر من العقائد، وليست من الأحكام الشرعية، فليس معنى تحريم الاعتقاد بالظني رفض ما في هذه الأحاديث وعدم التصديق بما جاء فيها تصديق غير جازم، فالحرام إنما هو الاعتقاد بها أي الجزم بها. بل منها ما جاء النص طالبا العمل به فيعمل به، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع، من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" (ابن ماجه) وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم أني أعوذ بك من المأتم والمغرم" (البخاري) فهذان الحديثان خبر آحاد وفيهما طلب فعل، أي طلب القيام بهذا الدعاء بعد الفراغ من التشهد، فيندب الدعاء بهذا الدعاء بعد الفراغ من التشهد، وما جاء فيهما يصدق، ولكن الذي يحرم هو الجزم به أي الاعتقاد به ما دام قد جاء في حديث آحاد أي بدليل ظني، فإن جاء بالتواتر فحينئذ يجب الاعتقاد به."


ب) ورد في جواب سؤال عن التداوي بالخمر بتاريخ 1969/2/8م: "والبول كله نجس بدليل ما جاء في الحديث في عذاب من في القبرين "كانا لا يستبرئان من البول"


ج) ورد في جواب سؤال: "النقاش الذي حصل في عذاب القبر لم يحصل فيه رد الحديث، لأن الحديث صحيح في البخاري، ولم يتعرض للرد دراية أو رواية، وإنما كان البحث موضوع عذاب القبر، على أن الحديث المذكور لا يصح الاستدلال به على عذاب القبر لأنه خبر آحاد والعقائد لا تؤخذ إلا باليقين. فكونه لا يصلح دليلا على العقائد لا ينفي أنه يصلح دليلا على الأحكام الشرعية. فالحديث المذكور صحيح وهو في صحيح البخاري، ويستدل به على نجاسة البول، ولا يصح الاستدلال به على العقائد.


د) ورد في نشرة بعنوان "أثـر المندوبـات والطاعـات في بنـاء النفسيـة": "والمسلم يكثر من الاستعاذة بالله والاستعانة به، وهما من العبادة التي تقوي النفسية وتدنيه من رضا الله، وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من التعوذ من كثير من الشرور والمواقف، وقد روى ابن عباس أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: ‹‹اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات››. وقال فيما يرويه عن ربه: ‹‹ولئن استعاذني لأعيذنه ولئن استنصرني لأنصرنه››. وقد وردت في السنة استعاذات كثيرة مثل الاستعاذة من الهم والغم والحزن والبخل والشح والكسل والفتن وغلبة الدين وقهر الرجال ومن الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق."


هـ) ورد في جواب سؤال بتاريخ: 1990/6/22 "ومسألة عذاب القبر ومسألة نزول عيسى فإنهما وإن قال الشوكاني أنهما متواترتان معنى فإن غيره لم يعتبرهما متواترين، ‎فإن العلماء اختلفوا في النظرة إلى المتواتر وما ورد في كتاب الشخصية الجزء الأول هو المتبنى عند الحزب وهو أن التواتر سواء كان تواتر لفظ أو تواتر معنى فإنه يفيد العلم واليقين."


هذه هي المواطن التي ذكر فيها الحزب رأيه في مسألة عذاب القبر،


وبدراسة هذه المواطن نجد أن الحزب يتبنى حرمة بناء العقيدة على الظن، وأنه مثَّل على ذلك بمثال عذاب القبر، بأنه ورد في أحاديث صحيحة لم تبلغ درجة التواتر بآحادها، وأنه مثّل على وجود الاختلاف بين العلماء في تواتر بعض الأحاديث أو عدم تواترها، فذكر الاختلاف في تواتر عذاب القبر، وفي مسألة نزول سيدنا عيسى عليه السلام، ذكر هذا الاختلاف ولم يبين فيه موقفه من مسألة نزول عيسى عليه السلام، وكون الحزب يذكر وجود الاختلاف لا يعني بحال أنه يقول بتواتره أو بعدم تواتره معنى، بل يمثل عليه وحسب، كما مثلنا أعلاه باختلاف بعض الصحابة في مسألة المسح على الخفين، وإن كنا نقول بتواترها، فمجرد ذكر الخلاف لا يعني أخذ موقف بالإيجاب أو النفي.


وقد نص ابن حزم في كتابه: مراتب الإجماع على "واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده أبدا، إلا أنهم اختلفوا في عيسى عليه السلام، أيأتي قبل يوم القيامة أم لا؟" فهنا ابن حزم ينقل وجود اختلاف حول نزول عيسى عليه السلام، فمجرد ذكر الاختلاف لا يعني اتخاذ موقف من المسألة.


فالحزب ذكر أن أحاديث القبر الواردة في البخاري وغيره أخبار آحاد، فما دامت تأخذ وصف أخبار الآحاد فإنه لا يبنى عليها اعتقاد، وهذا يعني أنه لا يقول بتواترها معنى، لقوله بأنها لا يصلح الاستدلال بها على العقائد، ولم يقل حزب التحرير مثل ذلك في نزول عيسى عليه السلام.


