الأحد، 20 صَفر 1446هـ| 2024/08/25م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

تجديد الخطاب الديني، ونقض نسبية المعرفة!‏

بسم الله الرحمن الرحيم

 

نظرًا لما بتنا نشهده من تعالي الأصوات الممنهجة والموجهة للتشكيك بهذا الدين، وطبيعة هذه الأمة، والمطالِبة بتجديد ‏الخطاب الديني والتي وصلت حدًا من الوقاحة تجاوز كل الحدود في دعوة عليّةِ القوم في بعض بلادنا الإسلامية بثورة على ‏النصوص الدينية...!!‏


إن دعوة تجديد الخطاب الديني إنما هي دعوة خبيثة تدَّعي باطلًا بأنها تستند إلى مفهوم الحديث «إن الله يبعث على ‏رأس كل مائة عام رجلًا يجدد للناس أمر دينهم»... وهم في استدلالهم قد جانبوا الصواب عمدًا وترصدًا للإضلال، حيث ‏التجديد المقصود بالنص وباللغة هو إعادة الشيء لأصله وحاله الأول... وأما دعوة تجديد الخطاب الديني فهي دعوة لتبديل ‏الدين وتغييره بما يتناسب مع إملاءات الحضارة الغربية وجعل إرضاء الغرب في الخطاب والطرح والمعالجات هو المقياس.‏


وما كان لأصحاب هذه الدعوة أن يتجرؤوا على ما أقدموا عليه لولا ارتكازهم على منهجية فكرية تتمثل بنظرية "نسبية ‏المعرفة" أي فكرة تعدد الأفهام، وتعدد الحقائق، وما هو بالنسبة لشخص ما حقيقة، فهو بالنسبة لآخر ليس بحقيقة، وبالتالي ‏لا يصح أن تعتدَّ برأيك كثيرًا، ولا يجوز أن تعول الكثير على مجهودك بالبحث عن الحقيقة؛ لأنه بشكل عام لا يوجد حقيقة ‏مطلقة بل إنما الحقيقة والأفهام نسبية!‏


ولما في هذه الفكرة "نسبية المعرفة" من مكر وتدليس على العقول والأذهان ومغالطة صريحة بالخلط بين حقيقة تعدد ‏الأفهام، وفرية نسبية الحقائق، أحببت أن ألقي عليها بعض الأضواء بتفصيلها، وملاحقة حدودها، ومدى مطابقتها العملية ‏للواقع بدقة.‏


فكما ذكرنا في تعريفنا لهذه الفكرة، نجد أنهم يسقطونها على أمرين: أولًا على نسبية الأفهام، وثانيًا على نسبية الحقائق؛ ‏أما نسبية الأفهام... والفهم هو القدرة على تمييز الأشياء والأفعال والأفكار والحكم عليها... أي القدرة على التفكير... ‏والأفهام والأفكار إما أن تكون موروثة، وإما أن تكون نتيجة للعملية الفكرية، أي نتيجة لنقل صورة الواقع عبر الحواس إلى ‏الدماغ الصالح للربط مع وجود المعلومات السابقة.‏


والفهم البشري طبيعي أن يتفاوت وأن يختلف باختلاف القدرات الحسية التي تمكن من الإحاطة بالواقع ونسبة الإحاطة، ‏واختلاف المخزون المعرفي والمعلوماتي، والصفاء الذهني أو تشتته، واختلاف القدرات على الربط والضبط الموهوبة لكل إنسان أو ‏التي يسعى لتنميتها. ولكن الاختلاف في الفهم والنسبية فيه تكون في معرفة ماهية وتفاصيل الأشياء... لا في معرفة وتحديد ‏وجود الشيء أو عدم وجوده!‏


