الأربعاء، 23 صَفر 1446هـ| 2024/08/28م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
السياسة الأمريكية: من سياسة الهيمنة إلى سياسة جنون العظمة إلى سياسة العجز! ج2

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

السياسة الأمريكية: من سياسة الهيمنة إلى سياسة جنون العظمة إلى سياسة العجز!
القسم الثاني: معالم مرحلة العجز

 

 


في المقالة الأولى ركزنا على بيان مرحلة الهيمنة ومعالمها، ومرحلة جنون العظمة ومعالمها، والآن نبين معالم مرحلة العجز التي بدأت الولايات المتحدة الدخول فيها منذ محاولاتها الخروج من مستنقع أفغانستان، ومستنقع العراق.


وللتذكير بأهم معالم مرحلة الهيمنة:


أولا: المبادئ التي أعلنها الرؤساء الأمريكان، واحدا تلو الآخر باعتبار المصالح الحيوية لأمريكا، واستعدادها لخوض الحروب لتأمين تلك المصالح، مثل مبدأ أيزنهاور، ومبدأ كارتر، ومبدأ ريغان.


ثانيا: ربط قادة دول الخليج ومصر وأمثالهم وجيوشهم بأمريكا من خلال المصالح الاقتصادية التي تضمن الاستثمارات الأمريكية في تلك البلاد، وربط مبيعات النفط بالدولار، وفتح البلاد للشركات عابرة القارات، والتخويف بمصير الشاه.


ثالثا: ترجمة تلك المبادئ على أرض الواقع بإعادة تنظيم حلف الأطلسي وأخذ مكان الريادة فيه وتجنيد مائة ألف من القوات الأمريكية للتدخل السريع، ومن ثم ترجمت مرحلة الهيمنة على أرض الواقع في حرب الخليج الثانية وحرب الصومال.


أما مرحلة جنون العظمة، فقد كانت أهم ملامحها:


أولا: سياسة احتقار العملاء من رؤساء الدول وجيوشهم، ولو كلف ذلك تعريتهم أمام شعوبهم.


ثانيا: حرب العراق وحصاره، وحرب أفغانستان، وما فيها من سياسات إبادة تذكر بالقرون الوسطى، واستعمال الأسلحة النووية في حرب العراق، حتى بلغت نسبة السرطانات حوالي 48 بالمائة في جنوب العراق نتيجة لذلك.


ثالثا: عدم الاكتراث بما يسمى الأمم المتحدة وخوض الحروب بموافقة الأمم أو بعدم موافقتهم، وعدم الاكتراث بما يسمى الشرعة الدولية.


رابعا: لعب دور الشرطي العالمي، وجعل العالم أحادي القطب.


معالم مرحلة العجز:


تتمثل قوة الدولة (أمريكا مثالاً) على الصعيد العالمي بمعالم منها: قدرتها على تغيير الموقف الدولي أو التحكم به، أو التأثير في السياسة الدولية، وقدرتها على نشر المبدأ الذي تعتنقه (فصل الدين عن الحياة، ونشر الديمقراطية)، ومقدار ما تجعل المبدأ فعالا في علاقاتها الدولية، وتتمثل بالنسبة للولايات المتحدة بقدرتها على فرض السيطرة السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية على الشعوب المغلوبة لاستغلالها، وقدرتها على منع خصومها من أن تكون لهم قوة قادرة على إزاحتها عن مركز القوة والهيمنة، وفتح المجال للشركات العابرة للقارات بالدخول لاستثمار واستغلال ثروات الشعوب والأمم وربط تلك الأمم اقتصاديا وسياسيا بالولايات المتحدة وفرض نمط أمريكا في العيش عليهم، وطمس حضارتهم وثقافتهم الذاتية.