وسنبين سبب رأينا في عدم بلوغ عذاب القبر التواتر المعنوي من خلال الأبحاث التالية:


أولا: اختلاف أهل العلم في وقوع عذاب القبر على البدن والروح أم على البدن وحده أم على الروح وحدها:


ثانيا: اختلاف أهل العلم في الميت هل يرد إلى الحياة أم لا.


اختلف أهل العلم في عذاب القبر، أيقع على الروح والبدن، أم على أحدهما دون الآخر، هذا الخلاف يعني أنه لا يجوز أن يعتقد المسلم بأحد الرأيين دون الآخر، أي أنه يحرم أن يعتقد مسلم أن عذاب القبر يقع على الروح وحدها، أو على البدن وحده، أو على الروح والبدن.


يعني أن الاعتقاد بعذاب القبر شيء، والاعتقاد بكونه يقع على شيء مما سبق دون غيره شيء آخر.


قال ابن حجر في الفتح كتاب الجنائز: باب مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْر:... "قوله: (باب ما جاء في عذاب القبر) لم يتعرض المصنف [أي البخاري رضي الله عنه] في الترجمة لكون عذاب القبر يقع على الروح فقط أو عليها وعلى الجسد، وفيه خلاف شهير عند المتكلمين، وكأنه تركه لأن الأدلة التي يرضاها ليست قاطعة في أحد الأمرين فلم يتقلد الحكم في ذلك واكتفى بإثبات وجوده،"،


فالبخاري رحمه الله يثبت وجود عذاب القبر، دون قطع في وقوعه على بدن أو روح، مقابل موقف النفاة الذين ردوا وجود عذاب القبر أساسا، فالأدلة التي اجتمعت لدى البخاري رحمه الله تثبت وجود عذاب القبر ولا تقطع بعلى أي شيء يقع قطعًا، وقطعًا هذا يعني أنه لا يبني العقيدة على الظني.


قال ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل: "عذاب القبر قال أبو محمد: ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر. وهو قول من لقينا من الخوارج. وذهب أهل السنة وبشر بن المعتمر والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به. وبه نقول لصحة الآثار عن رسول الله. قال أبو محمد: وقد احتج من أنكره بقول الله تعالى: ﴿رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: 11]. وبقوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: 28]. قال أبو محمد: وهذا حق لا يدفع عذاب القبر لأن فتنة القبر وعذابه والمساءلة إنما هي للروح فقط بعد فراقه للجسد إثر ذلك، قبر أو لم يقبر........، وأما من ظن أن الميت يحيى في قبره فخطأ لأن الآيات التي ذكرنا تمنع من ذلك، ولو كان ذلك لكان تعالى قد أماتنا ثلاثاً وأحياناً ثلاثاً، وهذا باطل، وخلاف القرآن، إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء.".


فإذا علمنا أن الإمام أحمد روى في مسنده، والمنذري في الترغيب والترهيب، وأبو داود وغيرهم: عن البراء بن عازب قال: «خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولم يلحد،...» إلى أن قال عليه سلام الله: «فيقول الله عزَّ وجلَّ: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله،...» إلى أن قال عليه سلام الله: «ثم قرأ ﴿ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق﴾ فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري»، الحديث. وذكر زيادة وتعاد روحه في جسده ابن حجر رضي الله عنه، في فتح الباري، باب الجنائز، وبدر الدين العيني في عمدة القاري باب الجنائز، وغيرهما.


إذا علمنا وجود هذا التفصيل في الحديث، فالإمام البخاري لم يرتض هذا دليلا قطعيا على وقوع التعذيب على الروح مع الجسد، وإلا فما معنى أن تعاد له روحه ثم يقع العذاب فقط على الروح، أو فقط على الجسد؟


لقد قطع ابن حزم رحمه الله أن رد الروح إلى الجسد، يتعارض قطعا مع الآية الكريمة ﴿رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾، ولعله لم يبلغه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، أو رأى أن الآية قطعية في نفيه، تعارضت مع ظني، ومن هنا فإن قطعه أن عذاب القبر على الروح وحدها دون الجسد، بحاجة لإعادة نظر، إذ إن هذا الحديث قد يفهم منه خلاف ذلك، لذا فإن الأصوب أن لا يقطع في وقوع العذاب على الروح دون الجسد أو عليهما معا، وهو مذهب الإمام البخاري رضي الله عنه كما فهمه ابن حجر رضي الله عنه.


وهذا الحديث يشكل معه تفسير قوله تعالى: ﴿رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ [غافر: 11]. وبقوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ﴾ [البقرة: 28]. فلا بد معها من ثلاث إماتات وثلاث إحياءات!


فلوجود هذا الإشكال يبقى الحديث في دائرة الظني، ولا يتحصل منه تواتر معنوي لإشكالية تعارضه مع الآيات!


