- الموافق
- 1 تعليق
بسم الله الرحمن الرحيم
مكانة المعلّم اليوم هي التّنكيل!
ولا سبيل للتّبجيل... إلاّ بالعودة إلى العصر الذّهبيّ الجميل
حين نتأمّل واقع التّعليم وكيف صارت العلاقة بين المعلّم والمتعلّم نلاحظ أنّ ما طرأ من تغييرات على مفاهيم النّاس وسلوكياتهم بعد إقصاء الدّين عن حياتهم وتحكّم النّظام الرّأسمالي فيهم وفرض حضارته الماديّة عليهم قد انعكس على هذه العلاقة فأثّر فيها كما أثّر في كلّ العلاقات والرّوابط الأخرى في المجتمع. إنّه ارتباط وثيق بين المنظومة التي تحكم المجتمع والعلاقات الرّابطة بين أفراده؛ فعلاقة المعلّم بالمتعلّم في ظلّ هذا النظام الرّأسماليّ العلمانيّ أصابها شرخ كبير وحدثت فيها فجوة عميقة باعدت بينهما بعد أن كانا يتبادلان الحبّ والتقدير.
حين يطالعنا بيت شعري صدره "قف للمعلّم وفّه التّنكيلا" بعد أن عشنا طويلا نطرب ببيت أمير الشعراء "قف للمعلّم وفّه التبجيلا *** كاد المعلّم أن يكون رسولا"، وحين ننظر إلى ما آل إليه وضع المعلّم من تحقير وامتهان وسخرية، وحين نلحظ كيف صار الطلّاب في علاقتهم بمعلّميهم نقف مشدوهين متألّمين لهذا الوضع المؤلم المؤسف الذي ألمّ بعمليّة التّعليم وطرفيها بعد أن كانت قائمة على العطاء والبذل والحبّ والاحترام. نقف لنتساءل ما هي أسباب ذلك؟ ولماذا تحوّلت علاقة التّقدير والتّوقير هذه إلى علاقة تنكيل وتحقير؟
لقد كان المعلّم والداً يتلقّف المتعلّم منذ نعومة أظافره ليربّيه ويؤدّبه ويعلّمه فيواصل ما بدأه الوالدان ويساهم مساهمة كبيرة في بناء شخصيّته. فكان يحنو عليه تارة ويقسو عليه تارة أخرى - إذا استوجب الأمر ذلك - فيسعى هذا الوالد لتعليم ولده وتربيته متمنّيا له كلّ خير ونجاح ونجاة... يقول الغزالي: "على المعلّم أن يجري المتعلّمين مجرى بنيه، بأن يقصد إنقاذهم من نار الآخرة، وهو أهمّ من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدّنيا، لذلك صار حقّ المعلّم أعظم من حقّ الوالدين، فإنّ الوالدين سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلّم سبب الحياة الباقية". هذا ما كانت عليه علاقة المعلّم بتلميذه: يتفانى في تعليمه أمور دينه ليسعد برضا ربّه وينجو من نار جهنّم حتّى إنّ كَثِيرا مِنْ الْحُكَمَاءِ قَدْ رَجَّحَوا حَقَّ الْعَالِمِ عَلَى حَقِّ الْوَالِدِ فقَالَ بَعْضُهُمْ:
مَنْ عَلَّمَ النَّاسَ كَانَ خَيْرَ أَبٍ *** ذَاكَ أَبُو الرُّوحِ لَا أَبُو النُّطَف
فعلى المعلّم أن يكون قدوة لتلاميذه فيصلح من نفسه قبل أن يصلحهم ويتقيّد بما يعلّمهم فيعمل بما يعلم. يروي الجاحظ من كلام عقبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده قال: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإنّ أعينهم معقودة عليك، فالحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت" فيعلّمهم ما تعلّمه ويراعي فيهم آدابا تجعلهم متلهّفين راغبين في المعرفة محبّين لها آملين في الدّرجة العليا التي وعد الله بها العلماء. يسعون للسير على دربه وخطاه ويقتدون به في صفاته الحميدة التي ميّزت تعامله معهم: لطف وبشاشة وتواضع وحبّ وعدل في معاملتهم، وهو ما سينتج عنه تزايد عدد العلماء وتوافد النّاس لمعرفة طريق الحقّ. "وعلى المعلّم أن يؤدّب المتعلّم على التّدريج بالآداب السّنية، والشيم المرضيّة ورياضة النّفس بالدّقائق الخفية ويعوده الصيانة في جميع أموره الباطنة والجلية، ويحرضه بأقواله وأفعاله المتكررات على الإخلاص والصدق وحسن النيات ومراقبة الله تعالى" (النووي).
أوصى الإسلام بضرورة ربط العلم بالعمل وتتويج العلوم والمعارف بالعمل بها وتطبيقها قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة الجمعة: 5]. فعلى العالم أن يعمل بعلمه ليكون قدوة حسنة للمتعلّم لا عالما يقول ما لا يفعل:
يا أيّـهــا الرجـلُ المعلّمُ غــيرَهُ *** هلاّ لــنفسِـكَ كـان ذا التــعلـيمُ
تصفُ الدّواء لذي السّقامِ وذي الضنى *** كيما يصحَّ به وأنتَ سقيمُ
هكذا كان المعلّم: محبّا لتلميذه حريصا عليه يعمل على أن يقوّي شخصيّته ليكون رجل المستقبل الواعي المعترف له بالجميل، العامل بما غرسه فيه منذ الصغر. كان صانع شخصيات ومربّي أجيال تعرف حقّ من علّمها فتقف تقديرا وتبجيلا له لأنّه علّمها معنى الحياة ووضّح لها طريق النّجاة. أمّا المتعلّم فكان الابن البارّ الذي يطيع معلّمه ويوقّره ولا يستحي أن يكون عجينة طريّة بين يديه يشكّلها كيف يشاء، فهو على يقين أنّه سيعلّمه ما ينتفع به في الدنيا ويفوز به في الآخرة، فيقف له تبجيلا ويحترمه ولا يزعجه، يقول الشّافعي رحمه الله: "كنت أتصفّح الورقة بين يدي مالك رحمه الله صفحا رفيقا هيبة له لئلا يسمع وقعها".
رسالة المعلّم هي رسالة المسلم العالم بأمور دينه العامل على نشرها وتعليمها لغيره؛ لهذا وجب عليه أن يبيّن للمتعلّم الطريق ويرسم له الخطّ المستقيم ليسير عليه ولا يتوه فيسلك سبلا معوجّة. هذه هي مهمّته وهذه هي رسالته، ولهذا كان أحقّ بالتّقدير والاحترام حتّى من الوالد كما سبق وأشرنا... فأين نحن اليوم من هذه الآداب وهذه القيم السامية التي تنشئ الأجيال لتكون فاعلة في أمّتها...؟
لئن كانت العلاقة بين قطبي العلاقة التّعليمية (المعلّم والمتعلّم) قبل أيّامنا هذه أفضل بكثير مما هي عليه اليوم بما اعتراها من تشويه ومن اضطرابات قطعت بينهما فهي في العصر الذهبي أيّام حكم الإسلام كانت أرقى وأفضل لما كساها من مفاهيم صحيحة يتبنّاها كلا الطرفين فيعملان على تنفيذها.
لقد أوصى الإسلام باحترام العلماء - ورثة الأنبياء - وبيّن فضلهم ومنزلتهم العظيمة قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: 11]... وتواترت الرّوايات والأخبار عمّا حظي به المعلّم من هيبة وتقدير وفضل وتوقير. فها هو هارون الرشيد يسأل الكسائي - إمام النّحاة في الكوفة ومعلّم ابنيه الأمين والمأمون - من أفضل النّاس يا كسائيّ؟، فقال الكسائي أوَغيرُك يستحقّ الفضل يا أمير المؤمنين؟! فقال الخليفة: نعم إنّ أفضل النّاس من يتسابق الأميران إلى إلباسه خفّيه". وكان الأمين والمأمون تقديرا للكسائيّ يتسابقان على إلباسه خفّيه عندما يهمّ بالخروج من عندهما.
يقول الإمام النووي رحمه الله: "وَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ: أَنْ يَتَحَرَّى رِضَا الْمُعَلِّمِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ نَفْسِهِ، وَلَا يَغْتَابَ عِنْدَهُ، وَلَا يُفْشِيَ لَهُ سِرًّا، وَأَنْ يَرُدَّ غَيْبَتَهُ إذَا سَمِعَهَا، فَإِنْ عَجَزَ فَارَقَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، وَأَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنٍ... وَيَنْبَغِي: أَنْ يَنْظُرَ مُعَلِّمَهُ بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ وَيَعْتَقِدَ كَمَالَ أَهْلِيَّتِهِ وَرُجْحَانَهُ عَلَى أَكْثَرِ طَبَقَتِهِ؛ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ، وَرُسُوخِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي ذِهْنِهِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ إذَا ذَهَبَ إلَى مُعَلِّمِهِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اُسْتُرْ عَيْبَ مُعَلِّمِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي"... فمن احترم العلماء ورعى حقوقهم اهتدى وفاز ومن أهملهم وجفاهم خاب وخسر.
على هذه الآداب قام العلم وعليها نشأ المتعلّم فتخرّجت أجيال من العلماء نشرت علوم دينها ودنياها ورفعت منزلة أمّة الإسلام، وكتب التّاريخ تزخر بأسماء لامعة كثيرة لعلماء مسلمين أفادوا الإنسانية جمعاء. وعلى هذه الآداب والأخلاق الحميدة قامت العمليّة التّعليمية فحفظت حقوق قطبيها ورفعت منزلتهما.
لكن!! تغيّرت الأوضاع وتبدّلت وسادت مفاهيم مغلوطة فرضها النّظام الرأسمالي الذي تحكّم في العالم بعد إسقاط دولة الإسلام فساءت العلاقات بين الأفراد وطغت عليها المصلحة وانعكس ذلك على هذه العلاقة الراقية التي كانت تربط بين المعلّم والمتعلّم لتصبح نفعيّة وتذهب بتوقير المعلّم واحترامه وتقديره.