ركزت فرنسا كثيرا على الاستعمار الثقافي لبسط الهيمنة على الدول التي استعمرتها، فاستغلت الاستعمار لنشر مبدئها، ودخلت في صراع حضاري حتى العظم مع الدول التي استعمرتها، فهل الحال هو نفسه بالنسبة لأمريكا؟


من معالم مرحلة العجز، وأول إرهاصات هذه المرحلة هي انفكاك المبدأ الرأسمالي (الفكرة) عن طريقة نشر عقيدته أي الاستعمار، فالمبدأ ليس هو العنصر الفعال في علاقات أمريكا الدولية، فبعد الانتقال من سياسة الهيمنة والتي كان المبدأ - الديمقراطية وفصل الدين عن الحياة - يلعب فيها دورا كبيرا، إلى مرحلة جنون العظمة، أضحت القبضة الحديدية هي الأداة الفعالة، وتأخر المبدأ كثيرا، ثم من بعد أضحى التركيز على الاستعمار نفسه واستغلال ثروات الشعوب ولم تُعنَ الولايات المتحدة بنشر العقيدة نفسها من خلال الاستعمار، أي لم تركز على نشر الديمقراطية وفصل الدين عن الحياة، إلا في إطار خدمة مصالح الشركات الإمبريالية العابرة للقارات وتأمين مصالحها، فإن كان من ضرورة سياسية - لا مبدئية - لإبرازه أبرزته وإلا أهملته.


أما ما نراه من تكالب على حماية العلمانية وقيمها والدعاية لها، ومحاربة القيم الإسلامية في العالم الإسلامي من قبل أمريكا، فيعود ذلك إلى حرص أمريكا على مصالحها خشية خروج المنطقة من دائرة نفوذها، فهي لا تسعى لحماية تلك القيم لأجل تلك القيم، وإنما لتضرب بها الحضارة الإسلامية ومحاولة المسلمين الانفكاك من التبعية لأمريكا.


فالحرب الأهلية في أوغندا ورواندا استمرت لسنوات، وراح ضحيتها مئات الآلاف من البشر، وكذلك أحداث زائير (الكونغو الديمقراطية) لم يظهر فيها إلا الجشع المادي، والصراع على النفوذ بين أوروبا وأمريكا. ولم تكن بريطانيا، ومن معها من حلفائها الأوروبيين وأمريكا، تلتفت إلى شيء في أفريقيا، إلا إلى المنافع المادية، وبذلك أصبح الاستعمار في أفريقيا أقرب إلى أن يكون غاية من أن يكون طريقة.(1)


ثم إن هذه المبادئ التي يروجون لها خرجت عن قيمها الإنسانية إلى أن تكون قيما إمبريالية، فحقيقة حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية وتشريع القوانين التي تحميها، ليس ذلك كله إلا في إطار نشر قيمٍ إمبرياليةٍ بشعةٍ.


فالأمريكان يغلفون دعواتهم بغلاف نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، مثل منع التعذيب والضرب والقتل وتحسين أمن الناس، هكذا في خطاباتهم التي يروجون بها لمبادئهم، ولكن المتعمق في فكرهم الليبرالي الذي يمثله منظرو البنك الدولي وصندوق النقد يدرك أن الحقوق يجب أن تتمحور حول الأسواق الحرة وسيادة القانون، من قِبَلِ الحكومات التي تُفْرَضُ من قِبَلِ الاحتلال، لا الحقوق الاجتماعية أو الانسانية، أو توفير الحاجات الاجتماعية، ففكرة حقوق الإنسان تتمحور في إطار ضرورات الإمبريالية الليبرالية والتجارة العالمية الحرة، وتشريع القوانين التي تخدمها.(2)


قال توماس فريدمان، كبير مراسلي الشئون السياسية في صحيفة النيويورك تايمز، "إن نصر أمريكا في الحرب الباردة كان نصرا لمجموعة من المبادئ السياسية والاقتصادية تقوم على الديمقراطية وحرية السوق" وفي النهاية سيفهم العالم أن "السوق الحر هو المستقبل، ذلك المستقبل الذي تمثل فيه أمريكا صمام الأمان والنموذج الذي يحتذى"(3)