ثالثا: الآيات التي قيل أنها تثبت عذاب القبر في كتاب الله كلها ظنية فيه:


وقد استدل جمهرة من المسلمين من السلف والخلف على عذاب القبر من القرآن الكريم بالآيات التالية: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [الأنفال: 50-51]، ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [محمد: 27]، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنعام: 93]، وهذه الآيات الثلاث الأخيرات قطعيات الدلالة على أن الملائكة تعذب الكفار عند قبض أرواحهم، ولا تصح للاستدلال على عذاب في القبر.


وقوله تعالى: ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 45-46]، وقوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾[ إبراهيم: 27].


وأما الآية 46 من سورة غافر والآية 27 من سورة إبراهيم فهما مكيتان، وورد حديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد يدل صراحة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعلم بعذاب القبر إلا في المدينة وفي وقت متأخر (بعد كسوف الشمس وموت ابنه إبراهيم)، فقد جاء في صحيح البخاري (ج2/ ص 431 فتح الباري "عن عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودية جاءت تسألها فقال لها: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُعذّب الناسُ في قبوهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذاً بالله من ذلك" وروى الإمام أحمد بإسناد على شرط البخاري عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأموي عن عائشة: أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاكِ اللهُ عذابَ القبر. قالت: فقلت يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود، لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يومٍ نصف النهار وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق.


وروى الإمام مسلم من طريق ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت "دخلتْ عليّ امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرتِ أنكم تُفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنما يُفتَن يهود. قالت عائشة فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل شعرتِ أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب القبر"
وهنا يظهر الإشكال:


فآية ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ مكية، وهي تشير إلى عذاب القبر، فقد قال ابن كثير عند تفسيره هذه الآية: "قال البخاري حدثنا... عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ ورواه مسلم أيضاً وبقية الجماعة كلهم، وآية ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ قال عنها ابن كثير: "وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور" وقال: "لا شك أن هذه الآية مكية، فكيف تكون هاتان الآيتان نزلتا في مكة قبل الهجرة وتتحدثان عن عذاب القبر، ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم عن عذاب القبر إلا في المدينة وفي وقت متأخر؟‍"


ابن كثير حاول حل هذا الإشكال كما يلي: "الجواب أن الآية ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا...﴾ دلّت على عرض الأرواح على النار غدواً وعشياً في البرزخ وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبول إذ قد يكون ذلك مختصاً بالروح، فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنّة.." وأضاف: "وقد يقال إن هذه الآية إنما دلّتْ على عذاب الكفار في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب." إ.هـ. وقد حاول ابن حجر العسقلاني (في فتح الباري ج3/ ص183) حل هذا الإشكال كما يلي: "وقد استشكل ذلك بأن الآية المتقدمة مكية وهي قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾... وكذلك الآية الأخرى المتقدمة وهي قوله تعالى ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾، والجواب أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم في حق من لم يتصف بالإيمان، وكذلك بالمنطوق في الأخرى في حق آل فرعون وإن التحق بهم من كان له حكمهم من الكفار.


الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين، ثم أُعْلِمَ صلى الله عليه وسلم أن ذلك قد يقع على من يشاء الله منهم، فجزم به وحذّر منه وبالغ في الاستعاذة منه تعليماً لأمته وإرشاداً فانتفى التعارض بحمد الله تعالى" انتهى كلام ابن حجر. ومثله في شرح الزرقاني على موطأ مالك،


والمدقق يرى أن الإشكال لم يستطع حله ابنُ حَجَر ولا ابن كثير بل هما قد نظرا إلى جانب واحد وأغفلا الجانب الأهم؛ وهو: هل يجوز في حق الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغ بغير علم، وأن يخطئ في تبليغه، وأن يستمر هذا الخطأ أياماً عدة؟.


إن المسألة هنا ليست مثل مسألة تأبير النخل حتى إذا "أخطأ" فيها صلى الله عليه وسلم قال: أنتم أدرى بشؤون دنياكم، المسألة هنا هي من صميم الدين وهي من الغيب الذي لا يمكن معرفته إلا بالوحي من الله.


والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل عن أمر من هذا النوع كان ينتظر الوحي.


ولذلك فالإشكال قائم، وندعو أهل العلم للبحث عن حله، والمسألة في نسخ الأخبار وهو ما أجمع على عدم وقوعه المحققون، قال الزركشي نقلا عن ابن برهان في الأوسط: "أنه يفضي إلى الكذب، وهو مستحيل في حق من لا ينطق عن الهوى، والذي يترجح لدينا هو أن حديث عائشة بشأن المرأة اليهودية يُرَدُّ دراية."


والآية الكريمة ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ ليست قطعية الدلالة بأن هذا العرض يحصل قبل يوم القيامة، فهو يحتمل أن يكون في يوم القيامة كما يحتمل أن يكون قبل القيامة، فقد قال تعالى في سورة الكهف: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا﴾ أما من توهم أن عطف ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ على ﴿غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ يحتم أن يكون الغدو والعشي في غير يوم القيامة فهو مخطئ لأن العطف لا يقتضي الغيْرية دائماً، فالله يقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزخرف: 84]


فلو كانت واو العطف تقتضي دائماً أن المعطوف هو غير المعطوف عليه لكان هذا يعني أن إله الأرض غير إله السماء سبحانه لا إله إلا هو.


