- الموافق
- 1 تعليق
بسم الله الرحمن الرحيم
استهداف اللّغة العربيّة ضرب للعقيدة الإسلاميّة
1- لماذا هذه الهجمة الشّرسة على اللّغة العربيّة؟
اللّغة العربيّة هي لغة القرآن وهي لغة خير شريعة أنزلها الرّحمن. هي لغة الدّين الذي هلّ ببشائره وعمّ مشارق الأرض ومغاربها. لغة ترجمت مجاز القرآن وبلاغته وفصاحته لتظهره معجزة عجز أهل اللغة ومتقنيها أن يأتوا بمثلها. ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: 38]
اهتمّ المسلمون كثيرا باللّغة العربيّة لمكانتها الرّفيعة وقدسيّتها؛ فبها يفهمون أحكام دينهم وبها يرفعون كلّ صعوبة في فهم كتاب ربّهم وأحاديث نبيّهم. ولأنّ لها هذه المنزلة الرّفيعة والأهمّية البالغة في فهم دين الإسلام فإنّها لم تنج من سهام الأعداء التي وجّهوها متواترة لضربها والنّيل منها وتهميشها حتّى لا يفهمها أهلها، بل تصبح صعبة ركيكة غير مرغوب فيها.
ينظر الغرب إلى العرب دوما على أنهم مسلمون وأنّ الإسلام يمثّل خطرا حقيقيّا على الحضارة الغربيّة وبعودته يكون فناؤها، لذلك عمل وما زال يعمل على محاربته بشتّى الوسائل والسّبل. وضربه للّغة العربيّة من أفضل هذه الوسائل وأنجعها لتحقيق ذلك، يقول صموئيل هينتجتون: "إنّه ما دام الإسلام سيبقى إسلاما وليس هناك أدنى شكّ في هذا، وما دام الغرب سيبقى غربا، سيظلّ الصّراع قائما بينهما كما ظلّ لأربعة عشر قرنا ولا يتوقّع أحد أن يصبح الغرب شرقا".
لإتمام مخطّطه لإقصاء الإسلام عن الحياة عمل الغرب على النّيل من هذه اللّغة (أداة فهم أحكام الإسلام) ودعا إلى نشر العامّيّات واللّهجات ووظّف مستشرقيه لذلك كـ"ولهلم سبيتا" و"دوفرين" وغيرهما للمناداة بهجر هذه اللّغة ووضع اللّهجات مكانها. وكان للمضبوعين من بني جلدتنا كـ"طه حسين" و"لطفي السّيّد" دور مهم في ترسيخ هذا المخطّط؛ فقد دعوا - كما يدّعون - إلى النّهوض بهذه اللّغة وتهذيبها وهم إلى هدمها يسعون وإلى إقصائها عن حياة المسلمين يعملون.
حين كانت الدّولة قائمة وكان المسلمون تحت إمرة إمام واحد كانت اللّغة العربيّة هي اللّغة الرّسميّة؛ بها تبرم المعاهدات مع الدّول الأخرى وبها تتعامل... فكان لهذه اللغة من المهابة ما للدّولة القائمة عليها. لكن وبسقوط دولة الإسلام وبتمكّن أعدائها منها وتقسيمه لها وتداعي الأكلة عليها وحلول المستعمر... ضعف شأنها؛ فقد توجّه المستعمر إلى هذه اللّغة باعتبارها أفضل أداة لفهم المبدأ الإسلامي وعمل على تهميشها وتجاهلها، وفي المقابل فرض لغته وجعلها رسميّة في المدارس والجامعات وصنع بذلك أجيالا منبتّة عن لغتها جاهلة لدينها. لقد فرض لغته فرضا وأبهر هذه الأجيال بها وأظهرها عظيمة تجعل من متقنها مثقّفا عصريّا ومتقدّما، وبذل الجهود الجبّارة لحبس اللّغة الأمّ "العربيّة" ووأد مجد الأمّة وعزّها وسعى لمحوهما من الذّاكرة وكبّل الرّؤى والآمال فجعلها حبيسة رؤيته ونظرته للحياة وصنع أجيالا تابعة له تنفّذ قوانينه وتتشبّع من مفاهيمه وتكيّف سلوكها حسب هذه المفاهيم فدخلت جحر الضّبّ متّبعة خطاه...!
2- طمس الهويّة الإسلاميّة بتغييب اللّغة العربيّة
عُرِّفت الهويّة على أنّها جوهر الشّيء وحقيقتُه. وحين نتحدّث عن هويّة أمّة فإنّنا نعني صفاتها التي تميّزها عن الأمم الأخرى لتعبّر عن شخصيّتها الحضاريّة. فقضيّة الهويّة إذاً قضيّة جوهريّة ومحوريّة تضمن للأمّة بقاءها وتحافظ على وجودها وبدونها تصبح الأمّة لقيطة ضعيفة تافهة تابعة لغيرها. لهذا وبعد أن أسقط الغرب دولة الإسلام توجّه مباشرة لطمس هويّة الأمّة حتّى يقضي على حضارتها ويتمكّن من إقصائها عن الحياة ويفرض مبدأه الرأسماليّ لتذوب فيه الأمّة بعد أن أفقدها هويّتها.
صوّب في البداية سهامه نحو العقيدة لزعزعتها فهي التي تغرس وجهة النّظر في الحياة، وهي التي تعطي الرؤية الواضحة للوجود والتي يسير على ضوئها المسلم فتتكوّن مفاهيمه ويتكيّف سلوكه وفقها. وعمل من ناحية ثانية على إقصاء الأداة الرئيسيّة للتّعبير عن هذه المفاهيم - ونقصد بأداة التعبير اللّغة العربيّة - ورميها خارجا لتحلّ محلّها، لغته ومن ناحية ثالثة شكّك في التاريخ العميق للأمّة وفرض تاريخ حضارته.
على هذه الجوانب عمل ونجح في تحقيق مآربه وتمكّن من طمس معالم هويّة أمّة الإسلام وإسقاط صرح مجدها وعزّها. قال نيكسون في كتابه (أنتهز الفرصة): "إنّنا لا نخشى الضّربة النّووية، ولكنّنا نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب". لقد أدرك الغرب أنّ المسلمين قادرون على إعادة مجدهم وعزّهم إنْ هم استعادوا هذه الهويّة المسلوبة الضائعة... إن هم أعادوا النّظر إلى الحياة النّظرة الصّحيحة التي تجعلهم يرقون بفكرهم وينهضون ليعودوا خير أمّة أخرجت للنّاس تقود العالم بنور ربّها وهدي نبيّها. لهذا وظّف من أبناء جلدتنا من يقوم بتنفيذ مخطّطه الخبيث ليشوّه هويّة الأمّة فكانوا كما وصفهم الشيخ جاد الحقّ علي جاد الحقّ شيخ الجامع الأزهر السابق - رحمه الله - خونة مجرمين "إنّ البحث عن هويّة أخرى للأمّة الإسلاميّة خيانة كبرى، وجناية عظمى".
على رأس قائمة هؤلاء مصطفى كمال الذي كان له السّبق في إلغاء الخلافة والمحاكم الشّرعيّة واستبدال الحروف اللاتينية بالعربيّة. سعى من وراء جرائمه هذه إلى مسخ هويّة دولة الخلافة وتمكين أعداء الأمّة منها فسهّل بذلك قهرها وإضعافها ومحا هويّتها الإسلاميّة المميّزة والفريدة، وعلى الدّرب نفسه سار طه حسين عميد التّغريب الذي نادى بالاقتداء بالغرب واتّباعه في كلّ خطواته حتّى لو تعارضت مع الإسلام، مصرّحا "لو وقف الدّين الإسلاميّ حاجزاً بيننا وبين فرعونيّتنا لنبذناه". إنّه الاتباع الأعمى الذي يهوي بصاحبه إلى الدّرك الأسفل. إنّه الجري وراء إرضاء الغرب وترسيخ مفاهيم دخيلة يراد منها محو الهويّة الإسلاميّة للأمّة وغرس عناوين تثبّت التّجزئة والقوميّة وتلغي الرّابطة الثّابتة الصّحيحة التي جمعت الأمّة... إنّه التّنكّر لحضن هذه الأمّة الآمن ولريادتها وسيادتها الذي دفع ببعضهم للجهر بالعداء لكلّ ما يوحي بأنّ الهويّة هي هويّة إسلاميّة، فلا يستحي أحمد لطفي السيّد من وصف فصل في الدستور بأنّه "النّصّ المشؤوم" لأنّه ينصّ على أنّ الدّين الرّسميّ للدّولة هو الإسلام. فكثيرون هم الذين عملوا خدما للغرب لطمس الهويّة الإسلاميّة وتنفيذ مخطّطه للقضاء على دولة المسلمين مقابل لقب أو حفنة من مال.
لئن كان هؤلاء قد عملوا وما زالوا يعملون على هدم صرح الأمّة وتمكين أعدائها منها حتّى تكون ضعيفة بلا هويّة تتقاذفها أمواج التغريب والعلمنة والمفاهيم الرأسمالية العفنة، فإنّ المخلصين من أبناء الأمّة والعاملين على الذّود عنها وعن هويّتها كثر كذلك يردّون الأسهم الموجّهة ويسعون لتثبيت الهويّة والدّفاع عنها وعلى رأسهم ابن تيمية والرافعي ومحمود شاكر وغيرهم.
يحيا المسلمون اليوم في غربة بين ما يجب أن تكون عليه حياتهم وما هي عليه... فكان لا بدّ أن تسيّر حياتهم بشريعة منبثقة من عقيدتهم حتّى يشعروا بالرّاحة والأمن ويحيوا حياة متّزنة يعتزّون بهويّتهم الإسلاميّة... أمّا وقد طمست هذه الهويّة وحلّت محلّها هويّات أخرى بعيدة كلّ البعد عن العقيدة التي يعتنقها أهلها فإنّها الغربة المقيتة المؤلمة.