إذن فالانفكاك واضح بين المبدأ وبين طريقته، فلم تعد الولايات المتحدة حريصة إلا على مصالح الشركات العابرة للقارات، وفتح الأسواق لها، وإقامة الحروب لتدمير البنى التحتية للدول باستعمال أسلحة تنتجها المصانع الأمريكية ثم فتح تلك البلاد أمام الشركات العابرة للقارات لإعادة إعمارها بأموال أهلها، لتصب المصلحة في الحالين في خدمة الاقتصاد الأمريكي، وجعلت كل قيمها ومبادئها التي تروج لها دوليا قائمة على أساس ضرورات الإمبريالية والتجارة العالمية الحرة التي تضمن مصالح الشركات العملاقة، فلم تعن بالقيم الإنسانية، لذلك تراها تزود السلاح لكيانات دموية - ككيان يهود، وكيان مصر - وتمنعه عن حركات تحررية، وتراها تضمن لبلطجيتها من شركات الحماية ومن قواتها الغازية التي تقتل بالجملة الحماية من الملاحقة القانونية، فهي تحتكم لشرعة الغاب.


نشر موقع البي بي سي العربي تقريرا حول تسريب موقع ويكي ليكس للوثائق الخاصة بالحرب العراقية، في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2010 "وقال موقع ويكيليكس في بيان له أن الوثائق التي تمتد من عام 2003 حتى عام 2009 تعرض بالتفصيل مقتل 66081 مدنيا في الحرب العراقية. وذكر ويكيليكس في بيانه: "توجد تقارير عن قتل مدنيين بشكل عشوائي عند نقاط تفتيش .. ولمعتقلين عراقيين يعذبون على يد قوات الائتلاف وعن جنود أمريكيين يفجرون مبانيَ مدنية بالكامل بسبب وجود متمرد واحد مشتبه به على السطح".


ومثال آخر نضربه وهو أنها تروج لصناديق الاقتراع في الانتخابات على أنها تمثل قمة الديمقراطية والغاية العظمى، فإذا ما جاءت هذه النتائج بإسلاميين للحكم ضربت بهذه القيمة الرئيسة من قيمها عرض الحائط!


وتعذيب أمريكا بيدها أو بيد 54 دولة المشتبه فيها فيما يسمى الإرهاب بأساليب وحشية، مثل الإيهام بالغرق، ومنها تعليق المعتقل بالسقف من رجليه وإلباسه حفاظا وإجباره بالتغوط على نفسه، وغير ذلك من الأساليب التي يندى لها الجبين، فإن فشلت سلمت المعتقل لدول عربية وأوروبية وغيرها، تتولى عنها التعذيب لتنتزع الاعترافات.


أما المعلم الثاني لدخول أمريكا مرحلة العجز فهو ضعف قدرتها على فرض السيطرة السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية على الشعوب المغلوبة لاستغلالها.


حين نقول بأن أمريكا دخلت مرحلة العجز، فإن ذلك لا يعني أنها هبطت عن مكان الدولة الأولى في العالم، ولا أنها آيلة للسقوط الذاتي عن قريب، لكننا نضع علامة استفهام كبيرة على قدرتها على فرض سياساتها، وضمان مصالحها، وهذا يعني أنها: غير قادرة على إدارة الأزمات بشكل فعال يضمن مصالحها، فبعد أن كانت تهوي بعصاها الغليظة تضرب بها كل من يقترب من مصالحها دخلت في مرحلة التخبط والضياع، ومثال ذلك سوريا، فهي لم تستطع فرض حل ولا رسم خطة واضحة المعالم قابلة للتنفيذ، ولا استمالة عملاء لها قادرين على رسم معالم ما بعد النظام الحالي، وهي تعلم أن خروج سوريا من قبضتها يتبعه تهديد واضح لمصالحها في الشرق الأوسط كله، ومثال مصر واضح المعالم، فهي تتخبط بين الترويج للديمقراطية ثم نقضِها، وتضطر لدعم البطش والدكتاتورية والفساد، علنا، وتغض الطرف عن مجازر رابعة، وسجن الرئيس المنتخب "ديمقراطيا"، وأحكام الإعدام بالجملة، وسياسة كتم الأنفاس وإزهاق الأرواح، بما يتناقض مع ما كان من المفروض أن يكون مبادئها وحقوق الإنسان والديمقراطية وصناديق الانتخاب، التي صدعت رؤوس العالم بالترويج لها - دجلا ونفاقا -، ومثل هذه الصورة تجدها في العراق.