وفي هذه الآية ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ يحتمل أن يكون المعنى أنهم يعرضون على النار بعد النفخ في الصور في أول القيامة مدة من الزمن، وهذا بداية العذاب ثم يُدخلون إلى أشد العذاب.


وفي سورة الشورى: ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ﴾ [الشورى: 45]. وفي الأحقاف: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ [الأحقاف: 20] ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [الأحقاف: 34]، ففيها كلها العرض يوم القيامة، فأي دليل إذن فيها قطعي على عذاب القبر؟


رابعا: الآيات التي وردت في القرآن الكريم والتي يفهم منها أنه لا عذاب قبل يوم القيامة:


على أنه توجد آيات يفهم منها أنه لا عذاب قبل يوم القيامة فهل من الممكن تأويلها لننفي التعارض بين الآيات والأحاديث؟


قال تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ [إبراهيم: 42]، ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ [يونس: 45]، ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: 61]، ﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً﴾ [مريم: 75]، ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 55-56]، ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الأحقاف: 35]، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 60]، ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً﴾ [فاطر: 45]، ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ [يس: 51-52]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾ [غافر: 10-11]، ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [الصافات: 58-60]، ﴿لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى﴾ [الدخان: 56] قالوا: لو صاروا أحياء في القبور لذاقوا الموت مرتين مرة في حياتهم الدنيا، ومرة في حياتهم البرزخية.


الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم عن عائشة بشأن المرأة اليهودية والذي يصرح أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى وقوع العذاب على الناس في البرزخ قبل يوم القيامة، ثم جاءه الوحي وأخبره أن عذاب القبر حق. هذا الحديث يُلقي شكاً على الموضوع.


والآية الكريمة: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ قد تلقي شكاً أيضاً على الموضوع، فهي تصرح بأن الله يؤخر عقاب الظالمين إلى يوم القيامة لأن اليوم الذي تشخص فيه الأبصار هو يوم القيامة. ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [النحل: 61]، ومثلها أيضاً قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر: 45]، والأجل المسمى هو يوم القيامة. وهذه الآيات قطعية الدلالة بتأخير الحساب إلى يوم القيامة، ولكن الأحاديث الصحيحة جاءت وخصصت الآيات فبينت أن الله قد يقدم بعض العقوبات فيجعلها في الدنيا ويجعل بعضها في القبر، ويبقي الجانب الأكبر ليوم الحساب: يوم القيامة.


وتخصيص القرآن بالسنة أمر متفق عليه ولذلك لا يصح لأحد أن يقول بأن هذه الآيات لا يمكن التوفيق بينها وبين أحاديث عذاب القبر، ولا يصح لأحد بناء على ذلك أن يرد هذه الأحاديث دراية.


والآية الكريمة ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ تُلقي شكاً أيضاً على الموضوع، فهي تنص على أنهم كانوا راقدين في قبورهم ولم يكونوا في حالة يقظة وعذاب. والتوفيق بين هذه الآية وأحاديث عذاب القبر أصعب من حالة تخصيص الآيات بالأحاديث الصحيحة التي سبق ذكرها قبل أسطر.


ذلك أننا لا نجد هنا أحاديث صحيحة تبيّن أن فترة البرزخ يتخللها العذاب والرقود. ومع ذلك فقد وفق بعض الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم بين الآية وأحاديث عذاب القبر كما نقل ابن كثير: "قال أُبيُّ بن كعب رضي الله عنه ومجاهد والحسن وقتادة: ينامون نومة قبل البعث. قال قتادة: وذلك بين النفختين، فلذلك يقولون: من بعثنا من مرقدنا وهذا التوفيق يشكل مخرجاً."


ولا تبقى حجة لقائل أن يقول: يوجد تصادم بين الآية والأحاديث ولا يمكن التوفيق بينهما بأي شكل من الأشكال، لا تبقى مثل هذه الحجة، ولذلك لا يصح لأحد أن يقول بأن هذه الأحاديث ترد دراية بناء على مناقضتها لهذه الآية.


والآية الكريمة: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ تُلقي شكاً أيضاً على الموضوع: أين لبثوا هذه الساعة بزعمهم؟ بعض المفسرين قال بأنهم يقصدون لبثهم في قبورهم، وبعضهم قال: يقصدون لبثهم في الحياة الدنيا، وبعضهم قال: يقصدون الرقدة التي رقدوها بين النفختين: النفخة التي تصعق المخلوقات، ونفخة القيامة. ومدتها أربعون سنة حسب بعض الآثار.


