- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام يرفض كلاً من العلمانية واللاهوت السياسي
(مترجم)
في القرن العشرين، قام مفكر ألماني يدعى كارل شميت بترويج مصطلح "اللاهوت السياسي". وقد استُخدِم هذا المصطلح في الإشارة إلى العلاقة بين اللاهوت والسياسة. وكان كارل شميت يعتقد أن الدولة القومية تأسست في واقع الأمر باستخدام مفاهيم دينية من التقاليد النصرانية. وافترض شميت أن هذه المفاهيم نُقِلَت من التقاليد النصرانية وأُعيدت صياغتها فيما نسميه الآن السياسة العلمانية. وعلى حد تعبيره، "إن كل المفاهيم المهمة في النظرية الحديثة للدولة هي مفاهيم لاهوتية علمانية ليس فقط بسبب تطورها التاريخي - حيث نُقِلَت من اللاهوت [النصراني] إلى نظرية الدولة، حيث أصبح الإله القدير، على سبيل المثال، المشرع القدير - ولكن أيضاً بسبب بنيتها المنهجية، التي يعد الاعتراف بها ضرورياً للنظر في هذه المفاهيم من منظور اجتماعي".
بالنسبة لكارل شميت، تم نقل المفهوم اللاهوتي للإله القادر على كل شيء والذي لا يمكن التشكيك في سلطته إلى بنية الدولة القومية. الآن، كانت الدولة هي التي لا يمكن التشكيك في سلطتها. فكرة أخرى تم استخدامها تتعلق بكيفية أن وجود الله ليس عرضياً أو طارئاً، بل هو ضروري، لذلك أصبح وجود الدولة القومية ضرورياً. الآن، سواء كنت توافق على تحليل كارل شميت للدولة القومية أم لا، فإنه يثير سؤالاً مهماً؛ لماذا، في التقليد الفكري الغربي، يعتبر اللاهوت والسياسة شيئاً منفصلاً؟ ضمنياً في مناقشة كارل شميت هو الافتراض بأن اللاهوت والسياسة يقفان منفصلين وأن المفاهيم اللاهوتية كان لا بد من علمنتها أولاً حتى يمكن نقلها إلى الدولة القومية.
في كتابه "اثنان"، يناقش الفيلسوف الإيطالي روبرتو إسبوزيتو الصراع الكامن في عبارة "اللاهوت السياسي". ويوضح إسبوزيتو أن الارتباط بين السياسي واللاهوتي يعود إلى قرون مضت عندما التقت النصرانية بالقانون الروماني. وكان لكل منهما تأثير على الآخر، ما أعطانا ما نسميه اليوم التقليد الكاثوليكي الروماني. ومع ذلك، فإن هذا الدمج بين اللاهوتي البحت (أو النصرانية في الأساس) والقانون السياسي القانوني (أو القانون الروماني وحكم الدولة) لم يكن مثالياً. وكما يوضح إسبوزيتو، حاول اللاهوتي والسياسي دمج الآخر، وكان الصراع بينهما هو الذي حدد الكثير من التاريخ الغربي. يتجسد هذا الانقسام بين اللاهوت والسياسة في التقليد الغربي في كلمات الأناجيل: "أعطوا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله".
إن هذا الصراع بين اللاهوت والسياسة أصبح للأسف مشكلة تواجه المسلمين. فمع عصر الاستعمار جاء إلغاء دولة الخلافة، وتقسيم بلاد المسلمين إلى دول قومية. ومع صعود الدولة القومية جاء فرض العلمانية بالقوة، ما أدى إلى استبعاد الشريعة من المجال السياسي. ومع ذلك، فإن مثل هذا الفصل بين السياسة واللاهوت لا يمكن ترجمته إلى سياق إسلامي. وحتى استخدام كلمة "اللاهوت" يصبح إشكالياً عندما نحاول إيجاد ما يعادلها في التقاليد الإسلامية. إن الأكاديميين الغربيين يقارنون أحياناً بين "اللاهوت" وعلم الكلام. ومع ذلك، فإن هذا التكافؤ خاطئ. ففي التاريخ الإسلامي، كان علم الكلام، باعتباره تخصصاً فكرياً، متشابكاً بعمق مع العديد من العلوم الأخرى للمسلمين، مثل أصول الفقه، والتفسير، وشروح الحديث. وتستخدم هذه العلوم الأخيرة لاستنباط أحكام الشريعة من المصادر الإسلامية، وأهمها بالطبع القرآن والسنة. وهذه الأحكام هي التي تعلم المسلمين في كل شؤونهم، سواء أكانت خاصة أو عامة أو "سياسية".
إننا نجد في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله ﷺ كل الأمور، سواء أكانت عبادات أو حدوداً أو معاملات. إذن أين يمكن رسم الخط الفاصل بين اللاهوت والسياسة في التراث الإسلامي؟ بكل بساطة، لا يمكن ذلك. فالسياسة في الإسلام هي سياسة، أي رعاية شؤون الناس وفقاً للأحكام التي جاءنا الإسلام بها. وقد أوضح العالم والمؤرخ الشهير ابن خلدون هذه النقطة بوضوح شديد عندما كتب في مقدمته: "السياسة والملك هي كفالة الخلق وخلافة الله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم، فالسياسة والمُلْكُ هي كفالة للخلق وخلافة لله في العباد، لتنفيذ أحكامه فيهم، وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع"، لذلك فإن الغرض من القوانين الدينية هو جعل البشر يتبعون هذا المسار في جميع تعاملاتهم مع الله ومع إخوانهم من البشر.
إن التناقض بين المعتقدات النصرانية الغربية والإسلام يصبح أكثر وضوحاً عندما نقارن بين قول النصارى: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" وبين النصوص الإسلامية، والقرآن الكريم يوضح الأمر. قال الله سبحانه: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وهذه الآية تؤكد شمولية الإسلام.
لا يوجد جانب من جوانب حياتنا لا تشمله الشريعة الإسلامية. قال الله سبحانه: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾. وهذه الآية توضح أن المسلمين ملزمون باتباع الأحكام الإسلامية فقط.
قال الله سبحانه: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾. وهذه الآية تحذر المؤمنين مما سيحدث إذا اختاروا بحسب أهوائهم، متجاهلين جوانب من الإسلام.
إننا بوصفنا مسلمين لا بد أن نتخلى عن الرأي القائل بأن السياسة والدين متعارضان، بل إنهما متشابكان من خلال العقيدة الأهم، وهي ديننا. ونحن كمسلمين ندرك أن أي جهد يبذل في العلوم "الفقهية" أو في السياسة إنما يبذل بقصد تحقيق هدفنا، وهو طاعة الله سبحانه ورسوله ﷺ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
خليل مصعب – ولاية باكستان