الثلاثاء، 22 صَفر 1446هـ| 2024/08/27م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

المسألة الغربية وجذور الكارثة الإنسانية
الليبرالية الاقتصادية

 


لم يكن بُد وقد شرد الغرب بالبشرية عن ربها ومنهجه وهديه، وسلبها إيمانها وعبَّدَها لطاغوته، واتخذ لها من هوى ماديته صنما معبودا من دون الله، موهما إياها أنها في عصر العلم وفي دهر القانون، وجمع لها الشرور كلها في حزمة واحدة وقذف بها في روعها، وصير حياتها تيها يفضي إلى تيه وظلمات بعضها فوق بعض، لم يكن بد من أن ترى في الحياة نقيض الحياة هوة قبر لا تُسد، ومادة آلام وأحزان وضنك عيش واضطراب وحيرة وبؤس لا تُحد.


ثم في غيه وضلاله استخلص للبشرية من شروره شرا مقطرا، وجعل لها من ضرائب اللؤم وغرائز السوء طرائق عيش، فكان الإسراف في جمع المال والتكالب عليه، والغلو في الإدخار والإغراق في الكنز، والنهب والجشع والشره والخديعة والاحتيال والقساوة والبخل، والغبن والاحتكار وغمط الحقوق وسرقة الجهود والاستعمار وطمع في كل شيء حتى في الطمع، وكل هاته الرذائل جعل منها شرائع وأنظمة للجمع والصرف وأنظمة اقتصاد بها جمع وعدد وهو في الرذائل يتعدد، وسماها لشيعته ومريديه ليبرالية اقتصادية وإن شئت فقل الاقتصاد الحر، المتحرر من قيود الأرض والسماء!


ما كان الغرب في البشرية إلا حالة مَرَضِية ينكسر عندها الرأي ويُبتلى بها الحس، وما كانت ليبراليته الاقتصادية واقتصاده الحر إلا ذلك الورم الخبيث الذي ينخر أحشاءه، وما كانت إلا فلسفة للموت ونظام افتراس وقتل واسما آخَر للقبر.


ترجم الغرب حقيقة الشر والمعنى الحقيقي لتعفن الطباع وفساد الأخلاق، في جعله حيازة الدنيا حقا مفردا لحفنة من رأسمالييه وحكرا عليهم، فكانوا بحق في البشرية مادة فساد وإفساد وهلاك وإهلاك وعين اليقين لآيات الذكر الحكيم: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾. ولقد استبدل الغرب بطبقة العائلات الإقطاعية طبقة أصحاب الشركات والبنوك، ونظر وفلسف ما كان حبا للمال جما وجشعا وطمعا وما في حكمها من الرذائل، وصاغها مفاهيم فلسفية وقوانين وأنظمة حياة، ويعتبر فيلسوفه آدم سميث وكتابه ثروة الأمم المرجع الرئيس للاقتصاد السياسي الليبرالي، والإطار النظري لتحرير الاقتصاد من قيود الأخلاق والدول والمؤسسات.


وهكذا تم التفلسف والتنظير لهذا المقت والظلم في استئثار حفنة من الرأسماليين بالثروة كل الثروة، تحت ذريعة قضاء مشيئة ميكانيكا السوق وقدر المنافسة، في جعل الأرض بكل خيراتها ما ظهر منها وما بطن لا تكفي أهلها، بعدما صير اقتصاد السوق الحر الثروة كل الثروة دولة بين رأسمالييه ومترفيه وجعل الأرض مادة لهم، حتى بات السفيه المتخم منهم في بذخه ينفق في شهوة ولذة يوم قوت بلد!


وهكذا أصبح اقتصاد السوق المنظم للعلاقات والمعاملات الإنسانية، وهذه السوق لا تكترث بالإنسان وخصوصيته وحاجاته ومشكلته، ولا بالغايات ولا بالقيم ولا بالأخلاق، فغاية السوق الربح. والصراع في اصطلاحه المؤدلج صار منافسة وهو المعيار الوحيد للحسم، حرب الكل ضد الكل، تحت منطق النظرية الليبرالية "الإنسان ذئب أخيه الإنسان" و"البقاء للأقوى"، وهنا انتهت الليبرالية الاقتصادية من المشكلة الإنسانية فصنعت لها غابة يفترس الأقوى فيها الضعيف.


ثم طور رأسماليو الغرب آليات لتسخير العالم كله لمصالحهم، فكان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وسياسات العولمة والشراكة والخوصصة والاستثمار الأجنبي والاقتصاد الرقمي. وكانت بحق أدوات استعمار رخوة وعملها للمدى البعيد، مكنت للبنوك الرأسمالية والشركات الكبرى الاستيلاء على ثروات الشعوب والسيطرة على القطاعات الحيوية وربط محكم لأصحاب المال المحليين بعجلة أرباح الرأسماليين الغربيين.


وفي سعيهم لتحطيم كل المكابح والفرامل أمام نهبهم وسرقتهم، تفلسفوا وزعموا أن الحكومات مؤسسات غير كفؤة ولا بد من تقييدها وتجريدها من سلطانها كي لا تلحق ضررا بالسوق الحر، وهكذا أضحت هذه الحكومات جزءاً من إدارة الشركات الكبرى وحكامها عملاء موظفون في التسويق العالمي لهكذا نهب. فبات عمل الحكام العملاء وحكوماتهم الوظيفية تحويل ثروات وأموال الشعوب أرصدة وأرباحا في حسابات الرأسماليين الغربيين، وحماية الأسواق حكرا لهم، وإعفاؤهم من الجمارك والضرائب والتبعات القانونية، وتوفير جيوش العبيد الكادحين بأبخس الأثمان، وتهيئة المكاتب والمعامل والمصانع والمرافق من أموال دافعي الضرائب المحليين بحجة تشجيع وتيسير الاستثمار، وبات الحكام العملاء وحكوماتهم الوظيفية هم المدافع الأول عن مصالح الرأسماليين الغربيين وبنوكهم وشركاتهم.


بل في اقتصاد السوق المعولم تبدو الحاجة الملحة والأهمية القصوى للحكومات الوظيفية والساسة العملاء، فالعولمة ليس كما يُزعم توسع للأسواق الحرة العابرة للحدود في صيرورة طبيعية، بل العولمة هي نتاج سياسات يفرضها ويمليها رأسماليو الغرب عبر صفقات تجارية واتفاقيات تحقق مصالحهم، بتواطئ مع الحكام العملاء ورجال الأعمال المحليين الانتهازيين للهيمنة على الأسواق المحلية.


وكي تُحكم الليبرالية الاقتصادية متمثلة في بنوكها الرأسمالية وشركاتها الكبرى قبضتها الحديدية على الاقتصاد العالمي، وظفت جيشا من المرتزقة من الإعلام الممول والخاضع للشركات الكبرى والبنوك، والمثقفين والأكادميين المأجورين وأساتذة الفوضى، عن طريق حشد إعلامي هائل ودجل فكري مكثف، لكي يطبعوا في أذهان الناس أن السبيل الوحيد للتنمية والرفاه هو الحرص على بقاء الغابة الرأسمالية، وأن مصلحة الرأسمالي في نهب ثرواتهم وسرقة كدهم وجهودهم هو تحقيق لمصلحتهم العامة.


ونكاية بالعقول وكذبا على الحقيقة، جعلوا هذا الوضع المأساوي والحال الكارثي الذي لا يطاق يبدو منطقيا وكريما ورشيدا وضروريا بل مرغوبا فيه بالضرورة، واستحدث له قاموسه الخاص وأصبح في عرف الحكام العملاء وحكوماتهم الوظيفية حكما رشيدا وحكامة جيدة، وتنمية مستدامة، واستثمارا أجنبيا، وخلقا لفرص الشغل، وانفتاحا اقتصاديا، وشراكة. وعلى شاكلتها من مفردات قاموس الدجل الرأسمالي.


بينما الحقيقة هي ما شهد به شاهد من أهلها، ففي سنة 1993 كتب جيمس مورغان بجريدة فايننشال تايمز ما يلي: "إن انهيار المعسكر السوفياتي قد ترك المجال شاغرا أمام صندوق النقد الدولي ومجموعة السبع الكبار للتحكم في العالم وخلق مرحلة امبريالية جديدة...". هي الغابة والتوحش الرأسمالي وكل حديث غير ذلك هو خارج النسق والسياق.