الذي يأخذ بالتفسير الأول أي أنهم يُقسمون أن لبثهم في قبورهم منذ ماتوا حتى قيام الساعة ليس أكثر من ساعة، الذي يأخذ هذا التفسير سيقع في إشكال، إذاً سيتصور بناء على ذلك أن هؤلاء المجرمين لم يكونوا في عذاب في قبورهم، لأن الذي يعذب طيلة الوقت في قبره يحس بطول الوقت. وليس هذا القول من قبيل قياس الغائب على الشاهد، أي قياس عذاب القبر على عذاب الحياة، بل لأن هناك نصوصاً ذكرت ذلك.


أما إذا أخذنا التفسير الثاني أو الثالث أي لبثهم في الحياة الدنيا أو رقدتهم بين النفختين فإنه لا إشكال في الأمر. ولكن القرينة في الآية ترجح لبثهم في قبورهم منذ موتهم حتى بعثهم يوم القيامة، وهذه القرينة موجودة في الآية التي بعدها ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ فجواب أهل العلم والإيمان بأن لبثهم استمر إلى يوم البعث يقطع بأن المقصود ليس لبثهم في الدنيا، وكل المفسرين الذين أخذوا هذا المعنى مخطئون.


وبما أن افتراض الرقدة بين النفختين هو افتراض غير قوي لأنه لا دليل عليه من النصوص بل هو مخرج توفيقي فيكون المعنى الأرجح هو المعنى الذي يسبب الإشكال.


ومن أجل أن نخرج من الإشكال نلجأ مرةً أخرى إلى المخرج التوفيقي، وهو أنهم يرقدون بين النفختين وأنهم يقصدون أنهم ما لبثوا غير ساعة في هذه الرقدة.


وخلاصة الجواب أن الأحاديث التي تتكلم عن عذاب القبر هي صحيحة ويمكن التوفيق بينها وبين الآيات التي يظهر أنها تعارض هذه الأحاديث. ولذلك فلا يجوز لمسلم أن ينكر هذه الأحاديث، ومنكرها هو منكر للحديث الصحيح فهو آثم، لأن منكر الحديث الصحيح يترتب عليه تعطيل العمل به ولكن لوجود هذه الإشكالات القوية، فإن عذاب القبر لا يصل إلى مرحلة التواتر المعنوي.


خامسا: رأي الأئمة: السرخسي وعبد العزيز البخاري والبزدوي والتفتازاني والزركشي:


وملخصه: أن هذه الأخبار تفيد سكون النفس وطمأنينة القلب دون علم اليقين، أو أنها حتى لا تفيد علم الطمأنينة، على أساس أن المشهور يفيد الطمأنينة دون علم اليقين، ومنهم من رأى أنها لا تفيد العلم الضروري.


قال السرخسي رحمه الله: "ثم قد يثبت بالآحاد من الأخبار ما يكون الحكم فيه العلم فقط نحو عذاب القبر وسؤال منكر ونكير ورؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة فبهذا ونحوه يتبين أن خبر الواحد موجب للعلم"، ولكنا نقول هذا القائل كأنه خفي عليه الفرق بين سكون النفس وطمأنينة القلب، وبين علم اليقين فإن بقاء احتمال الكذب في خبر غير المعصوم معاين لا يمكن إنكاره، ومع الشبهة والاحتمال لا يثبت اليقين، وإنما يثبت سكون النفس وطمأنينة القلب، بترجح جانب الصدق ببعض الأسباب، وقد بينا فيما سبق أن علم اليقين لا يثبت بالمشهور من الأخبار بهذا المعنى فكيف يثبت بخبر الواحد؟ وطمأنينة القلب نوع علم من حيث الظاهر فهو المراد بقوله ثم أعلمهم ويجوز العمل باعتباره،


وقال عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار: "(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ): وَهُوَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ الْقِسْمِ الأَوَّلِ، وَهُوَ كُلُّ خَبَرٍ يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ أَوْ الاثْنَانِ فَصَاعِدًا لا عِبْرَةَ لِلْعَدَدِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ دُونَ الْمَشْهُورِ وَالْمُتَوَاتِرِ، وَهَذَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلا يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقِينًا عِنْدَنَا، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ لا يُوجِبُ الْعَمَلَ؛ لأَنَّهُ لا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَلا عَمَلَ إلا عَنْ عِلْمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ﴾، وَهَذَا؛ لأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ مَوْصُوفٌ بِكَمَالِ الْقُدْرَةِ فَلا ضَرُورَةَ لَهُ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ بِخِلافِ الْمُعَامَلاتِ؛ لأَنَّهَا مِنْ ضَرُورَاتِنَا وَكَذَلِكَ الرَّأْيُ مِنْ ضَرُورَاتِهَا فَاسْتَقَامَ أَنْ يَثْبُتَ غَيْرُ مُوجِبِ عِلْمِ الْيَقِينِ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعَمَلَ، وَلا عَمَلَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَقَدْ وَرَدَ الآحَادُ فِي أَحْكَامِ الآخِرَةِ مِثْلُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالأَبْصَارِ وَلا حَظَّ لِذَلِكَ إلا الْعِلْمُ ..... وَأَمَّا دَعْوَى عِلْمِ الْيَقِينِ بِهِ فَبَاطِلٌ بِلا شُبْهَةٍ لأَنَّ الْعِيَانَ يَرُدُّهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ لا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَهَذَا أَوْلَى؛ وَهَذَا لأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُحْتَمَلٌ لا مَحَالَةَ، وَلا يَقِينَ مَعَ الاحْتِمَالِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَقَدْ سَفَّهُ نَفْسَهُ، وَأَضَلَّ عَقْلَهُ.".


وفي أصول فخر الاسلام للبزدوي: بعد أن يقول نفس الكلام الذي قاله عبد العزيز البخاري رحمه الله: ".. وَقَدْ وَرَدَ الآحَادُ فِي أَحْكَامِ الآخِرَةِ مِثْلُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالأَبْصَارِ وَلا حَظَّ لِذَلِكَ إلا الْعِلْمُ، قَالُوا: وَهَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَثَبَتَ عَلَى الْخُصُوصِ لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ كَالْوَطْءِ..." قال بعد ذلك: "(بَابُ خَبَرِ الْوَاحِدِ). وَهُوَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ، وَهُوَ الاتِّصَالُ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ صُورَةً وَمَعْنًى مِنْ الْقِسْمِ الأَوَّلِ، وَهُوَ الاتِّصَالُ أَمَّا ثُبُوتُ الشُّبْهَةِ فِيهِ صُورَةً فَلأَنَّ الاتِّصَالَ بِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَثْبُتْ قَطْعًا.، وَأَمَّا مَعْنًى فَلأَنَّ الأُمَّةَ مَا تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ. وَهُوَ كُلُّ خَبَرٍ يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ أَيْ الْمُخْبِرُ الْوَاحِدُ وَالاثْنَانِ أَيْ أَوْ الاثْنَانِ. لا عِبْرَةَ لِلْعَدَدِ فِيهِ يَعْنِي لا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ مُتَعَدِّدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ وَالاشْتِهَارِ.... فَسَوَّى الشَّيْخُ بَيْنَ الْكُلِّ قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلا يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقِينًا أَيْ لا يُوجِبُ عِلْمَ يَقِينٍ، وَلا عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ.".


فكلاهما يرحمهما الله يبينان أن مثل قضايا الآخرة هذه لا يجوز أن تبنى على الظن، وأنها وردت من طريق الآحاد وأن الآحاد تفيد الظن.


فالبزدوي لا يرتضي أن يوصل الآحاد للعلم، كما القول بأنه كالوطء، يحصل منه إنجاب في بعض الحالات ولا يحصل في غيرها، أي أنهم يقولون أن البعض يصل لديه من الآحاد علم ضروري والبعض لا يصل، لأنهم يعتبرون أن العلم يلقيه الله في القلب، فليس كل من سمع الخبر يلقى في قلبه هذا العلم، وهذا كلام غير معتبر لدى من يعتبر العلم الضروري لا بد أن يستوي فيه الكل.


قال الإمام سعد الدين مسعود ابن عمر التفتازاني الشافعي المذهب، المتوفى عام 792ﻫ في كتابه (شرح التلويح على التوضيح لمتن كتاب التنقيح في أصول الفقه) ص432 ما نصه: [والأخبار في أحكام الآخرة مثل عذاب القبر وتفاصيل الحشر والصراط والحساب والعقاب إلى غير ذلك والتي لا توجب إلا الاعتقاد ـ أي التي لا تتطلب منا إلا التصديق الجازم ـ قد يقول قائل فيها ـ أي في هذه الأخبار ـ أن خبر الواحد يحتمل الصدق والكذب، وبالعدالة ـ أي عدالة الراوي ـ يترجح الصدق بحيث لا يبقى احتمال الكذب وهو معنى العلم. وجوابه أنا لا نسلم ترجح جانب الصدق إلى حيث لا يحتمل الكذب أصلا بل العقل شاهد بان خبر الواحد العدل لا يوجب علم اليقين وان احتمال الكذب قائم وان كان مرجوحا، والإلزام القطع بالنقيضين عند أخبار العدلين بهما، وجواب الأول وجهان: احدها أن الأحاديث في باب الآخرة فيها ما اشتهر فيوجب علم الطمأنينة وفيها ما هو خبر الواحد فيفيد الظن وذلك في التفاصيل والفروع ومنها ما تواتر فيفيد القطع واليقين ] إ.هـ.


