- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
كيف تحافظ دولة الخلافة على سياسة الإعلام؟
إذا كان الإعلام الحاضر في عصر المعلومات بمثل هذا التأثير القويّ والنافذ على عقول الناس عبر العالم، حتى إنّه فاق في تأثيره تأثير الجيوش والأسلحة في غزو الشعوب وضرب الثقافات، وإذا كان سلطانه على الناس يُشكّل تهديدا على حضارات الأمم ومبادئها، فلكم أن تتصوّروا إذاً قوة سياسة الإعلام في ظل دولة الخلافة الراشدة وكيف يمكن أن يكون نفوذها وتأثيرها حينما تكون منبثقة من العقيدة الإسلامية ولا شيء غيرها، ومؤصّلة بفقه الأحكام الشرعية ومستنبطة من عظمة هذا الدين المنزل من ربّ السماء، ومواكبة لأحدث التقنيات والتكنولوجيات... ستكون بلا شكّ سياسة إعلاميّة قويّة ونافذة ومنضبطة، وقوّتها من قوّة المبدأ الذي تقوم عليه وقوّة الدولة التي تحتضنها، خصوصا وأن الإعلام هو جهاز من أجهزة دولة الخلافة وعمود من أعمدتها!
- مفهوم سياسة الإعلام في الإسلام
إن الإعلام والسياسة توأمان لا يفترقان، فالدولة لا تستغني عن الإعلام للتأثير في الرأي العام وسرعة وصول الأفكار والأهداف للناس، والإعلام هو الطريقة لنقل الأخبار بصياغة معيّنة ولأغراض معيّنة.
فالمعلوم أن السياسة في الإسلام هي رعاية شؤون (الفرد والدولة والمجتمع) ومصالحهم بالأحكام الشرعية، أما الإعلام فهو تزويد الناس بالأخبار والمعلومات والمعارف والثقافات التي تساعدهم في تكوين رأي عام صائب في واقعة من الوقائع أو مشكلة من المشاكل، من خلال وسائله المتعددة (المطبوعة والسمعية والبصرية والإلكترونية) بقصد التأثير في عقليّة الجماهير أو غرائزها.
فتكون سياسة الإعلام في الإسلام إذا هي ربط شؤون الإعلام بالأحكام الشرعية ورعايتها على ذلك الأساس، أي أن الإسلام هو الذي يحدّد طبيعة المعلومات والثقافات والمعارف التي ينقلها الإعلام للناس، وهو الذي يُحدّد الغايات والأهداف من نقلها وإشاعتها أو حجبها وتوريتها، وفق التوقيت المناسب والوسائل الإعلاميّة المناسبة أيضا.
- الجهة المسؤولة على وضع سياسة الإعلام في الدولة
جاء في مقدمة الدستور الذي يتبنّاه حزب التحرير ويعرضه على الأمة المادة 103 "جهاز الإعلام دائرة تتولى وضع السياسة الإعلامية للدولة لخدمة مصلحة الإسلام والمسلمين، وتنفيذها، في الداخل لبناء مجتمع إسلامي قوي متماسك، ينفي خبثه وينصع طيبه، وفي الخارج: لعرض الإسلام في السلم والحرب عرضاً يبين عظمة الإسلام وعدله وقوة جنده، ويبين فساد النظام الوضعي وظلمه وهزال جنده".
نفهم من هذا أن الذي يشرف على السياسة الإعلامية ويُوكَل له إقرار ما يُذاع للناس ومراقبة ما يُنشر هو جهاز مختصّ مُكلّف من الدولة (من الحاكم) مُتكوّن من رجال سياسة وإعلام وفكر على درجة عالية من الثقافة والوعي والتحليل السياسي وربط الأخبار وحسن صياغتها بالوسائل المطلوبة، كما أنهم ذوو قدرة عالية على فهم الأحكام الشرعية أو استنباطها لربطها بالنصوص الإخباريّة وضمان وصولها للناس على الوجه الذي يخدم شؤون الأمة وسلامتها وأمنها.
ومع وجود إعلام رسمي (حكومي) يوجد إعلام خاص إذ يحقّ للأفراد تملّك وسائل الإعلام، ودولة الخلافة الراشدة تدعم الوسائل الإعلامية الرسمية والخاصة وتهتمّ بها، فمن حق أي فرد يحمل التابعيّة لدولة الخلافة أن ينشئ وسيلة إعلامية خاصة به ولا يحتاج في ذلك إلى ترخيص بل إلى علم وخبر فقط يُرسل إلى دائرة الإعلام المختصّة ويُعلم عن وسيلة الإعلام التي أنشئت وهذا ما أقرّه حزب التحرير في مقدمة الدستور في مادته 104...
لكن، ماذا لو وقعت وسائل الإعلام الخاصة في مخالفات شرعيّة وتجاوزات قانونية؟ وماذا لو خرجت عن القواعد الأساسيّة لسياسة الإعلام ونشر ما لا يليق أن يُذاع ويُشاع بين الناس؟؟
القاعدة الأساسيّة التي تُبنى عليها سياسة الإعلام في دولة الخلافة
ونعني بهذا أنّ القاعدة الأساسية في نشر الأخبار والمعلومات والمعارف يجب أن تقوم على حماية عقيدة الإسلام ودين الإسلام ودولة الإسلام وأمنها، هذا من جهة، وهدم ومحاربة أي فكر ضالّ يُهدّد أمن دولتها وأمن المسلمين أو يضرّ بالإسلام عقيدة وأحكاما، وهذا من جهة ثانية.
هذا هو الخطّ العام للسياسة الإعلامية، وعليه فإنّ جهاز الإعلام يحتوي دائرتين رئيسيتين:
- الأولى: عملها في الأخبار ذات المساس بالدولة، والصناعة الحربية، والعلاقات الدولية والأمور العسكريّة وما يلحق بها، كتحركات الجيوش، وأخبار النصر أو الهزيمة... وهذا الضّرب من الأخبار يتمّ ربطه بالحاكم مباشرة ليُقرّر ما يجب كتمه وإعلانه.
ويكون عمل هذه الدائرة المراقبة المباشرة لمثل هذه الأخبار، فلا تذاع في وسائل إعلام الدولة أو الخاصة إلا بعد عرضها على جهاز الإعلام.
- الثانية: دائرة مختصّة بالأخبار الأخرى، الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وتكون المراقبة فيها غير مباشرة سواء أكان إعلاما حكوميا أم خاصا، ويتحمّل أهلها مسؤوليّة أيّ مخالفة شرعية.
مواصفات الإعلام الإسلاميّ
هناك مجموعة من المواصفات الأساسية في الإعلام الإسلامي التي يجب توفّرها والالتزام بها:
1ـ المصداقية: الصدق هو حكم شرعي يجب الالتزام به سواء في الإعلام أو غيره (إلا ما استثناه الشرع)، والصدق في نقل الخبر وعرضه وإسناده إلى راويه (شخص أو وكالة إعلامية) شروط أساسيّة في العمل الإعلامي، فالكلمة منضبطة بأحكامها الشرعية.
2ـ المهنيّة: وهنا نتحدث عن احترافيّة الإعلاميّين وتمكّنهم المعرفي والثقافيّ وحضورهم وتمتّعهم بالشخصية المؤثرة والملتزمة. ودولة الخلافة تسعى إلى تكوين كفاءات وإطارات مختصّة للعمل الإعلامي إذ يتمّ عقد دورات وتكليف مختصّين في كيفيّة الصياغة الإعلامية ويُدرّس في الجامعات بمستوى عال ومحترف ويتمّ الإعداد الجيّد لمواده.
3ـ المرونة: والمقصود بها كيفيّة التعاطي مع التقنيات الحديثة والتكنولوجيا المتطوّرة التي تخلق محيطا مؤثرا على الجماهير من مواكبة التطوّرات المادية وابتكار الوسائل والأساليب الناجحة والمؤثرة وإن لزم الأمر استقدام أجهزة وخبراء في هذا المجال (بما يسمح به الإسلام)، وهذا يحتاج إلى دعم مالي وإمكانيات سواء من الدولة مباشرة أو من المنظمات أو المؤسسات الخاصة.
4ـ اللغة: اللغة الرسمية لدولة الخلافة الراشدة هي اللغة العربية، لذلك فالسياسة الإعلاميّة المعتمدة ستجذّر في الأمة رابطا متينا بين عقيدتها وهويّتها الثقافية، ولا يعني هذا أن تمتنع عن عرض البرامج والمواد الإعلاميّة بلغات مختلفة لحمل الدعوة إلى الخارج، ولكن اعتماد اللغة العربية سيكون مكثفا ومستساغا لدى الناس بشكل فعّال وقوي.
5ـ الرسالة الإعلاميّة الهادفة: إن الأخبار والبرامج والمعلومات والمعارف التي تُنقل للناس سواء أكانت متعلقة بأمن الدولة أو عقيدتها أو مجتمعها يجب أن تكون كلّها في خدمة الإسلام فكرة وطريقة.
ويجب أن يكون الإعلام أداة فعالة في تركيز القيم والمفاهيم الإسلامّية وخلق تصوّر معيّن لأنماط العيش في البيئة الإسلاميّة، وشرح الأحكام الشرعيّة المتعلقة بالاقتصاد مثلا من عقود ومعاملات، أو أحكام النظام الاجتماعي وعلاقة الرجل بالمرأة، أو غير ذلك من أنظمة الحكم والإدارة، مع مراعاة التفاوت لدى المتلقي على المستوى العمري والمعرفي والدراسي... فتكون البرامج الدعوية وبرامج الأطفال وبرامج للمرأة وأخرى متعلقة بالعلوم والصناعات والمواد في هذه المجال كثيفة لا تنضب، والمهم حسن استخدامها لتأدية دورها.
وعليه، فسيكون الإعلام أداة لنشر القيم الإسلامية والفضيلة داخل المجتمع ومنبرا للدعوة الإسلامية في الداخل والخارج، فالإعلام الإسلامي سيُروّج في الخارج أيضا بلغات مختلفة حتى يكون وسيلة في تعرّف غير المسلمين على الإسلام واعتناقه وسهولة ضمّ باقي الدول إلى دولة الخلافة. وسيعمل الإعلام على كسر الحواجز الوطنية بين أبناء الأمة الواحدة وتفنيد فكرة الحدود والسدود بين المسلمين ممّا يساهم في خلق رؤية ملتزمة بقضايا الأمة.
ماذا عن الأفلام والمسلسلات وبرامج الترفيه والتسلية؟؟
لأنّنا فقدنا بوصلتنا الفكرية والثقافية وسط كل هذا الزخم الإعلامي الذي تسيطر عليه الثقافة الغربية، فالكثير من المسلمين يفكّرون بعقليّة التناظر المحوري، أي أنه مثلما للإعلام الغربي أفلام ومسلسلات وبرامج تسلية وترفيه فيجب أن يكون شقّ إسلامي بنفس الخط العام لتسلية المتلقّي والترفيه عنه!