من أهمّ أسباب ما آلت إليه هذه العلاقة من امتهان وتحقير تفشّي المفاهيم الرأسمالية الفاسدة التي طبعت العلاقات، فصار الأولياء لا يبحثون إلا عن وصول أبنائهم إلى مراتب عليا بغضّ النّظر عن أخلاقهم وعن العلوم التي يتلقّونها، فلا يكترثون لما يبثّ من سموم في أذهان الناشئة ولا يعملون على غرس حبّ المعلّم وتقديره ولا يحثّون على الأخذ من معارفه والاستفادة من علومه؛ فصنعوا بذلك جيلا لا يعطي للمربّي حقّه ولا يوقّره بل يبحث فقط عن تحقيق الدّرجات للنجاح دون فهم ولا وعي بهذه العلوم وبوجوب توظيفها في الحياة. فصار المعلّم يهان وتداس كرامته خاصّة بعد أن سار في الرّكب وفرضت عليه الظروف المعيشيّة الصّعبة التّخلّي عن رسالته والجري وراء تحقيق مصالحه وتوفير حاجاته وحاجات أسرته، فانخرط في منظومة قذرة تعمل على هدم العمليّة التعليميّة في الأمّة لتصبح جاهلة تابعة للغرب الكافر تسير على خطاه دون أن تحيد عن الدّرب المرسوم لها فيتمكّن منها كلّيا، خاصّة بعد أن أسقط دولتها وحامية علوم دينها ودنياها. وأمام هذه المكانة الوضيعة التي صار عليها المعلّم تحوّل هذا المربّي وهذا الوالد إلى صاحب عمل لا يريد سوى أجرة عمله ويلهث وراء
حفنة المال التي يجنيها من الدّروس الخصوصيّة غير مبال بما آل إليه حال التّلاميذ من تسيّب ولا مبالاة فضلا عن الأخلاق الذميمة التي تفشّت في صفوفهم، فتخلّى عنهم ولم يسع إلى مداواتهم من هذا المرض الخبيث الذي حلّ بهم لأنّه أهين وضاعت منزلته التي حظي بها قبل أن يحلّ هذا الوباء بالأمّة وحضارتها.
إنَّ الْمُـعَلِّمَ وَالطَّـبِيبَ كِلَاهُمَـا *** لَا يَنْصَـحَانِ إذَا هُمَـا لَمْ يُـكْرَمَا
فَاصْبِرْ لِدَائِك إنْ أَهَنْت طَبِيبَهُ *** وَاصْبِرْ لِجَهْلِك إنْ جَفَوْت مُعَلِّمَا
لقد تأثّر دور المعلّم بالتغيّرات التي طرأت على المدرسة - البيت الثاني للتّلميذ - والتي فقدت دورها في التعليم والتّأديب والتّوعية نتيجة تغيّر الأوضاع وتبدّل المفاهيم... وبعد أن كان من واجب المعلّم تحقيق تلك الأهداف النبيلة التي رسمها هذا البيت صار الأمر تقريبا لا يعنيه، وهنا نؤكّد أنّ ما نذكر هو ظاهرة تفشّت واستفحلت لكن لا يعني أنّها صارت عامّة، ونحن نستثني البعض من المعلّمين الذين ما زالوا متمسّكين بواجبهم ويريدون تثبيت مفاهيم راقية رائعة تعود بهذه الأجيال إلى عهد يحنّ إليه كلّ مسلم غيور يريد العزّة للأمّة ولدينها.
لكن وفي ظلّ هذا النّظام الفاسد وبسواد العلمانية وتأثيرها الكبير في المفاهيم والعلاقات صعب الأمر على الغيورين من العلماء والمعلّمين رغم محاولاتهم التّصدّي لهذه المفاسد وهذه المخطّطات التي تريد النّيل من أبناء المسلمين واجتثاثهم من جذورهم وتجفيف منابع ارتوائهم بمفاهيم حضارتهم، بشنّهم هجمات شرسة على مناهج التعليم واستئصال كلّ ما يمكن أن يوحي بمفاهيم الإسلام.
للخروج بالعلاقة التّعليمية وغيرها من العلاقات لا بدّ من تغيير جذري يصلحها ويغيّر المفاهيم حتّى تقوم على أساس متين. فيعود للرّوابط الإنسانيّة حسنها وفضلها، وهذا لن يكون إلّا بالعودة إلى أحكام الله التي تنظّم الحياة وتسيّرها أفضل تسيير. فإذا تحقّق وعد الله واستؤنفت الحياة الإسلامية تبدّلت الأوضاع وصارت العلاقات والرّوابط قائمة على أساس العقيدة فيسعى كلّ فرد - حاكما أو محكوما، عالما أو متعلّما - للقيام بصالح الأعمال، يخشى الله في النّاس ويقوم بعمله خالصا لوجه الله.
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
زينة الصامت
1 تعليق
-
جزاكم الله خيرا و بارك جهودكم