قال الزركشي في البحر المحيط: "مَسْأَلَةٌ [إفَادَةُ الْمُسْتَفِيضِ الْعِلْمَ] وَالْمُسْتَفِيضُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوَاسِطَةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ فِي قَوْلِ الأُسْتَاذَيْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الإسْفَرايِينِيّ، وَأَبِي مَنْصُورٍ التَّمِيمِيِّ، وَابْنُ فُورَكٍ، وَمَثَّلَهُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِالأُصُولِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ": بِالأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ، وَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْحَوْضِ، وَالشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمَثَّلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ بِحَدِيثِ: [إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ]، وَحَدِيثِ: [لا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا]، وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعَمَلِ، مُقَارِبًا لِلْيَقِينِ. وَسَبَقَهُ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَضَعَّفَ مَقَالَةَ الأُسْتَاذِ بِأَنَّ الْعُرْفَ وَإِطْرَادَ الاعْتِبَارِ لا يَقْتَضِي الصِّدْقَ


قَطْعًا، بَلْ قُصَارَاهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَقَالَ الإِبْيَارِيُّ: كَأَنَّ الأُسْتَاذَ أَرَادَ أَنَّ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِ الْمُخْبِرِينَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالتَّجْرِبَةِ يَحْصُلُ ذَلِكَ، وَقَدْ مَالَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ، وَلا وَجْهَ لَهُ. نَعَمْ، هُوَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لا الْعِلْمِ. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُوَ نَظَرِيٌّ لا ضَرُورِيٌّ فِي قَوْلِ الأُسْتَاذَيْنِ.


وقال زين الدين العراقي في طرح التثريب: إثبات عذاب القبر


"(التَّاسِعَةُ) فِيهِ ذِكْرُ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ لأَنَّ عَذَابَ النَّارِ وَعَذَابَ الْقَبْرِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَمَاتِ وَذِكْرُ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لأَنَّ شَرَّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ مِنْ فِتْنَةِ انْمَحْيَا (الْعَاشِرَةُ) فِيهِ إثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ اشْتَهَرَتْ بِهِ الأَحَادِيثُ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ وَالإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ.". انتهى


فأدلته لم تصل لديه حد التواتر ولكنه أوصلها العلم بوصول أخبارها درجة المشهور! وهذا زين الدين العراقي رحمه الله تعالى وهو علامة كبير في علم الحديث!


أما سبط بن العجمي عالم بالحديث ورجاله، من كبار الشافعية. أصله من طرابلس والشام، مولده ووفاته في حلب. وفي أيامه هاجمها تيمورلنك صاحب التوضيح فيقول رحمه الله في باب التواتر يوجب علم اليقين: "وَالأَوَّلُ مُتَوَاتِرٌ وَالثَّانِي مَشْهُورٌ وَالثَّالِثُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ إذَا لَمْ يَصِلْ حَدَّ التَّوَاتُرِ. وَالأَوَّلُ: يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ؛ لأَنَّ الاتِّفَاقَ عَلَى شَيْءٍ مُخْتَرَعٍ مَعَ تَبَايُنِ هُمُومِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَقْلا. وَالثَّانِي يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ وَهُوَ عِلْمٌ تَطْمَئِنُّ بِهِ النَّفْسُ، وَتَظُنُّهُ يَقِينًا لَكِنْ لَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَقِينٍ كَمَا إذَا رَأَى قَوْمًا جَلَسُوا لِلْمَأْتَمِ يَقَعُ لَهُ عِلْمٌ عَنْ غَفْلَةٍ عَنْ التَّأَمُّلِ؛ لأَنَّهُ يُمْكِنُ الْمُوَاضَعَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ آحَادُ الأَصْلِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ أَيْ: الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ (ذَلِكَ) أَيْ: عِلْمَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ لأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الأَصْلِ خَبَرُ وَاحِدٍ، لَكِنَّ أَصْحَابَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ تَنَزَّهُوا عَنْ وَصْمَةِ الْكَذِبِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ فَأَوْجَبَ مَا ذَكَرْنَا، وَالثَّالِثُ يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ إذَا اجْتَمَعَ الشَّرَائِطُ الَّتِي نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ لا يُوجِبُ شَيْئًا..."