فهويّة أيّ مجتمع هي حصنه الحصين الذي يحتضن أفراده ويصونهم ويجنّبهم التّذبذب والضّياع ويشعرهم بالأمان والعزّة كما يغرس فيهم الثقة والقوّة. فإن ضاعت الهويّة ضاع المجتمع وصار مليئا بالصّراعات والتّناقضات لا لحمة ولا تماسك فيه. وإن لم يحافظ المجتمع على هويّته تاه وذاب في الآخر وضاعت خصائصه ومميّزاته. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ [البقرة: 109] هم يكيدون بالليل والنّهار حتّى يطمسوا هويّة المسلمين.
من المؤلم ما نراه اليوم في شباب أمّتنا من جهل بلغته الأم، بل من استنقاص وتحقير لها؛ فتراه يتسابق في حفظ اللّغات الأخرى ليظهر مثقّفا مواكبا للحضارة والتّطوّر، فيخجل من استعمال العربيّة الفصحى لأنّه سيلقى الاستهزاء والسخريّة من الآخرين! تزعزعت ثقته في لغته واهتزّ اعتزازه بهويّته، وهذا ما خطّط له الغرب حتّى يسهل عليه استقطاب هذه القوّة الفاعلة وتشكيلها على النّحو الذي يريده: شباب منبتّ عن هويّته يذوب في حضارة الغرب وينبهر بها ويسوّق لها ولمفاهيمها بوعي أو بدونه.
يحافظ الغرب على هويّته ويسعى جاهدا للدّفاع عنها ضدّ ما من شأنه تهديدها، ومقابل ذلك يعمل على تذويب أمّة الإسلام وطمس معلم من معالم تفرّدها ألا وهو اللغّة العربية التي حوربت وما زالت تحارب حتّى تفقد خصوصيّتها وتُلفظ لكونها متأخّرة وغير مواكبة للتحضّر والتقدّم. وهو على يقين أنّ القضاء على الإسلام لا يكون إلا بالقضاء على اللّغة العربية.
3- الدّعوة إلى العامّيّة إقصاء للّغة العربيّة
حتّى يحكم قبضته ويجهز على فريسته عمد الغرب - بعد القضاء على دولة الإسلام وتقسيم كيانها الموحّد إلى كيانات صغيرة مجزّأة - إلى شنّ حرب شعواء على اللّغة العربية الفصيحة وسعى إلى رفع شأن اللّهجات العامّية حتّى ينمّي النّعرات القومية ويسهل عليه القضاء على وحدة الأمّة وهويّتها التي ميّزتها. فلم يقتصر جرمه على تقسيم دولة الإسلام وتثبيت حدود سايس بيكو اللّعينة بل تعدّى ذلك إلى تقسيم لغويّ تاريخيّ إمعانا في عزل كلّ بلد عن الآخر وفي تشتيت الأمّة.
مؤسف ما قام به أولئك المثقّفون المضبوعون بالغرب وحضارته وعار لن يمحى من جباههم. استماتوا في إرضائه ووجّهوا طعناتهم لهويّتهم الإسلامية وللغتهم العربيّة. أوّل من دعا إلى استعمال العامّية رفاعة رافع الطهطاوي فأكّد "إنَّ اللُّغةَ المتداوَلةَ المُسمَّاةَ باللُّغةِ الدَّارجة التي يقع بها التفاهمُ في المعاملات السائرة لا مانع أن يكون لها قواعد قريبة المأخذ وتصنف بها كتب المنافع العموميّة والمصالح البلديّة". وكأنّ اجتماع بني الجلدة والمستشرقين على النّيل من مقوّمات أمّة الإسلام أمر حتميّ صاحبها في كلّ حين! فإضافة لما قدّمه المبعوثون إلى الغرب من خدمات لضرب اللّغة الأمّ والتّشجيع على استعمال العاميّة كان للمستشرقين أيضا دور مهم في تأييد ذلك ونشره كما هو شأن مدير دار الكتب المصرية "ولهم سبيتا" الذي ألّف كتاب "قواعد اللّغة العامّيّة في مصر".
لقد شنّ الغرب حربه على اللغة العربيّة فأجّج النّعرات القوميّة واللّهجات العاميّة في أقطار عديدة ليجهز على الأمّة ويقضي على ما يجمعها من دين ولغة وأرض وتاريخ. وكان للمغرب العربي نصيب من هذه الدّعوة؛ فقد أصبحت اللغة العربية لغة ثانية بعد الفرنسية - لغة المستعمر -، وقد جاء في تقرير أعدّته لجنة العمل المغربيّة الفرنسيّة: "إنَّ أوّل واجبٍ في هذه السبيل هو التّقليل من أهميّة اللّغة العربيّة، وصرف النّاس عنها، بإحياء اللّهجات المحلّيّة واللّغات العاميّة في شمال إفريقيا".
كما وضع علماء الاستعمار من المستشرقين كتباً في قواعد اللّهجات الأمازيغيّة لتزاحم العربيّة، وقد بيّن ذلك (شحادة الخوري) قائلا: "شعر المستعمرُ باستحالة اقتلاع اللّغة العربيّة من أرض الجزائر، وغرس اللّغة الفرنسيّة مكانها، فلجؤوا إلى وسيلةٍ مُساعدةٍ أخرى وهي الإيحاء لأكبر عددٍ من أبناء الجزائر بأنّ اللّغة العربيّة ليست لغة أصليَّة في الجزائر، وإنّما اللّغة الأصليّة لسكّان الجزائر هي اللّغة البَرْبريَّة لغة الأمازيغ، وقد تطوّع الفرنسيّون لوضع أبجديّة لها كيما يمكن كتابتها".
بخبث ودهاء شديدين تلاعب المستشرقون بتصريحاتهم فزيّنوها وغلّفوها بنوايا حسنة وهي في الحقيقة لا تحمل سوى السمّ الزّعاف للغة أمّة الإسلام ووعاء أفكارها ومفاهيمها حتّى يكسروه فيضيع ما فيه وتضيع الأمّة وتندثر. يصرّح أحد هؤلاء قائلا: "إنّ ما يعيق المصريّين عن الاختراع هو كتابتهم بالفصحى... وما أوقفني هذا الموقف إلا حُبّي لخدمةِ الإنسانيّةِ، ورغبتي في انتشارِ المعارفِ!!". ويواصل فيعلن في آخر المحاضرة عن مُسابقةٍ للخطابةِ بالعاميَّةِ، ومن تكون خطبته جيّدة ناجحةً فله أربع جنيهات!.
هذا هو شأن اللّغة العربيّة عند أعدائها يعلمون ما لها من تأثير وما هي عليه من مكانة؛ لهذا عملوا على تغييبها وتعويضها بالعامّية - وكعادتهم - قام بنو جلدتنا - ممّن يطلقون على أنفسهم الفئة المثقّفة والتي نهلت من مفاهيم الغرب وغرقت في بحارها - بالتّرويج لهذا ورفع الشّعارات المنادية بذلك كسلامة موسى وجميل صدقي الزهاوي الشّاعر العراقي الذي صرّح قائلا: "فتَّشْتُ طويلاً عن انحطاط المسلمين فلم أجد غير سببين أوّلهما: الحجاب، الذي عدَّدتُ في مقالي الأوّل مضارّه!!! والثاني: هو كون المسلمين ولا سيّما العرب منهم يكتبون بلغةٍ غير التي يحكونها". ووصل الأمر ببعض الحاقدين أن أعلن رفضه للعربيّة الفصيحة وجهر بضرورة أن تصبح العامّية اللّغة الوحيدة للبلاد: "ومن الحكمة أن ندع جانباً كلّ حكم خاطئ وُجِّه إلى العاميّة، وأن نقبلها على أنّها اللّغة الوحيدة للبلاد". (سلدان ولمور العربيّة المحليّة في مصر).
من الوسائل التي استعملت في هذه الحرب التي شنّت على اللّغة العربيّة لاستبدال العامّيّة بها، إصدار جرائد ومجلاّت وكتب باللّهجات العاميّة وتحويل المسرح من الفصيحة إلى العاميّة وتسابق المستشرقون على إصدار دراسات عن اللّهجات العامّيّة كدراسة (سيانكو فسكي) عن عاميّة المغرب وتونس و(نللينو) عن عاميّة مصر، وغيرها...
لم يقف أعداء لغة القرآن عند الدّعوة إلى العاميّة بل تعدّوا ذلك لينادوا باستخدام الحروف اللاتينيّة بدل الحروف العربيّة. فأيّ هوان أصابك يا أمّة الإسلام ليفعل الأعداء بك كلّ هذا؟ أيّ صغار حلّ بك يا خير أمّة أخرجت للنّاس ليؤول حالك إلى ما آل إليه من تحقير واستنقاص واحتقار !!!
4- استخدام الحروف اللاتينيّة: حرب متواصلة على اللّغة العربيّة
دعوات متواصلة ومتواترة يطلقها دعاة النّهوض بالأمّة وهم إلى انحدارها وإضعافها يعملون ولمخطّطات خبيثة دنيئة ينفّذون. أيّ حقد هذا يكنّونه للّغة العربيّة حتّى ينادوا بكتابتها بالحروف اللاتينية؟ أيّ كره من أبناء عاقين يوجّهون للغتهم الأمّ هذه السهام القاتلة؟
عبد العزيز فهمي واحد من هؤلاء دعا سنة 1913م لكتابة العربيّة بالحروف اللاتينيّة وأصدر كتابا قال عنه ناشره: (ونجحت التجربةُ في تركيا، وهم يقرؤون اللُّغةَ التركيةَ بالحروفِ اللاتينيةِ، ولكنَّ أصحابَ الآراءِ المتحجِّرةِ رموهُ بالكفرِ والزَّندقةِ)، آزره في هذه الدّعوة النّكراء أنيس فريحة الخوري الذي نادى بأن تكون العاميّة اللّغة المعتمدة، بل دعا إلى كتابتها بالحروف اللّاتينية؛ لتكون لغة رسميّة للعرب لأنّ الحرف العربيّ - حسب ادّعائه - لا يصلح لتدوين اللّهجة العامّية.
لقد اجتمع القاصي والدّاني على هذه اللّغة التي فرضت نفسها قرونا وكانت اللّغة الأولى، كيف لا وهي لغة أقوى دولة قادت العالم؛ تكالبوا عليها كما تكالبوا على دولتها فأسقطوها، وساعدهم في ذلك أبناء عاقّون مجرمون. يظهرون المودّة والمحبّة والولاء ويخفون وراءهم سهاما ونبالا يرمون بها جسد الأمّة وهويّتها ولغتها.
عندما ينشغل مجمع الّلغة العربيّة - الذي من المفترض أن يكون العين الحارسة لهذه اللّغة والمدافع عنها ضدّ أيّ هجوم - مدّة ثلاث سنوات بدراسة اقتراح لكتابة العربيّة بحروف لاتينيّة إرضاء لبعض أعضائه الحاقدين فهي الخيانة العظمى لهذه اللّغة والكيد لها، وهو أمر لا يستغرب إن كان هذا المجمع تأسّس وقد ضمّ 20 عضوًا نصفهم من المصريين (طه حسين، أحمد لطفي السيد...)، ونصفهم الآخر من العرب والمستشرقين.
إنّ هذه المحاولات التي نفّذها أعداء هذه اللّغة بل أعداء الإسلام إن هي إلّا مساعي متتالية غير يائسة لزعزعة الثّقة في هذه اللّغة وإقصائها من حياة المسلمين حتّى تندثر؛ فيضيع فهمها وينحسر استعمالها في جوانب معيّنة هي أقرب إلى الجمود والرّكود منها إلى الحركة والتقدّم والتطوّر، وهو ما جعل الكثيرين يرونها لغة غير صالحة لمواكبة العصر... لغة قديمة ركيكة مرّ عليها زمن وقد كساها الغبار فلم تعد تقدر على السير في ركب اللّغات الأخرى.
5- وهل تعجز لغة القرآن عن مواكبة تطوّر علم الإنسان؟؟!!
لقد تفطّن أعداء الأمّة الإسلاميّة إلى أنّ الإسلام واللّغة العربيّة طاقتان متكاملتان وهما الرّكيزتان الأساسيّتان لبناء الأمّة، لهذا عملوا على فصل الطاقتين وألغوا الحكم بالإسلام ووضعوا قوانينهم الوضعيّة وركّزوا لغاتهم مكان اللّغة العربيّة. فصنعوا العجز في أبناء الأمّة حتّى يُحكِموا السّيطرة عليهم وحتّى يوجّهوهم أنّى ومتى شاءوا ويزعزعوا ثقتهم في عقيدتهم وفي لغتهم التي نعتوها بالعاجزة القاصرة عن استيعاب علوم العصر، فهي حسب زعمهم "لغة سلفية جامدة تتطلّع إلى الوراء بدلاً من أن تتّجه إلى الأمام".
هُمّشت اللّغةُ العربيّةُ واستُبعدت خاصّة عن كلّ ما هو علميّ كمجال الطّبّ والهندسة، وعُدّت غير قادرة على التّعبير عن هذه العلوم، وهو ما أدّى إلى تنكّر الأجيال لها وللهويّة الإسلاميّة والارتماء في بحار لغات المجتمعات الأخرى والتأثّر بها والذّوبان فيها. لقد صارت اللغة العربيّة لغة ميّتة عند هذه الأجيال التي تعلّقت أبصارها بكلّ ما يأتي به الغرب: حضارته، ولغته التي اكتسحت العالم واعتلت العرش لتعلن علويّتها وانفرادها في استيعاب علوم العصر.
كذب وافتراء على لغة وسعت بمفرداتها وعباراتها علوم العرب. علوم برع وتميّز فيها علماء وكان لهم شّأن كبير في التّاريخ ومنهم استفاد العالم بأسره قرونا. يقول الشيخ البشير الإبراهيمي: "... إنّ العربيّة تتّسع لدقائق الطّبّ الذي برع فيه العرب، إذا استثنينا كلمات قليلة يونانيّة أو فارسيّة أدخلها الفارابي وابن سينا من ميراثهما الفارسي". تلك هي اللّغة العربيّة: وعاء كبير كلّما امتلأ زاد اتّساعا وانفتاحا ليحتوي مزيدا من المفردات والمشتقّات، وهي ليست بحاجة إلى غيرها لأنّها مكتفية بذاتها قادرة على الاحتواء معتزّة بحسن الانتماء: لغة خير ما أنزل الرحمن على بني الإنسان. يقول بروكلمان (بلغت العربيّة بفضل القرآن من الاتّساع، مدىً لا تكاد تعرفه أيّ لغة أخرى من لغات الدّنيا).
لقد احتلّت اللّغة العربيّة طوال قرون منزلة رفيعة أثبتت جدارتها لاحتواء علوم الإنسان وتشهد بذلك كتب التّاريخ فأسماء علماء المسلمين وما توصّلوا إليه من نتائج وما حقّقوه من إنجازات واختراعات قد حفرت في بطون هذه الكتب لتدلّل على أنّها لغة حيّة متطوّرة قابلة للاتّساع والانتشار... فـ"اللّغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التّعبير العلمي، والعربية من أنقى اللغات، فقد تفرّدت في طرق التّعبير العلمي والفنّي." (الفرنسي لويس ماسينيون)
هي... لغة غنيّة ثريّة قادرة على الاحتواء والعطاء !!..
6- العولمة ودورها في إقصاء اللّغة العربيّة
العولمة أو بالأحرى الاستعمار الجديد قد غيّر الغرب أسلوبه الاستعماري ليفرض هيمنته على الأمم الأخرى وخاصّة الأمّة الإسلاميّة التي صارت ضعيفة بعد فقدانها لدولتها ولهويّتها رافعا شعار الرقيّ والتّقدّم والنهضة بها. والعولمة غزو متعدّد الجوانب: سياسي، اقتصادي، اجتماعي وثقافي، الهدف منه ضرب الهويّة وطمس الحضارة، وهذا الغزو هو فرض للهيمنة الأمريكية بالذات، أي أمركة العالم وجعله يسير وفق سياساتها لتتحكّم فيه وتفرض عليه لغتها وثقافتها وحضارتها الغربية الرأسمالية فتمرّرها إمّا بالوعود والإغراء أو بالوعيد والتّهديد.
ومن أخطر أنواع العلمنة تلك التي يطلق عليها العولمة اللّغوية والتي تهدف إلى إعلاء شأن اللّغة الإنجليزية وسيادتها على اللّغات الأخرى لتصبح اللّغة الأولى في العالم وعنوانا للتقدّم ومواكبة العصر.
ولأنّ اللّغة هي وعاء للمفاهيم فقد اهتمّت بها الدّول وعملت على أن تكون لغتها لغة متداولة مفروضة على الدّول التي استعمرتها. فكانت العولمة طريق أمريكا لتفرض قوانينها وسيطرتها السّياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وسلكت فرنسا وكلّ الدّول التي تشاركها لغتها درب الفرانكفونية، فسعت إلى نشر لغتها بالمشاركة في المؤتمرات الدّولية، وأكّدت أنّ اللّغة الفرنسية قد لعبت دورا مهمّا ورئيسيّا في الدّول الأفريقيّة بأن جعلتها تنفذ إلى العالم وتتّصل به، ذلك أنّ اللّغة العربيّة غير قادرة على ذلك لهذا كانت الفرنسية خير معين لهذه الدّول حتّى لا تنقطع عن العالم.
كتب أنيس منصور في أهرام الأربعاء 1994/5/25: "الفرنسيون شديدو الاعتزاز بلغتهم الجميلة، القادرة على التّعبير الدّقيق عن كلّ شيء في الفلسفة والأدب والعلوم؛ لذلك يرفضون استخدام تعبيرات أمريكيّة أو أسماء إنجليزيّة للدّلالة على ما يريدون، ففي ذلك اتّهام للّغة الفرنسيّة، وذهب الفرنسيّون إلى أبعد من ذلك... أبعد من مجرّد الرّفض والاستنكار إلى فرض عقوبات على من يفعل ذلك (أي استعمال كلمات إنجليزيّة وأمريكيّة في الحوار، أو أسماء المحلّات)، أي على مَن يُهين لغته.. ولن تسمح الدّولة بالتّرخيص لأي محلّ أو شركة أو مؤسّسة لا تحمل اسمًا فرنسيًّا".
إنّها حرب يُهدف من ورائها الرّمي باللّغة العربيّة في دياجير الضّياع والنّسيان لتُنعت باحتقار وامتهان بأنّها لغة ركيكة مرّ عليها الزّمان وصارت لا تصلح للتّعبير عمّا حقّقه - اليوم - الإنسان... إنّه التّسابق لفرض اللّغة الإنجليزية (الأمريكية) أو الفرنسيّة (الفرانكفونية) أو غيرها من اللّغات... سعي حثيث من دول الغرب لفرض لغتها وثقافتها حتّى تحافظ على هويّتها وتركّز هيمنتها السّياسية والاقتصادية... فأين أمّة الإسلام من كلّ هذا؟ أين هي والكافر عمل - وما زال - على فرض لغته عليها وإقصاء لغتها وتهميشها؟.
إنّه بعمله هذا يهدف لسلخها عن هويّتها وعن دينها وصهرها بمفاهيمه لتذوب في حضارته فيضمن بذلك بقاءه... إنّه صراع حضارة لحضارة من أجل البقاء ومن أجل السّيادة والقيادة!!
7- الإعلام ومساهمته في تهميش اللّغة العربيّة:
لا يخفى على امرئ ما لوسائل الإعلام من أهميّة بالغة في التأثير على النّاس وفي تغيير أذواقهم... فماذا لو أصبحت هذه الوسائل ناطقة باسم الحضارة الغربية؟ ماذا لو صارت الموجّه الأمثل لميولات النّاس لتضمن وبامتياز سيرهم في فلك الحضارة القائمة عليها؟
إنّه لخطر كبير ما يقوم به أعداء الإسلام وأعداء اللّغة العربيّة يوظّفون هذه الوسائل لبثّ سموم من شأنها زعزعة الثّقة بهذه العقيدة ونزع تفرّدها وتميّزها، بل ووصمها بالعنف (والإرهاب) وهضم حقوق الإنسان وخاصّة المرأة... أوتار عزفوا عليها سمفونيّتهم البائسة التي يرمون من ورائها إلى تنفيذ مخطّطهم الخبيث لإقصاء هذا الدّين عن الحياة وجعله ممارسات فرديّة تنحصر في بعض العبادات.
ما نراه اليوم من برامج تلفزيونية تنوّه بالعلمانيّة وبأنّها الحلّ الأمثل للمشاكل التي تعترض الإنسان وبأنّها عنوان التحضّر والتقدّم والارتقاء، وفي المقابل تهاجم هذه البرامج كلّ ما يوحي إلى الإسلام من حجاب ولحية وروضات قرآنية ومناهج تعليميّة تلوح منها - وباحتشام - بعض العبارات الموحية بالثقافة الإسلاميّة، كلّ ذلك يجعلنا نقف لنتأمّل فنتأكّد أنّها الحرب قد شُنّت والإعلام إحدى وسائلها بهدف فرض هيمنة الغرب وحضارته والقضاء كلّيا على حضارة الإسلام التي أرهقت الكافر بقوّتها وصمودها قرونا...
لم تسلم اللّغة العربيّة من هذه الحرب الضّروس وكان للإعلام النّصيب الأوفر في تهميشها عبر الإعلانات التي صارت تكتسح الفضاءات. هذه الإعلانات - نتاج الحضارة الرأسماليّة - قد توفّرت على جاذبيّة كبيرة من شأنها توفير الرّبح الكبير لأصحابها. منافذ خبيثة تسلّل منها الغرب لبثّ ثقافته، فرغم الاختلاف الكبير والبون الشاسع بين الحضارتين: الغربيّة والإسلاميّة إلّا أنّ الإعلانات قد وصلت المجتمعات الإسلاميّة وتغلغلت فيها وسرت في جسدها دون مراعاة لخصوصيّتها ولا لقيمها، وتكاد لا تخلو وسيلة إعلاميّة من نشر هذه الإعلانات التي تروّج لمنتجات معيّنة تجلب الأطفال والشّباب وتجعلهم يقلّدون حركات القائمين عليها من ممثّلين أو مغنّين مشهورين، بل ويكرّرون جملا بعيدة كلّ البعد عن اللّغة العربيّة الفصيحة ويأتون بعبارات مستوردة تحمل في كثير منها ما ينافي الأخلاق ويخلّ بها.
الإعلان نشاط يقدِّم رسائل مرئيّة ومسموعة لأفراد المجتمع، لإغرائهم لشراء سلعة أو الحصول على خدمة مقابل أجر مدفوع، وهو وسيلة ناجحة لشدّ انتباه المتلقّي ودفعه للمطالبة بها. والملاحظ أنّ الإعلام قد توجّه إلى استعمال اللّغة العامّيّة بحجّة أنّها سلسة وسهلة ويمكنها التّبليغ والوصول للمتقبّل. وأصبح لا يتوانى عن استعمالها في موادّه المقدّمة حتّى تتعوّد عليها الأذن وتستسيغها الذّائقة. وبدل أن ترتقي هذه الإعلانات بلغة النّاس التي دبّ فيها الوهن والضّعف بأن تستعمل عبارات صحيحة فصيحة نجدها تعتمد لغة ركيكة، بل تعمد إلى نشر اللّغة العامّيّة وبعبارات لا يراعى فيها ذوق النّاس ولا تحترم فيه عقولهم وخصوصيّة حضارتهم. هكذا هو النّظام الرأسمالي لا يحرّك ساكنا إلّا ضامنا تحقيق الرّبح والمنفعة، يعمل بدهاء ومكر ويوظّف هذه الوسيلة ليرمي "عصافير كثيرة بحجر واحد"؛ فهو يروّج لمنتجاته ويفتح لها الأسواق ويكبّل الأمّة بحبال التّبعيّة له لتكون مستهلكة لها وغير منتجة ثمّ يروّج للّغة العامّيّة واللّغات الأخرى ليقضي على لغتها العربيّة ويطمس معالم هويّتها لتذوب في عالمه هو وتحتذي حذوه... وبذلك يكون قد أجهز عليها وتأكّد من عدم عودتها وعملها لاسترجاع مجدها المسلوب ويضمن لنفسه البقاء والسّيادة والقيادة.
عبر المسلسلات المترجمة والتي أصبحت بمثابة سلسلة من حديد تكبّل النّاس فيصعب عليهم التّحرّر من وثاقها... مسلسلات تتنافس القنواتُ الفضائيّةُ والتّلفزيونية على الفوز ببثّها حصريّا فتقدّمها بلغة عامّية بعد أن كانت اللّغة العربيّة هي لغة التّرجمة. فإمعانا في إقصائها وإبعادها عن حياة المسلمين تروّج هذه المسلسلات فتسلب خاصيّة هذه اللّغة المميّزة لها - جامعة موحّدة للأمّة الإسلاميّة - لتوضع مكانها لغات مفرّقة مشتّتة تثبّت الحواجز والحدود وتجعل الأمّة الواحدة أمما متفرّقة متعدّدة تنفرد كلّ واحدة منها بلغتها وتراثها الثّقافيّ والحضاريّ.
8- اللّغة العربيّة عنوان عزّ الأمّة الإسلاميّة:
"ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمّا الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً، وأمّا الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأمّا الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَعٌ". (وحي القلم: لمصطفى صادق الرافعي رحمه الله)
حثيثة هي المساعي لإذلال أمّة الإسلام وامتهانها وقهرها، وجادّ هو العمل على طمس هويّتها وتهميش لغتها... هو حقد دفين قديم متجدّد لن ينقطع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها... صراع بين حضارة رأسماليّة وحضارة إسلاميّة... حضارة غربيّة تحارب من أجل بقائها ولفرض هيمنتها وسيطرتها على العالم بعد أن تذوّق القائمون عليها طعم التحكّم ولذّة المال والجاه... وحضارة إسلاميّة غابت بغياب دولتها وتهميش هويّتها تعمل على استرجاعها وإعادة حكم الله للأرض لتسعد البشريّة به وتحيا بأمن وطمأنينة.
حافظ المسلمون على هويّتهم الإسلاميّة وعلى لغتهم العربيّة أيّام مجدهم وعزّهم ولم يسمحوا أبدا بالمساس بها أو النّيل منها. قال ابن تيميّة رحمه الله: "وما زال السّلف يكرهون تغييرَ شعائرِ العربِ حتّى في المعاملات وهو التكلّم بغير العربيّة إلاّ لحاجة، كما نصّ على ذلك مالك والشافعي وأحمد، بل قال مالك: (مَنْ تكلّم في مسجدنا بغير العربيّة أُخرِجَ منه)".
كانوا يعلمون ما للّغة العربيّة من مكانة مهمّة، فإن هم ضيّعوها فقد ضيّعوا دينهم لأنّها رِباطٌ وَثيقٌ يجمع الأمّة الإسلاميّة قاطبة من محيطِها إلى خليجِها حتّى إن اختلفَت أقطارُها وتباعَدَت:
ويَجمَعُنا إذا اختَلَفَت دِيارٌ *** بَيانٌ غيرُ مُختَلِفٍ ونُطْقُ (أحمد شوقي)
واليوم وقد آل حال أمّة الإسلام إلى ما آل إليه تطالعنا دعوات كلّها شجب واستنكار وتنديد دون أيّ نتيجة ترجى؛ فعلماء اللّغة العربيّة يعقدون المؤتمرات وينادون بالرّقابة اللّغويّة، كما نودي من قبل بالرّقابة الدّولية للانتهاكات الوحشيّة والصّليبيّة التي تمارس ضدّ المسلمين في أنحاء العالم، ويطلقون صيحات فزع منادية بالأمن اللّغويّ تحيي في ذاكرتنا الصّيحات التي صمّت آذاننا تستصرخ وتنادي بالأمن الغذائي لشعوب مسلمة منكوبة مقهورة...
إنّ الرّقابة دوليّة كانت أو لغويّة، والأمن غذائيّا كان أو لغويّا لن يغيّرا من الأوضاع شيئا، فالمسلمون منتهكة أعراضهم، مستباحة دماؤهم، جوعى، مشرّدون وعلى حدود الدّول عالقون، أمّا اللّغة العربيّة فمهمّشة وعن علوم العصر مستبعدة... إنّ ما يحدث لأمّة الإسلام سببه واحد هو غياب دولتها الدّولة الرّاعية لشؤون النّاس وفق أحكام الخالق العادل والحافظة لعقيدة المسلمين وأمنهم ولغتهم وهويّتهم، وهي التي سترفع هاماتهم أمام الأعداء وتعيد للغة دينهم قدسيّتها ووقارها وتفرّدها وجمالها.
يقول الفرنسي "إرنست رينان" من أغرب ما وقع في تاريخ البشر انتشار اللّغة العربيّة فقد كانت غير معروفة فبدأت فجأة في غاية الكمال سلسة غنيّة كاملة، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، تلك اللّغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقّة معانيها وحسن نظام مبانيها".
تلك هي لغة القرآن عرفها أهلها فحافظوا عليها واهتمّوا بها فدافعوا عنها واستماتوا في ذلك كما استماتوا في الدّفاع عن دينهم... لكن بسقوط الدّولة نال منها الأعداء وتواصل سعيهم الحثيث لضربها وتهميشها وإضعافها.
من هنا نطلق نداء حارّا لكلّ المسلمين ونقول: لا تفرّطوا في اللّغة العربيّة فهي لغة مقدّسة؛ بها نزل دستورنا وقرآننا وبها نفهم أحكام ديننا، ولنعمل مع الصّادقين من أبناء أمّتنا الذين يصلون اللّيل بالنّهار لنصرة دينهم وإعلاء كلمة ربّهم لإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة والحكم بما أنزل الله، وبهذا - فقط - يعود للغة قرآننا مجدها وعزّها، وبهذا الصّرح المتين - يحفظ الدّين وتحفظ اللّغة ولا يتجرّأ عليهما الأعداء الضعفاء والعملاء السفهاء...!!
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
زينة الصامت