- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2020-04-29
جريدة الراية: مناعة القطيع؛ خيار ثقافي أم إجراء علمي في مواجهة كورونا؟
أثار مصطلح مناعة القطيع كثيرا من اللغط والجدل والتجاذب الفكري والسياسي. بداية وجب القول إن المصطلح والاستعارة في الفكر الفلسفي والسياسي ليسا البتة تركيبا لفظيا لجمالية اللغة والأسلوب ولا صقلا بيانيا ولا حتى إنشاء بلاغيا، بل للمصطلح المستعار واقع ذهني وسبب وغاية يسعى المفكر والفيلسوف والسياسي لترجمتها في التفكير والواقع.
والأخطر في هكذا استعارات هو ما تخفيه من مضامين فكرية وسياسية. ومصطلح مناعة القطيع الذي يعنينا هنا هو من هذا القبيل، فهو ليس مصطلحا مصمتا محايدا بريئا، بل هو مصطلح مثقل مثخن بالحمولة الثقافية لصاحبه، ولما كان مصطلح مناعة القطيع منتجا غربيا، استحال توليد معرفة جادة بشأنه دون معرفة البذور والجذور الفكرية التي أنبتته.
أما تحميل المصطلح دلالة علمية خالصة فهو من باب اختلاس النظر، فيبصر الجزء ويبني عليه التصور الكلي، فتوحي لك المناعة بشرائط التجربة وتحاليل المختبر، والتركيب هنا مانع، فمناعة القطيع هي خيار سياسي. والسياسة في طبعها الأصيل ثقافة تستبطن عقائد وأفكارا وآراء ثقافية، فالسياسة ما كانت يوما ما صناعة مخبرية ولا إنتاجا معمليا، بل صياغة ثقافية لقوانين وأحكام مستنبطة من مصادرها الثقافية تم تصييرها سياسات.
فمصطلح مناعة القطيع مثقل ومثخن إلى أبعد الحدود وأقصى المسافات بالداروينية السياسية والاجتماعية في الفكر الغربي، وتجد صداها في أفكار داروين وأفكار مالتوس التي حواها كتابه "بحث في مبدأ السكان" وفي آراء جيمس ستيوارت وفي نظرية السكان لكانتيلون، وغيرهم من منظري ومؤسسي الفكر الغربي.
فمناعة القطيع هي ترجمة عملية للمفهوم الفلسفي المادي في الفكر الغربي "البقاء للأقوى". تقترح نظرية مناعة القطيع أنه في حالة الأمراض المعدية التي تنتقل من فرد إلى فرد، فإن إعاقة سلسلة العدوى تكون بانتشار الفيروس عن طريق العدوى واكتساب مناعة جماعية ضد الفيروس. أما الشيء المسكوت عنه هو أنه لتحقيق مناعة القطيع هذه سيموت ما معدله 10% إلى 20% من القطيع لضعف مناعتهم. أي مضمونها الثقافي المستبطن أن نترك الشياه وشأنها ترتع وتقاوم قدرها المادي الفيروسي حتى يتم ذاك الفرز المادي الطبيعي بناء على القانون المادي الطبيعي "البقاء للأقوى"، ولا ضير من تغليف الأمر بشيء من الزيف الإنساني فالميكافيلية هي صلاة السياسيين الغربيين. فخطاب بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني: "عائلات كثيرة وكثيرة جدا ستفقد أحباءها سيفقدون قبل أن يحين موعدهم" هو من باب الميكافيلية السياسية لإعداد الرأي العام لتقبل هكذا سياسة.
وعليه فالمرجعية الثقافية هي الحاكمة في هكذا سياسات وفي هكذا مصطلحات، فالنظرة المادية في الفكر الغربي تستتبعها قائمتها الخاصة بها من المعتقدات والأفكار والآراء التي تتلاءم وتتجانس معها والتي لا يمكن للإنسان الغربي العلماني المادي الانسلاخ منها، فهي كانت وستبقى قبل كورونا وبعدها، بل قبل طب الطبيب وهندسة المهندس. فهذا الطبيب الألماني بول إرليخ الحائز على جائزة نوبل في الطب سنة 1908 عن أبحاثه في المناعة الذاتية، يحث الحكومات على تقليص تمويل برامج الحد من الوفيات في مؤلفه "القنبلة السكانية"، أي بمادية صماء صارمة اتركوا الناس تموت للحد من هذا الكم السكاني. أي خلف ذاك الرنين والطنين العلمي القريب الخفيف لسماعة الطبيب هناك الصوت الثقافي البعيد العميق لداروين ومالتوس وكانتيلون و... وهذا الأخير هو الأبلغ أثرا والأفعل سلوكا.
فالداروينية والمالتوسية هي منشئة ومؤسسة وبانية للفكر الغربي المعاصر ومتجذرة في السياسات الغربية المعاصرة. فقانون التعقيم (منع الإنجاب) في الولايات المتحدة لسنة 1927 كان مصدر إلهام للنازيين في سن قانونهم الخاص بهم للتعقيم سنة 1933. وفي سبعينات القرن الماضي تم إجبار السود والهنود الحمر في أمريكا على التعقيم القسري وتم تغليفه بإجراء طبي، وفي اعتراف القاضي الفيدرالي الأمريكي جيرهالد جيل في عام 1972 في قضية التعقيم القسري للفقراء جاء فيه "على مدى السنوات القليلة الماضية قامت الدولة والهيئات والوكالات الفيدرالية بتعقيم ما بين 100 ألف إلى 150 ألف شخص من متدنيي الدخل الفقراء".
وبناء عليه فمناعة القطيع هي النتاج المادي الطبيعي للنظرة الفلسفية المادية وأسسها الداروينية والمالتوسية في الفكر الغربي. فمناعة القطيع فيروس من الفيروسات الفكرية التي أنتجتها حاضنات البعوض الثقافي الغربي، هذا الأخير الذي ما كان لبذره وبيضه أن يتخلق وينمو إلا في المستنقع الحضاري الغربي. وعليه وحتى يتم التخلص من هكذا فيروسات فكرية وجب التخلص من البعوض الثقافي الغربي، ولإنهاء المشكل من جذوره لا يكفي قتل هكذا بعوض ثقافي بل يجب تجفيف المستنقع، أي اقتلاع حضارة الغرب من جذورها فهي قاع المستنقع ومنبع القذارة، ثم تطهير البشرية من هكذا نجس ورجس حضاري بحضارة الإسلام العظيم وبلسمها السياسي خلافتها الراشدة على منهاج النبوة. وإن الزمان قد استدار وما إدبار ليل الغرب وإقبال فجر الإسلام إلا صبر هنيهة من عجلة، ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ مناجي محمد
المصدر: جريدة الراية