ثم يقول: "(وَالثَّانِي) أَيْ: الْمَشْهُورُ يُفِيدُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ، وَالطُّمَأْنِينَةُ زِيَادَةُ تَوْطِينٍ وَتَسْكِينٍ يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ عَلَى مَا أَدْرَكَتْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُدْرَكُ يَقِينِيًّا فَاطْمِئْنَانُهَا زِيَادَةُ الْيَقِينِ وَكَمَالُهُ كَمَا يَحْصُلُ لِلْمُتَيَقِّنِ بِوُجُودِ مَكَّةَ بَعْدَ مَا يُشَاهِدُهَا، وَإِلَيْهِ الإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾، وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا فَاطْمِئْنَانُهَا رُجْحَانُ جَانِبِ الظَّنِّ بِحَيْثُ يَكَادُ يَدْخُلُ فِي حَدِّ الْيَقِينِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا وَحَاصِلُهُ سُكُونُ النَّفْسِ عَنْ الاضْطِرَابِ بِشُبْهَةٍ إلا عَنْهُ مُلاحَظَةُ كَوْنِهِ آحَادَ الأَصْلِ، فَالْمُتَوَاتِرُ لا شُبْهَةَ فِي اتِّصَالِهِ صُورَةً، وَلا مَعْنًى، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي اتِّصَالِهِ شُبْهَةُ صُورَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَمَعْنًى حَيْثُ لا تَتَلَقَّاهُ الأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالْمَشْهُورُ فِي اتِّصَالِهِ شُبْهَةُ صُورَةٍ لِكَوْنِهِ آحَادَ الأَصْلِ لا مَعْنًى؛ لأَنَّ الأُمَّةَ قَدْ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ فَأَفَادَ حُكْمًا دُونَ الْيَقِينِ وَفَوْقَ أَصْلِ الظَّنِّ فَإِنْ قِيلَ هُوَ فِي الأَصْلِ خَبَرُ وَاحِدٍ وَلَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ فِي الاتِّصَالِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا يَزِيدُ عَلَى الظَّنِّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ قُلْنَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَنَزَّهُوا عَنْ وَصْمَةِ الْكَذِبِ أَيْ: الْغَالِبُ الرَّاجِحُ مِنْ حَالِهِمْ الصِّدْقُ فَيَحْصُلُ الظَّنُّ بِمُجَرَّدِ أَصْلِ النَّقْلِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَحْصُلُ زِيَادَةُ رُجْحَانٍ بِدُخُولِهِ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ وَتَلَقِّيهِ مِنْ الأُمَّةِ بِالْقَبُولِ فَيُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِتَنَزُّهِهِمْ عَنْ وَصْمَةِ الْكَذِبِ أَنَّ نَقْلَهُمْ صَادِقٌ قَطْعًا بِحَيْثُ لا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ، وَإِلا لَكَانَ الْمَشْهُورُ مُوجِبًا عِلْمَ الْيَقِينِ؛ لأَنَّ الْقَرْنَ الثَّانِيَ وَالثّالث وَإِنْ لَمْ يَتَنَزَّهَا عَنْ الْكَذِبِ إلا أَنَّهُ دَخَلَ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ."


وقال: "(قَوْلُهُ: وَالإِخْبَارُ فِي أَحْكَامِ الآخِرَةِ وَلأَنَّهُ يَحْتَمِلُ) دَلِيلانِ مُسْتَقِلانِ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ تَقْرِيرُ الأَوَّلِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي أَحْكَامِ الآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَتَفَاصِيلِ الْحَشْرِ وَالصِّرَاطِ وَالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَقْبُولٌ بِالإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّهُ لا يُفِيدُ إلا الاعْتِقَادَ إذْ لا يَثْبُتُ بِهِ عَمَلٌ مِنْ الْفُرُوعِ. وَتَقْرِيرُ الثَّانِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَبِالْعَدَالَةِ تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ بِحَيْثُ لا يَبْقَى احْتِمَالُ الْكَذِبِ، وَهُوَ مَعْنَى الْعِلْمِ وَجَوَابِهِ أَنَّا لا نُسَلِّمُ تَرَجُّحَ جَانِبِ الصِّدْقِ إلَى حَيْثُ لا يُحْتَمَلُ الْكَذِبُ أَصْلا بَلْ الْعَقْلُ شَاهِدٌ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ لا يُوجِبُ الْيَقِينَ، وَأَنَّ احْتِمَالَ الْكَذِبِ قَائِمٌ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا وَإِلا لَزِمَ الْقَطْعُ بِالنَّقِيضَيْنِ عِنْدَ إخْبَارِ الْعَدْلَيْنِ بِهِمَا. وَجَوَابُ الأَوَّلِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الأَحَادِيثَ فِي بَابِ الآخِرَةِ مِنْهَا مَا اُشْتُهِرَ فَيُوجِبُ عِلْمَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فَيُفِيدُ الظَّنَّ وَذَلِكَ فِي التَّفَاصِيلِ وَالْفُرُوعِ، وَمِنْهَا مَا تَوَاتَرَ وَاعْتُضِدَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ فِي الْجُمَلِ وَالأُصُولِ فَيُفِيدُ الْقَطْعَ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَحْكَامِ الآخِرَةِ عَقْدُ الْقَلْبِ، وَهُوَ عَمَلٌ فَيَكْفِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَقْدُ الْقَلْبِ فِي غَيْرِ أَحْكَامِ الآخِرَةِ، وَهُوَ مَعْنَى الْعِلْمِ، وَقَدْ بُيِّنَ فَسَادُهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ الأَحَادِيثَ فِي أَحْكَامِ الآخِرَةِ إنَّمَا وَرَدَتْ لِعَقْدِ الْقَلْبِ وَالْجَزْمِ بِالْحُكْمِ، وَفِي غَيْرِهَا لِلْعَمَلِ دُونَ الاعْتِقَادِ فَوَجَبَ الإِتْيَانُ بِمَا كُلِّفْنَا بِهِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا." انتهى

 

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أبو مالك

 

 

1 تعليق

  • إسلام زيدان حمامرة
    إسلام زيدان حمامرة الثلاثاء، 03 كانون الثاني/يناير 2017م 23:52 تعليق

    بارك الله فيكم و جزاكم خير الجزاء فللأسف موقع إسلام ويب إتهم حزب التحرير و أعضائه بأنهم من أهل البدع و إتهموهم بإتهامات باطلة و مفترية....

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع