- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
ما قيمة التعليم إذا غاب الأمن وامتزج الكتاب بالدم؟!
إن العلم بحر واسع وعميق المدى، مهما أبحر الإنسان وغاص في أعماقه فإنه لن يستطيع أن يدرك منه الكثير، فالإنسان مهما كانت مكانته العلمية فإنه لم يؤت من العلم إلاَّ القليل، لقوله تعالى ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾. لقد جعل الله التعليم من الأمور المطلوبة على كل إنسان، وجعل العلماء أفضل من الجهلاء، فالهدف الأسمى للتعليم هو الهدف الديني في المقام الأول، وكل ما عداه خادم وتابع لهذا العلم. إن المتعلم بأمور الدين والدنيا هو عكس الجاهل الذي يكون عرضة للأوهام والخرافات التي تحرفه عن أمور دينه، وأيضاً لا يحسن التصرف في أمور دنياه، فيكون تبعا للمتعلم وللعالم والمبدع، بينما يبقى هو في آخر الركب مقلداً غير نافع لنفسه ولا لغيره.
من هنا تأتي أهمية التعليم وضرورة الأخذ بنواصي العلوم والمعرفة. فكما للتعليم وسائله وأساليبه للاكتساب والتحصيل وأيضاً لنشره بين أفراد المجتمع، وكما له نتائج عديدة كإضاءة طريق الأجيال ليروا العالم بعيون مستبصرة، فبسبب هذه الوسائل والنتائج أصبح من المهم أن تسعى الدول للحفاظ عليه وتأمينه لجميع أفراد المجتمع دون أي تمييز مناطقي (الريف- المدينة) أو جنسي (ذكر-أنثى)، وأهم شيء على الدولة تأمينه هو الأمن، فهو من أول مطالب الإنسان في حياته، حيث يُعتبر ضرورة لكل جهد بشري فردي أو جماعي، لتحقيق المصالح العامة للجميع، قال رسولنا الكريم «منْ أَصبح مِنكُمْ آمِناً في سِرْبِهِ، مُعَافَىً في جَسدِه، عِندهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحذافِيرِها».
إن الأمن نعمة من أجلّ نعم الله عز وجل على عباده، فهي مطلب كل أمة وغاية كل دولة، فمن أجلها جُندت الجنود ورصدت الأموال وفي سبيل تحقيقها قامت الثورات والصراعات. وقد أشار القرآن الكريم إلى دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام لربه أن يرزق مكة الأمن والطمأنينة حين أودع فيها زوجه وفلذة كبده، فقال تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾. فقدّم عليه السلام نعمة الأمن على نعمة الطعام والغذاء، فما قيمة الغذاء إذا لم يتوفر الأمن؟ لو كان للغذاء دون الأمن قيمة كانت المساعدات الإنسانية التي يرسلها حكامنا لذر الرماد في عيوننا، كانت غيرت حال 2 مليون من أطفال اليمن الذين يعانون من سوء التغذية، ولما كانت المجاعة قد لاحت بالأفق في جنوب السودان، ولما دقت منظمة الفاو ناقوس الخطر إزاء سوء التغذية الذي يهدد أكثر من 16 مليون طفل دون سن الخامسة في دول غرب أفريقيا، فبغياب الأمن تغيب كل مقومات الحياة الكريمة.
وما قيمة التعليم أيضاً إذا غاب الأمن وامتزج الكتاب بالدم؟ هذا ما يحصل في معظم مناطق العالم الإسلامي، في سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها من البلاد الإسلامية حيث الصراعات والنزاعات المتأججة باستمرار. قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) "إن ما يُقدر بنحو 535 مليون طفل، أي ما يعادل واحداً من كل 4 أطفال في العالم يعيشون في مناطق متضررة من النزاعات أو الكوارث، ولا يستطيعون في كثير من الأحيان الحصول على الرعاية الصحية أو التعليم أو الغذاء أو الحماية مما يجعلهم عرضة للأمراض والعنف". وأضافت أن أكثر من 390 مليون طفل من المتضررين من تلك الأوضاع يعيشون في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بينما يعاني نحو 65 مليون طفل من أزمات في الشرق الأوسط.
وبناء على هذه الإحصائيات الصادمة وبعد تعمق بدراسة أحوال هذه البلاد ومقدراتها، نرى بأن مجمل هؤلاء الأطفال يعيشون في مناطق النزاعات والصراعات التي تقع تحت سيطرة نفوذ الدول الكبرى المستعمرة، هذه الدول التي، وبحجة تحقيق أمنهم وأمن شعوبهم، تشن الحروب وتُحدث القلاقل والاضطرابات لتحقيق مصالحها المادية التي لا تقوم لها قائمة إلّا على حساب دماء الأبرياء واضطهادهم وتشريدهم، لأنها مصالح تقوم على مبدأ يخالف القيم الإنسانية بغايته الاستعمارية.
منذ سنوات والدول الكبرى قد أعلنت فتح جبهاتها العسكرية في العديد من بلاد المسلمين خاصة بعد ثورات الربيع العربي، وذلك لإعادة إحكام قبضتها من جديد على الأمة الإسلامية وإرادتها في التغيير. وما زالت رحى هذه الحروب تدور حاصدة البشر والحجر والشجر، وخاصة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، ففي تقرير لليونيسيف الأخير، أشار أن 2.4 مليون طفل في سوريا، و3 ملايين طفل في العراق ومليوني طفل في ليبيا، إضافة إلى 2.9 مليون في اليمن لا يرتادون المدارس.
وبحسب هذا التقرير فإن أكثر من 13 مليون طفل في منطقة الشرق الأوسط أي حوالي 40% من أطفال المنطقة لا يرتادون المدارس بسبب الصراعات المتأججة في بلادهم. هذا بالإضافة إلى أوضاع اللاجئين في دول الجوار التي لجأوا إليها بحثاً عما فقدوه في بلادهم من أمن وأمان وعيش كريم، والذي لم يجدوه بسبب غياب البنية التحتية لمختلف القطاعات في هذه الدول من اقتصادية واجتماعية وتعليمية، مما أدى إلى ارتفاع نسبة الأمية وبالتالي انتشار الجهل والفقر والبطالة والعنف والاستغلال. فبحسب تقارير هيومن رايتس ووتش فإن 212 ألف طفل من سوريا من أصل 708 آلاف في عمر التعليم تسجلوا في مدارس تركية في العام الدراسي 2014-2015، بينما لجأ الكثير من الأطفال إلى التسول أو العمل بشكل غير شرعي بأجور زهيدة. وقد بلغ عدد الأطفال اللاجئين من سوريا والذين لم يرتادوا المدارس في دول الجوار بسبب عدم القدرة على تحمل عبء طلاب إضافيين، أكثر من 700 ألف طفل لاجئ.
إن عدم توفر الأمن وازدياد وتيرة القتل والاستهداف المتعمد للمدارس وبشكل متكرر يجعل من التعليم معضلة صعبة يصعب تحقيقه وتأمينه، فبحسب منظمة يونيسف فإن هناك نحو 8850 مدرسة في سوريا والعراق واليمن وليبيا قد دُمرت أو تضررت بحيث لا يمكن استخدامها لأنها إما تحولّت لمأوى للعائلات الهاربة والمشردة، وإما أنها احتلت من قبل أطراف النزاع. ولقد كشفت إحصائيات وزارة التعليم العراقية عن احتياج العراق لتأسيس حوالي 10 آلاف مدرسة لاستيعاب الزيادة المطّردة في عدد الطلاب. ووفق إحصائيات وزارة التعليم اللبنانية أيضاً فإن المدارس في لبنان هذا العام لم تستطع استيعاب أكثر من 200 ألف طفل لاجئ. وأما في ليبيا فالمدارس تعاني من الأعداد المتقاطرة من التلاميذ مما أدى إلى ازدحام الفصول الدراسية والتي قد تصل إلى خمسين تلميذاً وأكثر لعدم صيانة المدارس المتضررة جراء الحرب في مختلف المدن الليبية، ولتزايد حركة النزوح الداخلية، إذ قدّرت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن هناك حوالي 218000 نازح داخلي في ليبيا.
لقد فقد الطلاب بمختلف فئاتهم العمرية فرصهم في التعليم بسبب النزاعات والحروب، والتي في ظل استمرارها نرى أن قطاع التعليم كما غيره من القطاعات يعاني الكثير من المشكلات والأزمات الكبيرة، حيث أثرت هذه الحروب سلباً على التعليم وكيفية تأمينه للجميع، إذ يتم استقطاب المتسربين من التعليم من جانب التنظيمات والمليشيات المقاتلة، وعادة ما يكون المقابل المادي هو الدافع لاستقطاب الأطفال لصفوفهم بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية. ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست في أيار/مايو 2015 فإن الأطفال يشكلون حوالي ثلث عدد قوات الحوثيين التي تضم 26 ألف مقاتل، وعدد معسكرات تدريب الأطفال على القتال في سوريا والعراق يتجاوز 14 معسكرا. هذا بالإضافة إلى تضرر الكادر التعليمي جراء هروب البعض أو اعتقال البعض الآخر، ففي اليمن أشارت التقارير إلى مقتل أكثر من 40 معلماً في تعز وجرح العشرات بالإضافة إلى تشريد الآلاف منهم، وفي سوريا ترك ما لا يقل عن 25500 معلم و523 مستشاراً تعليمياً عملهم في المناطق الأكثر احتداماً، وفضلوا اللجوء إلى دول الجوار أو النزوح داخلياً للمناطق التي يسيطر عليها النظام لضمان الحصول على رواتب منتظمة تتراوح بين 200 و450 دولاراً شهرياً.
بسبب إطالة أمد الصراع إلى ما لا نهاية، تتضمن تداعيات تردي أوضاع التعليم في العالم الإسلامي تهديدات مباشرة في مستقبل جيل بكامله، فبغياب وانعدام التعليم ينشأ جيل بلا هوية، يُقاد وفق سلطة وسياسة القوي، تابع بكل مقوماته (الفكرية والثقافية والتربوية) لمن أفقده الإبداع والتميز والحياة بكرامة. وهذا ما يصبو إليه أعداء الإسلام، وهذا ما يؤكده استهدافهم المتكرر والممنهج لأجيال المستقبل وللمدارس خاصة في سوريا، فيدك جدرانها فوق رؤوس الأطفال الذين دأبوا على الدراسة والتعليم رغم الظروف الصعبة وأجواء الخوف والرعب المسيطر بفعل الطائرات الصليبية الاستعمارية التي تصول وتجول انتقاماً من المناطق التي طالبت بتغيير النظام ورفعت شعار الإسلام، وكأنما رسالة الإرادة والصمود التي أرسلها هؤلاء الأطفال الأباة أججت حقد الطغاة، ومفادها أننا جيل المستقبل ولن نهاب مدافعكم، فأمة اقرأ ستدك عروشكم ولو بعد حين.
فمن هو المسؤول الحالي عن حماية التعليم وأهله من تلاميذ وجامعيين ومبدعين، من البراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية وعمليات القنص والتجويع؟؟ ومن طائرات التحالف العربي والصليبي؟؟ ومن المليشيات والتنظيمات المسلحة؟؟ هذا السؤال يجب أن يطرح على من يدعون أنهم دول عظمى يقودون العالم، على من وضع القوانين الدولية، تلك القوانين التي تبقى حبرا على ورق أمام جرائمهم الوحشية بحجة حربهم الوهمية على (الإرهاب)، فحربهم إنما هي على الإسلام والمسلمين فقط لا غير.
لم تعد دعاوى نصرة الدول الضعيفة والحريات وحقوق الإنسان والسلام العالمي والعدل الدولي تنطلي على أحد، فكلها شعارات رنانة تغطي الأوجه القبيحة والقلوب السوداء، فعمَّ الظلم والظلام. ولكن بعد سواد الليل سينبلج الصبح بنوره وضيائه ليعم هذا النور ربوع الأرض، إنه نور الحق نور دولة الخلافة التي ستطبق حكم الله في الأرض، ليعم الأمن والأمان، ولتُخرج الناس من ظلمات الرأسمالية والغرب إلى نور الإسلام وعدالة القرآن، والتي ستواجه الحروب الاستعمارية بجيش الموحدين، قاهر الأعداء ومحرر الأرض وحافظ العرض للمسلمين وغير المسلمين...
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رنا مصطفى