- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
مولد النبي محمد ﷺ
احتفل المسلمون في الثاني عشر من ربيع الأول من عام 1437 هجري الموافق 23 كانون الأول/ديسمبر 2015 بمولد رسول الله محمد ﷺ.
حين ولد رسول الله عليه الصلاة والسلام كانت مكة قد وصلت أدنى درجات الانحطاط والابتعاد عن الدين الذي جاء به إبراهيم عليه السلام وأذن في الناس بالحج إلى بيت الله. وصل الانحطاط إلى أن يطوف العرب حول البيت العتيق عراة على اعتبار أن التجرد من الملابس وقت الطواف يكون أكثر قربة إلى الله تعالى، ولم يُستثن من تلك الرذيلة حتى النساء. وقد قالت ضباعة بنت عامر بن صعصعة من ملوك العرب في ذلك قولتها المشهورة "اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ" كناية عن فعل شنيع لا تحله ولكنه أصبح من الطقوس.
وانتشرت في مكة عادة الاستبضاع والتي تبيح للمرأة أن تحمل من رجل غير زوجها لتحسين النسل وزيادة الشرف.
وانتشرت خطيئة وأد البنات استخفافا وتبرما بمولد الأنثى وأكد القرآن هذه الطامة بقوله ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾.
وفشا التطفيف في الكيل والميزان، وتوغل الربا ليربو في أموال الناس، وباتت مكة وهي أم القرى لا تكرم يتيما ولا تطعم فقيرا ولا تقيم وزنا لخلق، ولا تحترم للشهر الحرام حرمة تحله عاما وتحرمه عاما. الأقوياء يستقوون على الضعفاء، والرجال يظلمون النساء، والأغنياء ينهبون الفقراء، والأصنام تعج حول الكعبة تعظَّم يوما وتؤكل في يوم آخر.
نخوةٌ جاهلية وتعظمٌ بالآباء وعصبية القبيلة والدم، واقتتال يدوم سنين وعقودا بسبب جمل أو بعير، أو حوض ماء يسير.
هكذا كانت جاهلية مكة وما حولها من الأعراب أشد، بل وما وراءها من دول الفرس والروم في تيه أكثر ركاما وأشد ظلاما. فأينما نظرت وحيثما حللت وكيفما تبحرت وجدت البشرية تغرق في دياجير الظلام وتتمرغ في وحل الجاهلية، وتكسب من آثامها، وتحيط بها خطيئاتها من كل جانب.
فكان العرب والعجم في شرهم وغيهم كما كان قوم فرعون يوم أن استعلى على قومه ومزقهم شيعا يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وفي تلك الأثناء لما أراد الله أن يهدم عرش فرعون ولد موسى وأنبأ الله أن مولده كان إيذانا بنهاية فرعون وملئه، حيث أنبأنا الله عن ذلك بقوله ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾. وكان ذلك يوم مولد موسى عليه السلام. فالله تعالى حين أراد إنهاء طاغوت فرعون هيأ لذلك نبياً من أنبيائه وهو موسى عليه السلام.
ولما أراد الله أن ينقذ البشرية من جاهلية قريش وأصنامها، والفرس وطغيانها، والروم وفسادها أذن بميلاد محمد عليه الصلاة والسلام. وأنشأه على بصيرة وهدى. فشرح له صدره، ورفع له ذكره، وحسن خلقه، وطهر قلبه، وآوى يتمه، وأغنى عيلته، حتى إذا اشتد عوده وبلغ رشده، بعثه الله رسولا في الأميين يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم؛ فكان مولد محمد رسول الله ﷺ إيذانا بانتهاء تأليه الأصنام وطغيان الأرباب من دون الله.
ولما بعث الله محمدا رسوله ﷺ بالهدى ودين الحق، بدأت عملية التغيير التي أرادها الله، ليظهر دين الله على الدين كله وتسود أحكام الله بدلا من أحكام الطواغيت، وشريعة الله بدلا من هوى الأنداد.
وحمل رسول الله ﷺ مؤيّدا بالوحي رسالة ربه بكل ما أوتي من قوة، يقوم الليل نصفه إلا قليلا أو زيادة، يطوي فراشه ويقوم الليل، يصدع بالحق، لا يهادن فاسقا ولا زنديقا ولا عتلاً ولا زنيماً، لا يخشى في الله شيئا، ولا يترك منكرا إلا فضحه وأنكره، ولا كبيرا من دون الله إلا صغره وحقره، ولا أمرا فيه لله رضا إلا أشهره، وهو في كل ذلك لا يبتغي أجرا، ولا يطلب دنيا، ولا يقبل ملك الدنيا مقابل إظهار دين الله. وبقي على ذلك حتى أظهره الله تعالى، وأظهر دينه، ورفع للإسلام راية لا تعلوها راية، وجعل للإسلام صولة ليس فوقها صولة، وبنى للإسلام دولة لا تضاهيها في الكون دولة.
فمن أراد أن يجعل من رسول الله ﷺ ومولده وظهوره وانتصاره عيدا واحتفالا فليفعل، ولكن ليدرك ماذا يفعل! ليدرك أن مولد رسول الله ﷺ كان مؤذنا بزوال طاغوت عصره.
فهل احتفالك اليوم يؤذن بزوال طاغوت اليوم؟ هل ندرك أن جاهلية قريش عادت بثوب يسمى العروبة والقومية؟ واسم يسمى الديمقراطية؟ ورب يسمى العلمانية؟ وعادت بجميع أنواع الظلم والفسوق والفجور بل وزادت عليها؟
لم تعد أصنام العرب حجارة بل أضحت دساتير وقوانين من صنع البشر، ولم تعد أرباب العرب مناة واللات وعزى، بل تزيفت بألقاب الفخامة والجلالة والسمو والسعادة والنيافة والرفعة.
إن الاحتفال بمولد النبي ﷺ لا بد أن يصحبه إدراك لقيمة المولد، وقيمة المولود، وعمل المولود، وحقيقته.
لو كان المولود حيا بين أظهركم أيها الناس، هل كان يقيم وزنا لشريعة هيئة الأمم؟
هل كان يقر بقروض البنك الدولي ويعتبر الحصول على قرض إنجازاً يتغنى به أمام شعبه؟
هل كان نبيكم أيها المسلمون يقيم معاهدات مع يهود ويقيم ليهود وزنا، ويجعل لهم سيادة على القدس ويافا وعكا والقنيطرة وغزة؟
هل كان نبيكم أيها المسلمون يقبل أن يكون عميلا لأمريكا أو بريطانيا أو فرنسا أو روسيا، وهو الذي أمره الله تعالى بقوله ﴿وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾.
هل كان نبيكم ﷺ يرضى عن هذا الاقتتال الشرس بين المسلمين من أجل مصالح الكافر المستعمر؟
أي احتفال هذا الذي تحتفلون به أيها المسلمون؟ وأنتم تعلمون أن الاحتفال بالشيء هو الاهتمام به أشد الاهتمام. فأي اهتمام وأي وزن تقيمون لمحمد ﷺ؟ وكثير منكم يخشون أن يرفعوا الراية التي رفعها رسول الله ﷺ بيده الشريفة، ويخشون أن يمسكوا باللواء الذي عقده بيده الشريفة.
أي احتفال هذا الذي تحتفلون، إذا كانت جل الاحتفالات التي تنشر على شاشاتكم تنتهي بتعظيم الذي يحكم بشريعة غير الشريعة التي جاء بها محمد ﷺ؟ ويكال المدح والحمد لمن يقف سدا منيعا دون تحكيم شرع الله الذي جاء به محمد ﷺ؟
نعم أيها المسلمون، يجب أن تحتفلوا بمحمد ﷺ، أي يجب أن تعزروه وتعظموه وتهتموا بأمره، يجب أن تحتفلوا به في كل يوم وكل ساعة وكل لحظة وليس في الثاني عشر من شهر ربيع الأول فقط.
إن حياة محمد ﷺ وسيرته وحديثه وإقراره وكل شيء صدر منه أو عنه - كله وحي من الله، وكله محل قدوة وأسوة، وكله مصدر للتشريع. فمحمد رسول الله ﷺ ليس مجرد شخص عظيم عاش وانتهى وله في النفس ذكرى عطرة وحسب، بل هو رجل تلقى وحي السماء قرآنا يتلى وسنة تتبع؛ فالاحتفال به يقتضي العمل بما جاء به، وإحياء ما اندثر من سنته وعمله.
أيها المسلمون، لقد فقدنا الكثير الكثير من سنة محمد ﷺ، وابتعدنا بعيدا بعيدا عن خط سيره ونهج حياته. ولعل كل فرد فقد شيئا من سنة رسول الله ﷺ ونهجه، ولكننا كأمة وكمجموعة من المسلمين بوصفنا جماعة واحدة وأمة واحدة فقدنا ما هو مشترك بيننا جميعا؛ لقد فقدنا ذلك الصرح الذي بناه رسول الله ﷺ وخلفه لنا جميعا.
فقدنا دولة الخلافة التي تركها لنا جميعا، وحافظ عليها صحابته الكرام حين ولوا أبا بكر رضي الله عنه، ثم شدوا حزامها ووثقوا عراها حين بايعوا على رئاستها عمر رضي الله عنه، ورعوها حق رعايتها حين نصبوا عليها عثمان رضي الله عنه، وأصّلوا دعائمها وأحسنوا رفادتها حين بايعوا علياً قائدا لها.
نعم هي خلافة الحكم وسياسة الدنيا بالإسلام كانت نهج محمد ﷺ. وهذا ما خسرناه جميعا، وفرطنا به جميعا. فالاحتفال بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام لا يكون إلا بالعمل الجاد لإحياء سنته والسير على نهجه، وعلى رأس كل ذلك خلافة حكمه ﷺ؛ ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
د. محمد ملكاوي