أما نسبية الحقائق، فهنا يجب أن يكون تعريفًا واضحًا متفقًا عليه لواقع الحقيقة... ومما لا شك فيه ولا خلاف عليه أن ‏الحقيقة عند كل العقلاء هي مطابقة الفكرة للواقع...! أي أن الحكم الذي تم إصداره على واقع معين... والفهم الذي تم ‏التوصل إليه بخصوص هذا الواقع... يصبح هذا الفهم وهذه الفكرة أو هذا الحكم حقيقة، أي تتحول هذه الفكرة لحقيقة في ‏حال واحدة، وهي انطباقها على الواقع...! وهنا أقول حالة واحدة فقط هي التي تتحول الفكرة أو الفهم فيها إلى حقيقة وهي ‏في حال انطباقها على الواقع المدرك المحسوس... أو المحسوس أثره!! وبالرغم من أن الواقع على نوعين: إما مادي محسوس هو ‏أو أثره، وإما واقع فكري حسي أو نصي... وفي كلا النوعين هو واقع واحد، حتى وإن كان في الواقع الفكري سواء الحسي ‏الشعوري، أو حتى النصي الذي قد يحمل وجوها عدة لفهمه... إلا أنه في النهاية هو واقع واحد. ومهما تعددت الأفهام، فلا ‏ينطبق على الواقع إلا فهم واحد. وعليه يتضح لنا أن الحقيقة واحدة لأن الواقع واحد لا غير!! أما اعتبار تعدد الأفهام حقائق ‏فهو أمر خارج عن ذات الواقع "الذي يقع عليه البحث"، وإنما مرد هذا اللَّبس محصور في أحد أمرين أو كليهما:‏


أولًا: قصور أركان العملية الفكرية سواء في "ضعف في الحواس الناقلة لصورة الواقع للدماغ"، أو في "عدم توافر معلومات ‏سابقة كافية فيما يخص موضوع الواقع المبحوث"، أو خلل "هلوسات" وضعف في القدرات الذهنية للربط بين المعلومات!‏


ثانيًا: عوامل خارجة عن ذات العملية الفكرية الموصلة لذات الفهم...! أي عوامل تحرف العملية العقلية للبحث والفهم ‏عن مسارها الطبيعي الموصل للنتيجة والفهم المطابق للواقع، أي عوامل خارجة عن ذات العملية الموصلة للفهم تمنع انطباق ‏الفهم على الواقع، وبالتالي يمنع هذه الفكرة، وهذا الفهم عن أن يصبح حقيقة.‏


ومن هذه العوامل الخارجة عن ذات الفهم والمحرفة للنتيجة النهائية للعملية الفكرية، وأبرز هذه العوامل وقد يكون أُس هذه ‏العوامل هو وضع نتيجة مسبقة قبل البدء بالبحث والتفكر، والتقيد والإصرار على هذه النتيجة مهما كانت نتيجة العملية ‏الفكرية... أي اللاموضوعية في البحث..!!! ومن أسباب وجود اللاموضوعية هذه قد يكون الكبر أو الدجل، أو النصب، أو ‏الاحتيال، أو الشعوذة، أو النعرة العصبية، أو حتى اللامبالاة، أو الخوف أو الكسل!! وبذلك يبطل اعتبار تعدد الأفهام دليلًا ‏على تعدد الحقائق ونسبيتها، لارتباط الحقيقة بالواقع ارتباطًا انطباقيًا، وطالما أن الواقع واحد، واحد كامل، فإن الحقيقة لا تكون ‏إلا واحدة، ولا تكون نسبية، وإنما تعدد الأفهام في هذه الحالة مؤشرٌ على ضرورة مراجعة الفهم، والعملية الفكرية الموصلة له، ‏حتى يتم انطباق الفهم على الواقع فيصبح الفهم وقتئذ حقيقة.‏


وهكذا نجد أن الحقيقة هي واحدة، وهي مطلقة؛ لأن الواقع واحد ومطلق، وليس نسبيًا في شيء من حيث وجوده وعدمه ‏وحتى تفاصيله!! قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا ‏جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾. [يونس: 76-77]‏


وبذلك بقي في جعبتنا أمر لا بد أن يُصدح به وهو يخص تناقض حجة القائلين بهذه القاعدة والمنظرين لها والجاعلين ‏نسبية المعرفة والحقيقة أساسًا لهم في آلية الفكر والتفكير ومحاكمة الآخر - أفكاره ويقينه بها -!!! فمما لا شك فيه أن ‏القائلين بهذا الرأي هم في حد ذاتهم بطرحهم وبمنهجيتهم هذه يخالفون فحوى فكرتهم...!! بحيث إن قولهم هذا هو في حد ‏ذاته تعامل مع الفكرة على أساس أنها حقيقة مطلقة، يبتنى عليها ويدعى لها، وما عداها باطل ينكر ولا يقبل!!! وهذا هو عين ‏تناقض حجية فكرة نسبية الحقيقة، عندما يكون القائل بها يتعامل مع هذه الفكرة على أساس كونها حقيقة مطلقة! ولسان ‏حاله لا يرى آلية في البحث والتفكير صحيحة (أي لا يرى الحق) إلا ما ذهب إليه هو بهذه الفكرة.‏


أضف إلى ذلك مسألة وهي لو قلنا أن قولهم قصدوا به تعدد الفهم واستحالة وجود فهم ينطبق على الواقع بشكل كلي ‏بحيث يكون الفهم نسبياً للواقع وبالتالي الحقيقة عندهم نسبية على أساس ضعف قدراتهم في تحقيق فهم كامل للواقع!! إذًا ‏يكون الرد على من أقر بضعف قدراته الذهنية الموصلة لفهم كامل للواقع أن يلجأ لمن عنده القدرة على البحث بجد وجدية عن ‏الفهم الكامل المطابق للواقع، ولا يضع نفسه موضع المنظر عن جهل هو مقر به!! بل عليه التواضع لمن يعلم ويسأل عما ‏أشكل عليه فهمه ويتبع الحق فور التوصل إليه. قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقّ قُلْ اللَّه يَهْدِي لِلْحَقِّ ‏أفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾. [يونس: 35]‏


وفي خاتمة محاور البحث وجب تبيان ما قد يشتبه فيه فيما يخص نظرية نسبية الحقائق والاختلاف في مذاهب فهم ‏النصوص الشرعية في التشريع الإسلامي، مما قد يفهم من الإقرار بصحة اختلاف المذاهب تأكيدًا ودلالةً على صحة النظرية، ‏والآلية الفكرية المتمثلة بنسبية الحقائق.‏


إن النصوص الشرعية إما أن تكون قطعية لا تفهم إلا على وجه واحد، أو ظنية تكون حمالة أوجه في الفهم... والظنية ‏تكون إما لظنية ثبوت النص أو لظنية دلالته اللغوية... وهذه النصوص الشرعية عامة يؤخذ منها لما هو عقيدة متعلق بتصديق ‏جازم لإثبات أو لنفي خبر ما، وكذلك لما هو حكم شرعي متعلق بأفعال العباد... أما العقيدة فلا تؤخذ إلا من النصوص ‏القطعية التي لا تُفهِم إلا معنىً واحدًا، وتكون بانطباق هذا المعنى على الواقع حقيقة قطعية وعقيدة.‏


أما الأحكام الشرعية فتؤخذ من نصوص الوحي سواء القطعية منها أو الظنية، ويكون الفهم الشرعي للنص الظني ضمن ‏ضوابط وقواعد الشرع واللغة، وهي شروط يجب تحققها فيمن يخوض في هذا الغمار "أي المجتهد" وتكون صحة الفهم محددة ‏بالتقيد بشروط الاجتهاد، ونصوص الوحي وتحقيق مناط الحكم "أي الواقع الذي نزل له الحكم"، وقد جعل الشرع للعباد أن ‏يتعبدوا الله بفهم المجتهد، وتكون صحة الاجتهاد هي معيار القبول أو الرفض للاختلاف في الأفهام والمذاهب... وهذا موضوع ‏لا علاقة له بنسبية الحقيقة حيث إن الحقيقة واحدة لكل مسألة، وعلمها عند الله وحده، ولكن ما يعنينا هو صحة الاجتهاد ‏الذي هو لنا الحق باعتبار انطباق فهم المذهب والمجتهد على واقع الشروط الشرعية في الاجتهاد والاستنباط، لا في ظنية الحكم ‏المستنبط الذي لا يطلب فيه إلا غلبة الظن في الفهم. «إنّ المجتهد إذا أصاب له أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد».‏


وختامًا نلخص المقال بخلاصة جلية وهي: أن الاحتجاج بنسبية المعرفة مغالطة خبيثة، وخديعة مقيتة لتمرير أُكذوبة نسبية ‏الحقيقة المعطِّلة للعقل، والفاتحة لباب الإجرام، وفرد العضلات بدل الاحتكام للفكر، بل هي دعوة لنبذ العقل بالإحجام عن ‏التفكير، ورد الخصومات إلى شريعة الغاب، وتأصيل وترسيخ لوحشية وإرهاب فكرة البقاء للأقوى.‏


وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين

 

 


كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
‏ الأستاذ: ياسر أبو خليل - الأردن

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع