- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
سياسة التعليم في بلاد المسلمين:
تقتل الريادة والإبداع وتشجع التقليد والاتباع!
تولي الدول اهتماماً كبيراً لسياسة التعليم وأساليبه، وتقوم ببنائها على عين بصيرة، لما لها من أثر كبير في بناء شخصيات الأفراد وإبراز وجه الدولة وبيان مكانتها بين الدول، وسياسة التعليم الناجحة هي التي تؤدي إلى إيجاد علم للدارس وعمل للمجتمع، بحيث تكون المدارس والجامعات حاضنات للأفكار، ومراكز لتفريخ العلماء المبدعين في شتى المجالات. وتلعب مناهج التعليم والطرق والأساليب التي تدرس بها دوراً حيوياً في تحديد نوعية التعليم وخلق التفكير الإبداعي لدى الطلاب.
إن المدقق في سياسة التعليم في بلاد المسلمين يرى أنها سياسة فاشلة، سياسة تجهيل لا تعليم، سياسة تربي في النفوس مبدأ التقليد والاتباع لا مبدأ الريادة والإبداع، ويظهر ذلك بوضوح في طريقة التدريس المتبعة فيها، فهي طريقة عقيمة تؤدي إلى تعطيل عملية التفكير وقتل الإبداع عند الطلاب، لأنها تقوم على التلقين والتعليم النظري، وتركّز على الحفظ المجرد للمعلومات دون ربطها بالواقع أو تحليلها وفهمها، ونتيجة لذلك أصبحت الأفكار مجرد معلومات صمّاء غير متصورة في ذهن الطلاب، يرددونها ليُمتحنوا فيها ثم ينسونها ويمزقون الكتب والأوراق بعد انتهاء الامتحان.. فالتعليم عندهم علامات وشهادة وليس علما يطبقه في الحياة لترتقي أمته...
وتُتَبَعُ هذه الطريقة العقيمة في التدريس في تدريس العلوم التجريبية وغير التجريبية على حد سواء، فالمواد غير التجريبية كالتاريخ واللغة والمعارف الإسلامية من فقه وتفسير وحديث وغيرها، يملؤها الحشو والتكرار، وتقوم على الحفظ والاستظهار بدل الفهم والتفسير والمقارنة والنقد. ولا زالت أغلب الأسئلة تأتي للطلاب في امتحانات هذه المواد - حتى في الجامعات والمعاهد العليا - على شكل (اذكر، عدد، بيّن)، هذا عدا عن الأسلوب الممل الذي تدرس به هذه المواد، ولو أخذنا اللغة العربية كنموذج على هذه العلوم، نرى أنها تدرس على أنها مادة جامدة ليس فيها حيوية، تدرس بأسلوب لا ينمي قدرات الطلبة على الكتابة والتأليف والخطابة والتحدث، حتى مواضيع التعبير التي يفترض بها أن تنمي قدرات الطلبة على الكتابة والتعبير عن أنفسهم وتمكن من اكتشاف الكتاب والمؤلفين من بينهم، أصبحت في كثير من الأحيان طلباً بتلخيص الدرس أو القصة التي درسوها بدلاً من الكتابة حول موضوع معين، وإن طلب منهم الكتابة فإن هناك قوالب وصوراً نمطية للأشياء لا يجب أن يخرجوا عنها، أو يبدعوا في إيجاد صور وتشبيهات جديدة.
أما على صعيد العلوم التجريبية كالكيمياء والفيزياء وغيرهما، فتدرس بطريقة الإدراك الصرف (المجرد) أي التعليم بالتلقين، لا بطريقة الإدراك الحسي الناتج عن استخدام الحواس الخمس من خلال التجريب والممارسة العملية، حتى ترسخ المعلومات في عقول الطلبة فيصعب نسيانها، ويستطيعوا إثبات صحة المعلومة المعطاة لهم أو نقضها. وحتى إن احتوت كتب هذه المواد على قضايا للبحث أو وضعت فيها تجارب علمية ليجريها الطلبة، فإنهم يصطدمون بمعضلة الافتقار للبنية التحتية اللازمة لدراسة هذه العلوم من مختبرات وأدوات ومراجع، فالمدارس والجامعات المجهزة بهذه التجهيزات قليلة وقسم منها هو مدارس وجامعات خاصة لا حكومية، ويتم توفير هذه التجهيزات فيها من خلال الدعم والتبرعات الخارجية التي تُخضعهم لإملاءات وشروط معينة ليس من ضمنها طبعا ما يساعدهم على التفكير والتحليل والربط الصحيح للنهضة والرقي...
فالحكومات في بلاد المسلمين ليست فقط لا تولي اهتماماً بالعلم والمتعلمين، بل إن مسؤولي التربية والتعليم في بلاد المسلمين يطالبون بالتخفيف من تدريس المواد العلمية وتدريس الرقص والموسيقى بدلاً منها، ليحل الفساد والجهل مكان العلم والإبداع، فقد صرح وزير التربية في تونس ناجي جلول في برنامج على قناة الحوار التونسي: "يلزم نقّصوا شوية Math وشوية physique بس نربحو وقت للرقص والموسيقى"!
إن هذه الطريقة في التدريس تؤدي إلى اكتساب الطلاب للمعلومات اكتساباً سطحياً نظرياً، وتجعل من الحصص الدراسية أمراً مملاً فاقداً للحيوية والنشاط، وهي كذلك لا تخلق دافعية لدى الطلاب للتعلم وحب المدرسة، حتى إن بعض الأبحاث والدراسات تشير إلى أن طريقة وأساليب التدريس المملة هي سبب من أسباب التسرب المدرسي، إضافة إلى أنها لا تنمي قدراتهم على اتخاذ القرارات والتعامل مع المواقف الحياتية، باختصار إنها طريقة تجعل من الطلاب مجرد ببغاوات يرددون ما حفظوا.
ولهذا كله نرى الفجوة بل الهوة الكبيرة التي يجدها طلابنا عندما يذهبون للتعلم في الجامعات الغربية... فهي أكبر دليل على عقم هذه الأساليب...
أما ما هي الطريقة الصحيحة للتدريس التي تخرج لنا علماء ومبدعين، فهي الطريقة التي تجعل من العقل أداة للتعليم والتعلم، وتعتمد الخطاب الفكري من المعلم والتلقي الفكري من المتعلم طريقةً للتدريس فيها، مع تغيير في الأساليب والوسائل لإيصال الأفكار إلى الطلاب بسرعة ونجاح، والأساليب متنوعة كالحوار والمناقشة والقصة والمحاكاة وحل المشكلات وإجراء التجارب والتدريب العملي المباشر، وحتى الخيال... فإذا أراد المعلم أن ينقل الفكر إلى المتعلم فإنه ينقله بوسيلة أو أكثر من وسائل التعبير وعلى رأسها اللغة، فإذا اقترن هذا الفكر عند الطلبة بواقع محسوس أو سبق أن أحسوا به أو أحسوا بمثله فقد انتقل إليهم فكراً كأنهم هم الذين توصلوا إليه، لذا لا بد للمعلم أن يقرب معاني الأفكار إلى ذهن الطالب بقرنها بواقع محسوس لديهم أو بواقع قريب مما يحسونه حتى يأخذوها أفكاراً لا مجرد معلومات وذلك باستخدام الوسائل والأساليب التعليمية المتنوعة كما ذكرنا.
ولكن لا بد من الانتباه إلى أن الأساليب والوسائل غير دائمة، وأن على المعلم أن يبدع في إيجاد الأساليب والوسائل الناجعة لتفهيم الطلاب الأفكار المقررة، مراعياً ظروفهم والفروق الفردية بينهم. فمثلا كان الخطاب والتلقي الفكريين سابقاً يتم بالقلم والورقة والمشافهة والتقليد والكتابة، لكنها اليوم تتم بالصور المطبوعة والمتحركة والأشرطة الصوتية والتجارب في المختبرات.
فلو أردنا على سبيل المثال تعليم الطلاب درساً حول المواد الموصلة للحرارة وللكهرباء والمواد غير الموصلة لهما، فإن الطريقة الصحيحة أن يقوم الطلبة بتجريب ذلك في مختبر مجهز لهذا الغرض فيرى الطالب بعينيه كيف أن النحاس مثلاً موصل للكهرباء، بينما البلاستيك لا، ويلمس بيديه كيف أنه موصل للحرارة بينما البلاستيك غير موصل لها، بدلاً من تدريسهم هذه المعلومة على الورق فقط.
وعند تدريس مواضيع تتعلق بالفتوحات والمعارك التي قام بها قادة المسلمين في مادة التاريخ، يمكننا أن نستخدم أشرطة الفيديو والخرائط وغيرها من الوسائل لتقريب الصورة إلى ذهن الطلبة، وعلينا أيضاً أن لا نكتفي باستخدام المعلومات مجردة عن فكرة العقيدة الإسلامية، بل يجب أن تحدث تأثيراً في نفوس الطلبة، كأن يستشعر الطالب أهمية الجهاد في سبيل الله وأنه طريقة لحمل الدعوة إلى الأمم والشعوب، وإصرار المسلمين عليه، ووجوبه عليهم، والأجر الذي يحصلون عليه، وفضل الشهادة عند الله تعالى، ومعاني البذل والتضحية والعزة، واستخلاص العبر عند الهزيمة في بعض المعارك، وسبب النصر، إلى غير ذلك من تركز هذه المفاهيم.
وعند تدريس اللغة العربية وعلومها من صرف ونحو وبلاغة وغيرها، لا يجب أن ندرسها باستخدام المعلومات المجردة عن العقيدة الإسلامية فهي لغة القرآن، وبها يفهم وتفهم السنة، ومن خلالها تستنبط الأحكام الشرعية، ويدرك وجه إعجاز القرآن. مع استخدام الأساليب والوسائل التكنولوجية المختلفة لإيصال المعلومات مع ضرورة إشراك الطلبة في المناقشة والبحث وتحليل النصوص باستخدام ما تعلموه من علوم العربية، وإفساح المجال لهم للكتابة والإبداع.
إن حديثنا عن سياسة التعليم الفاشلة وطريقة التدريس العقيمة لا يعني أن الأمة الإسلامية، ليس فيها مبدعين وعلماء ومخترعين في مختلف المجالات، بل فيها الكثير والحمد لله، ولكنهم لا يحظون بالتكريم والاهتمام المناسبين، ولا يتم دعمهم مادياً واحتضان مواهبهم وإبداعاتهم من قبل الأنظمة في بلاد المسلمين، فكم من مخترع ومبدع اضطر للهجرة من بلاده لأنه لم تتوفر له الإمكانيات والظروف المناسبة في بلاده، وإذا بنا نسمع بعد فترة عن مخترعات واكتشافات لهم في البلاد التي هاجروا إليها، ومن هؤلاء المهندس التونسي أشرف بن ثابت الذي هاجر إلى ألمانيا وأثناء عمله فيها اخترع أول كاميرا k4 في العالم تستعمل للأغراض الطبية.
بينما في مفارقة عجيبة نرى الأنظمة في بلاد المسلمين ترعى من لديه "موهبة" في الرقص والغناء والألعاب
التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وتقيم لهم البرامج والمسابقات وتنفق عليهم المليارات، لأنها باختصار أنظمة تنفذ إملاءات وترعى الفساد والجهل، بدعم ومساندة من دول الغرب ومنظماتها الدولية، التي تتعمد تجهيل أبنائنا من خلال مناهج تقتل الإبداع وتحرم الطالب من التجربة العملية والتفكير النقدي وإعمال العقل، ومن خلال عمليات تقويم تركّز على الحفظ المجرد للمعلومات دون ربطها بالواقع أو تحليلها أو فهمها.
ختاماً: إن سياسة تعليمية كهذه لا يمكن أن تشكل بأي حال من الأحوال تربة خصبة لإنبات الإبداع، وإن أنظمة عميلة كهذه لا يمكن أن تكون داعمة للمبدعين، فإيجاد الإبداع ورعاية المبدعين لا يكون إلا من خلال دولة تولي اهتماماً بالتعليم وتنظر إليه على أنه أحد أهم القنوات التي من خلالها يصنع قادة الأمة ليضطلعوا بأعباء أمتهم بل والعالم أجمع، فتضع سياسة تعليمية تحقق هذا الهدف، وتهيئ البنية التحتية اللازمة من مكتبات ومختبرات ووسائل المعرفة الأخرى في المدارس والجامعات، وتهيئها في خارجها أيضاً لتمكين الباحثين والدارسين من مواصلة أبحاثهم، وترفع من شأن العلم والعلماء وتحتضنهم وتشجعهم على التنافس في العلم، وذلك كما فعل المأمون عندما جعل وزن الكتاب المُترجَم - من لغة غير العربية إلى اللغة العربية - ذهبًا للعالِم الذي يقوم بترجمته وبعض الروايات تقول إنه جعل ذلك أيضاً لكل من يؤلف كتاباً. وكما فعل هارون الرشيد، الذي قال عنه عبد الله بن المبارك: "ما رأيتُ عالمًا، ولا قارئًا للقرآن، ولا سابقًا للخيرات، ولا حافظًا للحرمات في أيام بعد أيام رسول الله وأيام الخلفاء الراشدين والصحابة، أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثماني سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعِلم، ويروي الحديث، ويجمع الدواوين، ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة"، ولم يكن ذلك إلا بكثرة إنفاقه، واهتمامه بالعلم والعلماء وطلابه منذ الصغر!!
إن تطبيق نظام تعليمي رائد لن يكون إلا في ظل دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة والتي ستعيد الأمة الإسلامية، كما كانت الأولى في كل المجالات، حيث خرجت من مدارسها العلماء والساسة والقادة في شتى الميادين وأرست قواعد مجتمع إسلامي يشار له بالبنان، فكانت تخرّج رجال دولة وقادة معركة ورجال فقه وعلم ونقلت العالم من دياجير الظلام إلى نور الإسلام، ونسأل الله أن يكون قيامها قريبا...
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
براءة مناصرة