- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
نصب الخليفة من أعظم واجبات الدين، إذ لا قيام للدين إلا به
إذا علمنا أن الشارع أناط تطبيق الأحكام الشرعية بالأفراد والأحزاب والدولة، فما تعلق بالأفراد بصفتهم الفردية أمثال العبادات، خوطب الفرد بالقيام بالصلاة وأداء الزكاة، ولكن الشارع في الوقت نفسه خاطب الدولة بتنظيم أحكام متعلقة لضمان أداء هذه الأحكام على الوجه المطلوب شرعا، فمن ذلك مثلا أن الزكاة تؤخذ من الغني وترد في مصارف الزكاة، يستطيع الفرد أداءها بنفسه لجاره الفقير مثلا، ولكن الشارع جعل الآلية الأفضل لأدائها أن تُعطى للسلطان، وهو يقوم بتصريفها في مواردها، حدثنا أبو بكر قال حدثنا بشر بن المفضل عن سهيل عن أبيه قال سألت سعيدا وابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد فقلت: إن لي مالا وأنا أريد أن أعطي زكاته ولا أجد له موضعا وهؤلاء يصنعون فيها ما ترون. فقال: كلهم أمروني أن أدفعها إليهم، حدثنا معاذ بن معاذ عن ابن عون عن نافع قال: قال ابن عمر: ادفعوا زكاة أموالكم إلى من ولاه الله أمركم، فمن بر فلنفسه ومن أثم فعليها، حدثنا أبو أسامة عن هشام عن محمد قال: كانت الصدقة تدفع إلى النبي ﷺ ومن أمر به وإلى أبي بكر ومن أمر به وإلى عمر ومن أمر به وإلى عثمان ومن أمر به، فلما قتل عثمان اختلفوا فمنهم من رأى أن يدفعها إليهم ومنهم من رأى أن يقسمها هو، قال محمد: فليتق الله من اختار أن يقسمها هو ولا يكون يعيب عليهم شيئا يأتي مثل الذي يعيب عليهم. والآثار والأدلة في هذا كثيرة، إنما ضربناها مثالا على أن تنظيم فعل العبادة احتاج لدولة لتنظيم أموره.
وعلى ذلك قاتل سيدنا أبو بكر مانعي الزكاة، لما توفي رسول الله ﷺ، واستُخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: (كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه وحسابهم على الله»؟ فقال: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فوالله ما هو إلا رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق).
والأحكام المنوطة بالدولة نجد أن منها ما يمكن للأفراد أداؤه كإخراج الزكاة مباشرة للفقراء، ومنها ما لا يمكن للأفراد القيام به إلا من خلال دولة كالحدود، فلا يحق لأحد أن يعاقب بإقامة الحد إلا السلطان أو القاضي أو الوالي أو من أقاموه لينفذ ذلك، فبنظرة متفحصة على أحكام الشرع نجد الأحكام التالية منوطة بالدولة:
السياسة الداخلية للدولة: والسياسة الداخلية هي رعاية شؤون الأمة ورعايا الدولة، سواء في علاقاتهم بالدولة وعلاقة الدولة بهم، من محاسبة، ومجلس أمة، ومظالم، ودوائر مصالح الناس، وتعيين ولاة وموظفين ومعاونين ومحتسبين، أو بعلاقاتهم بعضهم مع بعض من نصح وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وحفاظ على العقيدة، وحفظ الدين بنشر العلم، ومحاربة الجهل والبدع، وسياسة إعلامية، وفض خصومات، وما يلزم ذلك من استنباط أحكام متعلقة بالمعاملات والقضاء، وتحقيق المساواة في التعامل والحقوق بحسب الشرع، وتمكين الرعايا مسلمين وذميين من كافة الحقوق ومن الانتفاع بالثروات، ومن مرافق الدولة العامة، وضمان حاجاتهم الأساسية، ومن إقامة المجتمع على أسس من التعاون والإخاء والتكافل والإيثار، ومن إقامة الأمن، وإقامة الأسواق والمساجد والمستشفيات ومراكز الأبحاث والمرافق، والسدود، وما إلى ذلك، وإظهار طريقة العيش الإسلامية بأرقى صورها لتكون مثالاً ناصعًا تسوده الفضيلة، وقيمةً عليا وأداةً أساسيةً لحمل الدعوة الإسلامية للغير.
ومن الأحكام المنوطة بالدولة، أحكام السياسة الخارجية: من إقامة جهاز يقوم على صنع وتنفيذ السياسات والقرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية، سواء الجهاز الحكومي أو الجهاز غير الحكومي المتمثل بالأحزاب السياسية والوسط السياسي، ومن معاهدات، وحمل دعوة، وجهاد، وحربية، وما يتبع ذلك من إنشاء الصناعات الثقيلة وبناء المصانع واستخراج الثروات الطبيعية، والعلاقات الدولية مع الدول والأطراف الدولية الأخرى لتنفيذ أهداف الدولة الإسلامية على الساحة الدولية ونشر الإسلام واتخاذ القرارات التي تسير علاقات الدولة دولياً، والسهر على شؤون الدولة من خلال مواكبة الأحداث والتفاعلات التي يشهدها النظام العالمي على المستويات السياسية، والاستراتيجية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية ودراسة أثر ذلك على الأمة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لرعاية مصالح الأمة، ووضع الخطط اللازمة لحمل الدعوة ونشر الإسلام ورعاية مصالح الرعايا خارج الدولة، وما إلى ذلك.
ومن الأحكام المنوطة بالدولة الأحكام المالية والنظام الاقتصادي وما فيه من ملكيات عامة وخاصة، وملكية دولة، والتحقق من إقامة الدولة اقتصاديا وتحقيق الغايات من ذلك النظام، والأحكام المتعلقة بكيفية تملك المال، وتنميته، وكيفية إنفاقه والتصرف فيه، وكيفية توزيع الثروة على أفراد المجتمع، وكيفية إيجاد التوازن فيه ومن أحكام الخراج والزكاة والأراضي، والنقود والسياسات النقدية، والتجارة الداخلية والخارجية، والصناعات وما إلى ذلك.
ومن الأحكام المتعلقة بالدولة الأحكام المتعلقة بنظام العقوبات، من حدود وتعزير وقصاص، وجنايات وبينات وقضاء، ومخالفات، وما إلى ذلك، وحيثما قَلَّبْتَ النظر وَجَدْتَ أحكام الإسلام قائمة على أساس أن تطبق من خلال الدولة الإسلامية، وإنما حظ الأفراد من التطبيق: السهر على النصح للدولة ومحاسبتها، وتنفيذ أمر الله الذي أقام ولي الأمر ليقيمه، وأن الأمة بأفرادها هي صاحبة السلطان، توكل عنها الحاكم بتنفيذ الأوامر والنواهي التي أمرها الله بها، بالإضافة إلى القيام بالأعمال المنوطة بالأفراد من صلاة وصوم وحج وأمر بمعروف ونهي عن منكر وصدقة وما شابه من أحكام.
ولأجل القيام بكل هذه الأحكام المنوطة بالدولة وتنظيم أدائها، قامت أجهزة الدولة الإسلامية على ثلاثة عشر جهازا هي:
1- الخليفة
2- المعاونون (وزراء التفويض)
3- وزراء التنفيذ
4- الولاة
5- أمير الجهاد (الجيش)
6- الأمن الداخلي
7- الخارجية
8- الصناعة
9- القضاء
10- مصالح الناس
11- بيت المال
12- الإعلام
13- مجلس الأمة (الشورى والمحاسبة)
وبالتالي فإن نصيب الأحكام الشرعية المتعلقة بالأفراد من إجمالي الأحكام الشرعية التي أوجب الله على المسلمين تطبيقها بالكاد يصل إلى عشرة بالمائة من مجمل أحكام الإسلام، وبالتالي فإن في إقامة الدولة الإسلامية إقامةً للإسلام، وفي ضياع الدولة ضياعاً للإسلام، ويصدِّقُ ذلك أقوال السادة العلماء نذكر منها:
يقول الجرجاني: (نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين).
يقول ابن تيمية في كتاب السياسة الشرعية، ومجموع الفتاوى: يجب أن يعرف أن ولاة أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من الحاجة إلى رأس حتى قال النبي ﷺ: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم» رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمر.
وقال الدارمي في سننه: أخبرنا يزيدُ بنُ هارونَ، نا بقيةُ حدّثني صفوانُ بنُ رُسْتُمَ، عَنْ عبدِ الرحمنِ بنِ ميسرَةَ، عن تميمٍ الداريّ،، قالَ: تطاوَلَ الناسُ في البناءِ في زَمَنِ عُمَرَ، فقالَ عُمَرُ: يا مَعْشَرَ العريبِ الأرضَ الأرضَ إنه لا إسْلامَ إلاَّ بِجَمَاعَةٍ، ولا جماعَة إلاَّ بإِمارَة، ولا إِمَارَة إلاَّ بطاعةٍ، فمن سوَّدَهُ قَوْمُهُ على الفِقْهِ كانَ حياةً لَهُ ولَهُمْ، وَمَنْ سَوَّدَهُ قَوْمُهُ على غيرِ فِقْهٍ كان هلاكاً لَهُ وَلَهُمْ. ورواه ابن عبد البر القرطبي في جامع بيان العلم وفضله.
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور في (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام): "فإقامة حكومة عامة وخاصة للمسلمين أصل من أصول التشريع الإسلامي ثبت ذلك بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة بلغت مبلغ التواتر المعنوي. مما دعا الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ إلى الإسراع بالتجمع والتفاوض لإقامة خلف عن الرسول في رعاية الأمة الإسلامية، فأجمع المهاجرون والأنصار يوم السقيفة على إقامة أبي بكر الصديق خليفة عن رسول الله للمسلمين. ولم يختلف المسلمون بعد ذلك في وجوب إقامة خليفة إلا شذوذا لا يُعبأ بهم من بعض الخوارج وبعض المعتزلة نقضوا الإجماع فلم تلتفت لهم الأبصار ولم تصغ لهم الأسماع. ولمكانة الخلافة في أصول الشريعة ألحقها علماء أصول الدين بمسائله، فكان من أبوابه الإمامة. قال إمام الحرمين [أبو المعالي الجويني] في الإرشاد: (الكلام في الإمامة ليس من أصول الاعتقاد، والخطر على من يزل فيه يربى على الخطر على من يجهل أصلا من أصول الدين)". انتهى قول ابن عاشور، ومعنى كلام الجويني أن الإمامية إذ جعلوا الأمامة من أصول الاعتقاد فإنها ليست منه.
يقول الهيثمي في الصواعق المحرقة: اعلم أيضاً أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب بل جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن الرسول ﷺ.
وقال أبو بكر الأنصاري في غاية الوصول في شرح لب الأصول: (ويجب على الناس نصب إمام) يقوم بمصالحهم كسدّ الثغور وتجهيز الجيوش وقهر المتغلبة والمتلصصة لإجماع الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ على نصبه حتى جعلوه أهم الواجبات، وقدّموه على دفنه ﷺ ولم يزل الناس في كل عصر على ذلك.
وقال محمد بن أحمد بن محمد بن هاشم المحلي المصري الشافعي جلال الدين المفسر الفقيه المتكلم الأصولي النحوي في كتابه شرح المحلي على جمع الجوامع: ويجبُ على النَّاسِ نَصْبُ إمامٍ يقوم بمصالحهم كسد الثغور وتجهيز الجيوش وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق وغير ذلك لإجماع الصحابة بعد وفاة النبي على نصبه حتى جعلوه أهم الواجبات وقدموه على دفنه ولم يزل الناس في كل عصر على ذلك.
وقال ابن خلدون (في المقدمة): "إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأن أصحاب رسول الله ﷺ عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك ولم يترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام".
جاء في كتاب «غاية البيان شرح زبد ابن رسلان» للفقيه الشافعي شمس الدين محمد بن أحمد الرملي الأنصاري الملقب بالشافعي الصغير (وهو من علماء القرن التاسع الهجري) ما يلي: (يجب على الناس نصب إمام يقوم بمصالحهم، كتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم أن دفعوها وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق وقطع المنازعات الواقعة بين الخصوم وقسمة الغنائم وغير ذلك، لإجماع الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم على نصبه حتى جعلوه أهم الواجبات، وقدموه على دفنه صلى الله عليه وآله وسلم ولم تزل الناس في كل عصر على ذلك).
وقال الشيخ علي بلحاج في كراسته "إعادة الخلافة من أعظم واجبات الدين": "الخلافة على منهج النبوة" كيف لا وقد قرر علماء الإسلام وأعلامه أن الخلافة فرض أساسي من فروض هذا الدين العظيم بل هو "الفرض الأكبر" الذي يتوقف عليه تنفيذ سائر الفروض، وإن الزهد في إقامة هذه الفريضة من "كبائر الإثم"، وما الضياع والتيه والخلافات والنزاعات الناشبة بين المسلمين كأفراد وبين الشعوب الإسلامية كدول إلا لتفريط المسلمين في إقامة هذه الفريضة العظيمة،"
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
ثائر سلامة - أبو مالك