وهذا ما يُحدث لبساً لدى كثير من المسلمين في كثير من الأحكام الشرعية التي افتقدوها في واقعهم وتصوّروا وجودها مع دولة الخلافة... يُغيّرون العناوين ويبقون على المضامين. لكن ما يجب أن نذكّر به هو أن للإسلام طرازاً خاصاً في العيش ووجهة نظر فريدة عن السعادة والهناء والمتعة. فالتسلية والترفيه والترويح عن النفس مشروعة في الإسلام لكن بطرقها الشرعية وأحكامها المنضبطة، فلن يتمّ إذاً عرض الأفلام أو المسلسلات التي يتم فيها الاختلاط وكشف العورات والتمثيل المحرم، ولن تُبث أغانٍ فاحشة، وكل ما لا ينفع من الأمور، بل كل ما يعرض سيكون بإذن الله ذا فائدة، وأي شيء يسبب ضرراً على المسلمين يمنع ويحاسب المسؤول عن ذلك.
وقد يُغالي البعض ويتصوّر أن الإعلام الإسلامي هو عرض فقط للبرامج الدعويّة وإذاعات القرآن الكريم كما هو منهج "القنوات الدعوية" في وقتنا هذا، لكن سياسة الإعلام في دولة الخلافة ستكون أشمل وأعمق من تكرار هذه الصورة النمطيّة والمتنطّعة.
سياسة الإعلام في دولة الخلافة والتحديات المرتقبة
إنّ الأفكار الرأسمالية والليبراليّة التي تغلغلت لعقود عن طريق الغزو الفكري والعسكري للأمة الإسلامية وشكّلت مفاهيم لدى فئات كبيرة في البلاد الإسلاميّة، لن تُنتزع من عقول الناس انتزاعا بمجرّد الإعلان عن دولة الخلافة الراشدة، لذلك فالسياسة الإعلامية الإسلامية ستجد عراقيل وصعوبات في بادئ الأمر لكسر الرواسب المتصلّبة من وطنية وقومية وتبعية وانهزاميّة، وعليه فإن دولة الخلافة ستعوّل على الإعلام في التأثير على الرأي العام وخلق تصورات ومقاييس ورؤى جديدة تشمل ترسيخ العقيدة الإسلامية والأحكام الشرعية، وتقوية الرابطة العقدية والرابط بين الحاكم والرعية وحث المسلمين على الجهاد ونشر الإسلام في الخارج، وهذا يحتاج إلى جهود مكثفة ومركّزة ومحترفة.
أما الإعلام الغربي فلن يقف مكتوف الأيدي أمام ضديده الإسلامي، وعليه فإن سياسة الإعلام في دولة الخلافة ستكون يقظة متربّصة لمؤامراته التي يحاول الغرب تسريبها للأمة في الداخل أو التشويش على وصول الإسلام في الخارج، من خلال ابتكار تقنيات وأجهزة متطورة تراقب الاختراق الإعلامي والتمكّن من امتلاك أقمار صناعية خاصة بالدولة واختراع محرّكات بحث مستقلّة وشبكات معلوماتيّة خاصة وبرامج متطورة ضد القرصنة مع إعداد الخطط والأساليب اللازمة لعرض الإسلام في الخارج ومخاطبة غير المسلمين، وهذا ما يدفع دولة الخلافة لحماية جهازها بالإمكانيات المادية واللوجيستية وتوفير طواقم إعلامية محترفة وعلى مستوى عال من العلم والوعي.
وأخيرا وليس آخرا، هذا "بعض" ممّا يمكننا الحديث فيه عن سياسة الإعلام في دولة الخلافة لندرك عظمة هذا الدين وسَعة قواعده وشموليّة أحكامه التي تفصّل وتؤصّل لكل مشاكل الناس وتقدّم المعالجات على مستوى فردي أو جماعي أو دولي بشكل يُحقق الانضباط والاستقرار في حياتنا الدنيا والمواءمة مع فكرة الخلق وفكرة البعث والحساب.
نسأل الله تعالى أن يقرّ أعيننا بسياسة رشيدة في ظل الخلافة على منهاج النبوّة حتى نرى ونشهد على إعلام نزيه وصادق ومتبنّ لقضايا هذه الأمة ونشفي صدورنا من هذا الإعلام الفاسد الحاقد على الإسلام والمسلمين.
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
نسرين بوظافري