أما على صعيد الناحية العسكرية، فإن أمريكا اليوم غير قادرة على تجنيد قوات كافية للدخول في حرب جديدة بعد هزيمتها المنكرة في أفغانستان وغرقها في مستنقع العراق، وما أفضيا إلى دخول أمريكا في وهن اقتصادي ومديونية عالية، وكان الرئيس أوباما قد علق ضمن خطاب له أمام أكاديمية ويست بوينت العسكرية في نيويورك قائلا «لا بد لنا من تطوير استراتيجية تتلاءم ومواجهة ظروف التهديد الجديد، استراتيجية تسمح لنا بالتعامل مع هذه التهديدات من دون إرسال قواتنا أو إثارة حنق السكان المحليين». وفي هذا السياق، اقترح الرئيس أوباما منحة شراكة دولية مع الولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب بقيمة 5 مليارات دولار بغية تحقيق ما أسماه «تسهيل الشراكة مع الدول على الخطوط الأمامية».


بعد ثلاثة عشر عاما من الحرب على أفغانستان، تكبدت الولايات المتحدة من عشرة إلى خمسة عشر مليار دولار شهريا جراء هذه الحرب لدعم وجودها وجهدها الحربي، وتقدر الحسبة بالمعدل بواقع عشرة ملايين وسبعمائة ألف دولار كل ساعة، وساعة كتابة هذه المقالة زادت التكلفة عن سبعمائة وثمانية وأربعين بليون دولار، ومائتين وأربعين مليون دولار، أما الحرب على العراق فقد كلفت أمريكا بحسب بعض الدراسات أكثر من تريليونيْ دولار، وأما العداد الذي يرصد كلفة هذه الحرب لحظة بلحظة فيضع رقما يقارب الثمانمائة والتسعة عشر بليون دولار، وأما إجمالي تكلفة ما يسمى الحرب على "الإرهاب" منذ 2001 فقد بلغت لهذه اللحظة واحد تريليون وستمائة وثلاثة بليون دولار.


الرأي العام الأمريكي لا يدعم حربا جديدة تقوم بها أمريكا، واقتصاد أمريكا لا يسمح لها بحرب جديدة! كيف وقد استعانت من قبل في حرب العراق بالمرتزقة، وبمن منَّتهم بالجنسية الأمريكية، ثم تركتهم بعد أن أتوها معاقين أو قتلى، تركتهم وتركت أهليهم بلا رعاية، إنها مرحلة العجز رغم أنف أمريكا، إنها هزيمة أمريكا أمام الأمة الإسلامية!


ثم أقامت الولايات المتحدة حلفها الصليبي لحرب العالم الإسلامي بالكيانات الكرتونية وجيوشها، حتى لا تنغمس أمريكا في حرب أرضية من جديد.


وهذا يقودنا للمعلم الثالث في معالم مرحلة العجز التي بدأت تنخر في جسم الولايات المتحدة، وهي وهن الاقتصاد الأمريكي والعالمي، وهشاشته، وسرعة دخوله في ركود إثر ركود، وفي مآزق تتبعها مآزق.


إن ما يبقي الولايات المتحدة في مكانتها تلك إنما هو ارتباط الاقتصاد العالمي باقتصادها، وعدم قدرة أي كيان أن يقعد مكانها في تلك المكانة، وهي الآن في مرحلة العجز، أشبه ما تكون بميت واقف على قدميه، ينتظر من يركله ليدخله القبر، فما أن تقوم دولة الخلافة الإسلامية الراشدة الثانية على منهاج النبوة، وتستخلص البلاد من قبضة أمريكا، حتى تهتز أركان النظام العالمي وتهوي أمريكا في هاوية سحيقة.

 


كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
ثائر سلامة - أبو مالك

 

 


(1)مفاهيم سياسية لحزب التحرير الطبعة الرابعة 2005


(2)الإمبرياليون الجدد أيديولوجيات الإمبراطورية كولن مويرز ص 138


(3)النظام العالمي القديم والجديد لنعوم تشومسكي ص 17

 

 

p1

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع