- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2018/10/30 م
دنيا الوطن: أثر الأسرة في إعداد الأبناء لتحمّل المسؤوليّة
(كيف تعدّين أبناءك لتحمّل المسؤوليّة ؟ !)
بقلم: زينة الصامت
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فمن أهملَ تعليمَ ولدِهِ ما ينفعه، وَتَرَكَهَ سُدى، فقد أَساءَ إليه غايةَ الإساءة، وأكثرُ الأولادِ إِنّما جاء فسادُهُم من قِبَلِ الآباءِ وإهمالِهِم لهم، وتركِ تعليمِهِم فرائضَ الدّينِ وَسُنَنَه، فأضاعوها صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسِهِم ولم ينفعوا آباءَهُم كِبَارا " .
في عبارات موجزة بليغة لخّص ابن القيّم العمليّة التّربويّة التي على أساسها تبنى شخصيّة الأبناء ليصبحوا رجال المستقبل ونساءه. بهذه الكلمات الثّمينة بيّن ابن القيّم دور الأسرة في تربية أبنائها ومدى تأثيرها فيهم سلبا وإيجابا.
فهل يمكن للأسرة المسلمة أن تقوم بدورها تجاه أبنائها في ظلّ التّحدّيات الكبيرة التي تواجهها ؟ كيف لها أن تحول دون نيل الأعداء منها ومنهم ؟ كيف السّبيل لتصنع أجيالا عالية الهمّة تعمل لتعيد مجد هذه الأمّة ؟؟
لأنّه يعلم ما لدور الأسرة المسلمة في رعاية الأبناء وما لها من أثر في تكوين شخصيّتهم وتأثير ذلك على المجتمع عمل الغرب على توجيه سهامه نحوها حتّى يفكّكها ويضرب تماسكها فيحول دون بناء شخصيّات قويّة يمكن أن تهدّد مصالحه وتنذره بعودة الإسلام بعد أن خطا خطوات كبيرة في إبعاده عن الحياة وإقصائه عنها .
للأسرة دور هامّ في إعداد الأبناء حتّى يكونوا رجال المستقبل فهي المؤسّسة الأولى التي يترعرع فيها الطّفل وتتشكّل شخصيّته... ينمو ويتعلّم كيف يعتمد على نفسه !! يتعلّم كيف يكون مسؤولا !!
فتربية الأبناء وإعدادهم لبناء المستقبل مسؤوليّة الأسرة وواجبها. ولكنّ الواقع اليوم ينذر بكوارث كبيرة وبعاصفة هوجاء تستهدف هذه المؤسّسة وتسعى لتقويضها وتفكيكها . فنحن اليوم نرى الأمّ المسلمة التي ربّت محمد الفاتح ففتح القسطنطينية وعمره 22 سنة والتي أعدّت أسامة بن زيد فقاد جيش المسلمين وعمره 17 سنة و التي أرسلت الزّبير بن العوّام فكان أوّل من سلّ سيفه لله لنصر الإسلام ....هذه الأمّ المسلمة التي أعدّت من أمثال هؤلاء الكثير- وهي التي تعتبر العمود الفقريّ للأسرة - نراها اليوم ترفع الرّاية البيضاء معلنة فشلها في التّعامل مع أبنائها و تشكو صعوبات عديدة تعترضها في تربيتهم التّربية السّليمة التي تنشدها وتحوّلت بذلك تربية الأبناء إلى همّ يثقل كاهلها وكاهل الأب .
صار واقع الأسرة - بعد إلغاء الإسلام من حياتها - مؤلما يعاني الآباء وكذلك الأبناء من ازدواجيّة مقيتة : تائهون بين عقيدة يعتنقونها تحثّهم على طاعة الله و تدفع بهم نحو نيل رضاه وبين نظام لا ينبثق عنها هجين و دخيل عليها يشجّعهم على الفساد والضّلال ومعصية الله . فما تقوم به الأسرة وما تغرسه في الأبناء يأتي النّظام الفاسد ليرمي به أرضا ويصبح الآباء إمّا في صراع مع أبنائهم الذين جذبهم تيّار الواقع أو أنّ الأبناء يعيشون اغترابا بين أقرانهم فيحيون مضطربين بين ما تربّوا عليه وما يرونه في واقعهم . وما يزيد الأمر سوء تمكّن هذا النّظام من الأهل أيضا الذين تغلغلت فيهم مفاهيمه الفاسدة العقيمة فصاروا يربّون أبناءهم وفقها . فصار واقع الأسرة أسوأ فأسوأ .
إنّ تربية الأبناء شبيهة بالعناية بالزّرع: فالماء الطّيّب ينبت زرعاً طيّبـاً، أمّا الماء الفاسد فلن ينبت إلّا زرعاً فاسداً نكدا.. فمن الواجب أن يلمّ الآباء والأمّهات بالطريقة المثلى وبالأساليب الصّحيحة والصحّيّة التي تساعد في بناء شخصيّات أبنائهم حتّى يكونوا واثقين من أنفسهم أقوياء فاعلين فيفخرون بهم ويأملون فيهم خيرا سعداء بما جنت أيديهم وبما غرسوا فيهم من مفاهيم باعدت بينهم وبين الوقوع في الفساد والانحراف والضّياع ....
على الأب أن يجعل أكبر همّه تعليم أولاده سبيل النّجاة فيؤصّل فيهم عقيدتهم وما فيها من قيم رفيعة، وأخلاق حسنة لتكون لهم نبراسا يضيء لهم طريقهم فيسيروا فيه على هدى وبصيرة . عليه أن لا يكون منغمسا في العمل يكسب المال الوفير حتّى يطعمهم ويكسوهم ويغفل عن تربيتهم فتلك رعاية لا تختلف عن رعاية الراعي لقطيع الغنم أو البقر يوفّر لها المرعى والمأوى ...الوضع مختلف تماما إنّنا هنا نتحدّث عن إنسان نتحدّث عمّن كرّمه الله بالعقل ليتدبّر ويحيا كما أراد له الرّحمان يستنير بهداه يعبده ويسعى لنيل رضاه ...هذه هي التّربية وهذه مهمّة الأب وتشاركه فيها الأمّ التي حثّ الله المسلم أن يختارها نقيّة تقيّة لتغرس في نفوس الأبناء حبّه وطاعته وتربّيهم تربية صحيحة قويمة ! قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " إيّاكم وخضراء الدّمن . قالوا وما خضراء الدّمن يا رسول الله ؟ قال المرأة الحسناء في المنبت السّوء " وفي هذا حثّ على اختيار الزّوجة التي ترعرعت في بيئة صالحة ونشأت في بيت عُرِف بالشّرف والطّيب حتّى يكون الأبناء مفطورين على الأخلاق الإسلاميّة القويمة متطبّعين بعادات أصيلة حسنة يرضعونها من هذه الأمّ ويكتسبون منها الخصال والمكارم والفضائل !!...على الأب أن لا يتنصّل من هذه المهمّة العظيمة التي تبوّؤه مكانة كبيرة فيصون الأمانة ويحافظ عليها ممّا يحاك ضدّها من أعداء الإسلام . نعم !! أبناؤنا أمانة علينا الاستماتة في الحفاظ عليها والعمل على إنارة سبيلهم وتوضيح الخطّ المستقيم بين الخطوط المعوجّة الكثيرة والمتكاثرة التي يضعها أمامهم هذا النّظام الرّأسماليّ العلمانيّ الكافر والذي يعمل على اجتثاثهم من جذورهم الإسلاميّة ليغرس فيهم - عبر إعلامه ونظامه التّربويّ وسياسته - مفاهيمه الغربيّة الفاسدة التي تحيد بهم عن طريق الهدى ونيل رضا ربّ السّماء . يقول عليه أفضل الصّلاة والسّلام : "ألا كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته، فالإمام الذي على النّاس راع، وهو مسؤول عن رعيّته، والرّجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيّته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم " وكان صلى الله عليه وسلم يحثّ أصحابه بقوله :" ارجعوا إلى أهلِيكُم فأقيمُوا فيهم وَعَلِّمُوهم" ذلك أنّه كلّما كانت الأسرة متمسّكة بدينها وقيمه كلّما كان ذلك منعكسا على تربية الأطفال، لأنّها تسعى إلى أن يتشرّبوا هذه القيم الصّحيحة والسّليمة وتعمل على أن ينشؤوا ويترعرعوا عليها .
دروس في تربية الأبناء رائعة قيّمة وثمينة . نماذج كثيرة ذكرها لنا ربّنا في كتابه الكريم لعلّ أفضلها قصّة سيّدنا لقمان مع ابنه الذي نصحه طويلا فأوصاه بفعل الخيروالسعي له وحذّره من الشرّ وحثّه على اجتنابه ... " وإِذْ قَالَ لُقْمٰنُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسٰنَ بِوٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصٰلُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوٰلِدَيْكَ إِلَيَّ الْـمَصِيرُ* وَإِنْ جٰهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يٰٓبُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمٰوٰتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يٰٓبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلوٰةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوٰتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾[سورة لقمان:13-19] .
هي دروس تبيّن للآباء المنهج القويم والفريد في تربية الأبناء وأهمّها درس العقيدة التي بها وعليها تُبنى كلّ المفاهيم عن الحياة.... يقول ابن خلـدون ) : " اعلم أنّ تعليم الولدان للقرآن شعار الدّين أَخذَ به أهل الملّة ، ودرجـوا عليـه في جميع أمصارهم ، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائـده ، مـن آيـات القرآن وبعض متـون الأحـاديث ، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينـبني عليـه ما يحصل بعد من الملكات " . ( كتاب تاريخ ابن خلدون : ص 740 )
مسؤوليّة عظيمة..... هامّة وخطيرة تلك التي تضطلع بها الأسرة حتّى تربّي أبناءها ليغيّروا هذا الواقع الفاسد ولينهضوا بالأمّة. فهذه المسؤوليّة - كما أشارعبد الله ناصح علوان - هي " منبع الفضائل ، ومبعث الكمالات ، بل هي الرّكيزة الأساسـية لـدخول الولـد في حظــيرة الإيـمان ، وقنطـرة الإسـلام ، وبـدون هـذه التربيـة لا يـنهض الولـد بمسؤولية ، ولا يتّصف بأمانة ، ولا يعرف غاية ، ولا يتحقّق بمعنى الإنسانيّة الفاضـلة ، ولا يعمل لمثل أعلى ، وهدف نبيل ، بل يعيش عيشـة البهـائم ، لـيس لـه هــمّ سـوى أن يـسـدّ جوعـته ، ويـشـبع غـريـزته ، وينـطلق وراء الشّـهوات والملــذّات "
(تربية الأولاد في الإسلام )
في ظلّ الأسرة يكتسب الطّفل الحكم على الأشياء ويمتلك الخبرات و يتّخذ المواقف ، وللجوّ الأسري وما فيه من تفاهم واستقرار أو تشاحن وتباغض أثر كبير في شخصيّة الطّفل لتجعله متوازنا واثقا قويّا أو مضطربا متذبذبا ضعيفا فكلّما كانت علاقة الوالدين قائمة على المحبّة والتفاهم والاحترام كانت تربية الأبناء سليمة وصحيحة .
إنّ الأسرة هي من تقوم بإكساب الطّفل القِيَمَ و هي التي تغرس فيه الأخلاق وتبيّن له المفاهيم الصّحيحة فيَعْرِف بها الَحقَ والبَاطل ويفرّق بين الخير والشّرّ فتتحدّدُ بذلك عناصرُ شخصيّتِهِ. وهي التي تستطيع صناعة الأفراد الفاعلين المؤثّرين في المجتمع ، وإذا مـا تربّى الفرد على تحمّل المسؤولية ذلّلت أمامه الصّعاب وأقدم على تحمّل المسؤوليّات و تعوّد على مواجهة التحـدّيات التـي تعترضه وتعترض أسرته ومجتمعه .
فالأسرة إذا هي أساس استقرار المجتمع فبصلاحها يصلح كما أنّه بفسادها يفسد ويهدم قال الله جلّ ذكره: ﴿يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [سورة التحريم:6]،
فللأسرة في دين الله العظيم وظيفة راقية عالية مقدّسة و بعهدتها رسالة سامية عليها أن تؤدّيها وتبلّغها في المجتمع وفي الحياة عامّة حتّى تساهم في إعادة هذا الدّين على أيدي من تربّي ومن تصنع من الأجيال القادمة لذلك توالت عليها ضربات الأعداء لهدم صرحها، ونخر كيانها، ونقض أسسها ودعائمها. فعلى الآباء مضاعفة الجهود في تربية الأبناء تربية إسلاميّة ثابتة ثبات عقيدتها وقوّتها خاصّة في ظلّ هذه الرّياح العاتية التي هبّت من الغرب تحاول اجتثاث الأبناء من عقيدتهم وزعزعة ثوابتهم وإحلال مفاهيمه الفاسدة التي لا تمتّ لحضارتهم الإسلاميّة النقيّة .
ولذلك وجب على المسلمين جميعا حماية الأسرة المسلمة والذّود عنها وإنقاذها من ضياع محقّق وأكيد : ضياع العيش بنظام رأسماليّ كافر ...وأيّ ضياع أشدّ وأخطر من ضياع الخروج عن الإسلام والعيش دون أحكامه ؟ أيّ ضياع أشدّ من ضياع قلوب أبنائنا وفلذات أكبادنا وعقولهم فتحيا أجسادهم دون عقيدة توجّهها وتقودها وتعيش دون غاية عظيمة تبلّغهم رضوان ربّهم ؟ على المسلمين أن يبنوا أسرهم على مبادئ الإسلام ودعائمه وأسسه وعليهم أوّلا بأمّ الفروض التي تعيد الإسلام إلى حياتهم في ظلّ دولة تحضن الأحكام الشرعيّة وتطبّقها ويعيشون تحت راية التّوحيد وتحت إمرة إمام واحد ينفّذ فيهم شرع الله حتّى يحيوا في رغد وأمن ....
المصدر: دنيا الوطن