إن ثمرة قرنين قاسيين من ليبرالية الغرب الاقتصادية كانت إلى أبعد الحدود وأقصى المسافات قاتمة مظلمة ظالمة ملؤها الجور والتوحش، اقترف فيها الغرب أبشع وأشنع الجنايات في حق البشرية يكفيه سبة الدهر ضحايا استعماره، حول حياة البشرية إلى جحيم مادته الفقر والحرمان والحرب والقتل والأزمات الطاحنة الدائمة، ثمنا لترف شرذمة رأسمالييه ونماء أرباحهم وثرواتهم التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشر.


فحسب تقرير منظمة أوكسفام لسنة 2018 واستنادا إلى بيانات مجلة فوربس ومصرف كريدي سويس، فإن 26 شخصا باتوا يملكون ما يعادل أموال 3.8 مليار إنسان، وأوضح التقرير أن ثرواتهم زادت بمقدار 900 مليار دولار عن سنة 2017. وأشارت المنظمة أنه فضلا عن زيادة ثرواتهم فهم ينعمون بنسب ضرائب هي الأدنى منذ عقود.


وحسب التقرير السنوي 2019 لمصرف كريدي سويس حول الثروة العالمية، علما أن هذا التقرير هو التحليل الأكثر شمولا وتوضيحا للثروة العالمية، فهو يحلل سنويا ثروة ملايين الأسر في جميع أنحاء العالم، حيث كشف التقرير أن 1% من الأغنياء يملكون 45% من جميع ثروات العالم.


في حين لا يجد 805 مليون إنسان قوت يومهم، و2.7 مليار إنسان لا يشبعون من جوع وعيشهم بين الكفاف والعوز، أما المحرومون المنبوذون في عطالتهم وبطالتهم فحسب تقرير منظمة العمل فقد ارتفع عدد العاطلين إلى 255 مليون إنسان لسنة 2020. فالغرب في إجرامه عدد قبور البشر بعدد نهب رأسمالييه، فحسب نشرة للإذاعة الألمانية من المتوقع وفاة أكثر من 132 مليون إنسان بسبب الجوع في العالم خلال سنة 2020.


ومن الدراسات المثيرة للاهتمام عن حجم الخراب والظلم الليبرالي في معقل الليبرالية الاقتصادية الولايات المتحدة الأمريكية، دراسة مدير دراسات الدخل في معهد جيروم ليفي في نيويورك الدكتور إدوارد وولف، من أن 85.5% من النمو في ثروة الولايات المتحدة بين عامي 1983 – 1997 أي خلال عقد ونصف، قد استولى عليها أغنى 1% من الأمريكيين، فرغم أن إجمالي الدخل الأمريكي قد ارتفع بشكل هائل في ذلك الوقت إلا أن 80% من العائلات الأمريكية لم تتلق شيئا، بينما ربحت طبقة 1% ما مقداره 2.9 تريليون دولار من أصل 3.5 تريليون دولار.


هذا غيض من فيض لحصاد الاقتصاد الليبرالي الغربي المشؤوم وثماره الخبيثة المتعفنة، فبه عمت البلوى وكانت الشقوة، ورُسم خط الدمار الذي تنحدر فيه البشرية إلى الهاوية، والمأساة أن الوحش الرأسمالي هو هو لا يزال ينفث دخان قلبه الأسود، بل يرى في الكارثة والأزمة القاتلة فرصة للغنيمة ومكسبا للربح، فوحوش الرأسمالية فاقت وحش الغاب، فما عهدنا في الغاب وحشا أكل الأرض فريسة وعلفا ليجيع بقية الوحش، ولكن وحوش الرأسمالية صنعتها وفعلتها!


ثم استتبعتها بالخزي كله، أن جعلت من المأساة الإنسانية التي صنعتها مادة وموردا للربح، فمن جحافل صنيعها من المحرومين والبؤساء والفقراء والمنبوذين مادة إنتاج واستهلاك لعصارة القذارة الرأسمالية. فقد أسفرت حرية السوق عن تجارة المخدرات لأن سوق الحرمان والفقر وما صاحبه من هم وغم كفيل باستحداث الحاجة الرأسمالية للمخدرات. حيث قدر عدد مدمني الحشيش المتمركزين في كل من أمريكا وأوروبا بـ300 مليون حشاش، وقدر حجم تجارة المخدرات بـ800 مليار دولار سنويا ما يمثل 8% من حجم التجارة العالمية. أما فاتورتها وضريبتها فنصف مليون من الوفيات من متعاطي المخدرات، وكشف تقرير لمنظمة الصحة العالمية عن وقوع أكثر من مليار إنسان في تعاطي المخدرات وإدمانها ويمثل الشباب الغالبية من ضحايا تعاطي المخدرات، وأضعاف هاته الأعداد من المصابين بالأمراض الفتاكة كالإيدز والالتهاب الكبدي والاضطرابات النفسية والسلوكية المصاحبة لتعاطي المخدرات من سرقة وقتل وعنف واغتصاب.


كما أسفرت حرية السوق عن أقبح وأشنع رذيلة، الاتجار في لحوم البشر فقد قدرت الدراسات الغربية حجم سوق صناعة وتجارة البغاء بـ1500 مليار دولار، وحسب برنامج الأمم المتحدة للتنمية فإن الناتج الخام لسوق البغاء عالميا تجاوز 1200 مليار سنويا ويمثل 15% من حجم التجارة العالمية. وهذا الحطام البشري من النساء اللواتي سحقتهن رأسمالية الغرب الكافرة وحولتهن إلى سلعة وبضاعة في سحق تام للكرامة الإنسانية قدر عددهن بـ50 مليون امرأة حُوِّلن إلى بغايا.


إن قرنين من رأسمالية الغرب الكافرة ومقت ليبراليتها الاقتصادية، ما كانت في البشرية إلا حقبة تدمير شاملة، وزادها ظلما وطغيانا غياب الإسلام عن قيادة العالم طيلة قرن، فاستفحلت المأساة البشرية وجعل الغرب من دماره نظاما عالميا وعولم الخراب باسم اقتصاد سوقه الحر، وصير الأرض وسهولها وهضابها وجبالها وظهرها وبطنها وأنهارها وبحارها ملكا ودولة لشرذمة 1% من رأسمالييه يعبثون في ترفهم وسفه تبذيرهم وبذخهم بثروة البشرية جمعاء، والأنكى أنه متى عبث وقامر وشاغب الصبية الشرذمة بالثروة وأفسدوا أحوال المال واستجلبوا الخسارة والكساد والإفلاس يتم تحويل خسائرهم لديون مستحقة على البؤساء والمحرومين من جحافل 99%.


إن كان لليبرالية الاقتصادية الغربية من فلسفة فهي الافتراس وما في حكمه، ومحصلتها النهائية البقاء للمفترس الأقوى.


ففي ضوء ما تكشف من أزمات مدمرة وحروب عدمية (الحربين العالميتين الغربيتين) والصراع والتطاحن الاستعماري الذي أباد شعوبا، والعنصرية المقيتة والأنانية والتفكك الأسري، ومعدلات الفقر والبطالة والعطالة وجيوش البؤساء والمحرومين، ومعدلات الجريمة والمخدرات والبغاء. وأرقام الموت لا الحياة، يكون الغرب قد حقق أشأم رؤاه وحول العالم إلى أرض يباب وجعل من العدمية واللامعنى فلسفة حياة. ومن أصدق من الله قيلا: ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾.


لقد صار حتما عليكم معشر المسلمين إقامة خلافة الإسلام الراشدة بوصفها فريضة شرعية وضرورة مصيرية إنسانية، لإنقاذ الإنسانية من هذا التيه السحيق لحضارة الغرب الكافرة وأنظمتها المدمرة، واستئناف حياتكم الإسلامية بوصفها الترجمة العملية للمنهج الرباني في الأرض، الذي لا عدل ولا رفاه ولا أمن إلا به، حتى لا تبقي الأرض في ظلها خيرا إلا أخرجته، ولا تبقي السماء من قطرها شيئا إلا أنزلته، ويلقي الإسلام بجرانه في الأرض.

 

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾.

 

#أقيموا_الخلافة
#ReturnTheKhilafah
#YenidenHilafet
#خلافت_کو_قائم_کرو

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مناجي محمد

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع