- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2024-02-21
جريدة الراية: مبادرة الساحل وسياسة المغرب الأفريقية
شق من استراتيجية استعمارية كبرى
(الجزء الثالث والأخير)
ثم كانت المبادرة الأخيرة "المبادرة المغربية لولوج دول الساحل للأطلسي" التي اقترحها الحكم في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 وجرى الاجتماع التنسيقي حولها ثم توقيع اتفاق مبدئي بمراكش في كانون الأول/ديسمبر 2023 مع كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد، والغرض المعلن من المبادرة هو وضع البنيات التحتية الطرقية والمينائية والسكك الحديدية بالمغرب رهن إشارة دول الساحل لتعزيز مشاركتها في التجارة الدولية.
والمبادرة لا تخرج عن السياق العام والإطار الناظم، ونعني به الاستراتيجية البريطانية، ولقد جاءت المبادرة في ظرف تعرف فيه منطقة الساحل هزات جيوستراتيجية عنيفة وتطاحنا استعماريا شرسا، كان من نتائجه انحسار واندحار الاستعمار القديم الفرنسي وحلول الاستعمار الأمريكي الجديد محله مع وجود شقوق في الخارطة الاستعمارية جراء السقوط المدوي للاستعمار الفرنسي، هذه الشقوق التي تسعى بريطانيا للنفاذ عبرها لمزاحمة أمريكا في مستعمراتها الجديدة، والحكم في المغرب هو أداتها. فكل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر عرفت انقلابات وتحولات في الفلك الاستعماري لصالح أمريكا وعلى حساب فرنسا، وتشاد محل تنازع وصراع. والمبادرة هي نفاذ إلى دائرة الاستعمار الأمريكي المستجد في الساحل وسعي لربط دوله بالاستراتيجية الاستعمارية البريطانية.
فالمبادرة في جوهرها تستهدف أمريكا، والأمر الأهم فيها هو شقها الأطلسي، فالبوابة الأطلسية المستهدفُ بها هو أمريكا تحديدا في جعل الواجهة الأطلسية للمغرب بوابتها لأفريقيا مع ربط دول الساحل الدائرة في فلكها بهذه البوابة، وهو ربط لمصالح الرأسمالية الأمريكية بالمغرب ما يستدعي تأمين استقرار الحكم فيه وبالتالي تأمين النفوذ الاستعماري البريطاني فيه، وهو جزء من الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية في تأمين بعض من مصالح أمريكا للحفاظ على نفوذها في مستعمراتها.
ثم أهم الأهم في المبادرة هو الموقع الجغرافي لبوابة الأطلسي في عمق الصحراء في أقصى الجنوب الصحراوي بمدينة الداخلة، فاختيار الداخلة في عمق الصحراء كبوابة للأطلسي عبر مشروع مينائها الضخم ومنطقته اللوجيستية الصناعية المصممة على مساحة 1650 هكتار، هو لاعتبارات جيوستراتيجية متعلقة بقضية الصحراء والصراع الاستعماري حولها، عطفا على ذلك فتصميم الموقع قبالة قناة بنما على الضفة الأخرى للأطلسي هو لجذب السفن التجارية العملاقة وربط الرأسمالية الأمريكية به، وهو ما يفسر تنظيم السلطات لمنتديات وزيارات لوفود أمريكية لمشروع ميناء الداخلة الأطلسي للوقوف على إنجازاته.
فالاختيار الجيوستراتيجي للداخلة كبوابة أطلسية هو استثمار لاعتراف إدارة ترامب بمغربية الصحراء والبناء عليه ومن ثم فرض الأمر الواقع في الصحراء، عبر إنشاء ميناء عالمي ترتبط به التجارة الدولية، ما يعني واقعيا تأمينه دوليا من كل تهديد، وهنا تكمن الاستراتيجية البريطانية في نزع فتيل اللغم الذي زرعته أمريكا بالمنطقة منذ السبعينات، ونعني به جبهة البوليساريو، فأمن ميناء الداخلة الأطلسي من أمن الصحراء؛ ما يعني تحييد جبهة البوليساريو وعزلها كمقدمة لتصفيتها، وربط الدول الدائرة في فلك الاستعمار الأمريكي بهذه البوابة الأطلسية هو ربط لمصالح أمريكا الاستعمارية بها وفرض للأمر الواقع تصبح معه جبهة البوليساريو وتهديداتها العسكرية متجاوَزة. وعليه فمن أهداف مبادرة الساحل الأطلسية قطع الطريق أمام تهديدات البوليساريو العسكرية وعزلها سياسيا كمقدمة لتصفية ملف قضية الصحراء وحرق ورقة أمريكا في المنطقة.
أما ما يصاحب هذا الوضع الجيوستراتيجي الاستعماري من توتر بين الحكم في المغرب والحكم في الجزائر، فهذا التوتر كذلك يجد تفسيره على ضوء الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية لمنطقة المغرب الإسلامي، يجب تقرير حقيقة سياسية وإن خفيت على كثيرين أن الخط الاستراتيجي للمغرب والجزائر هو ضمن الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية نفسها، فالحكم في المغرب والجزائر يدور في الفلك الاستعماري نفسه وهو البريطاني تحديدا، فالحوار الاستراتيجي نفسه الذي يدور بين بريطانيا والمغرب يدور بين بريطانيا والجزائر وآخر جولاته كانت بلندن في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 برئاسة وزير الدولة البريطاني ووزير الخارجية أحمد عطاف. وعليه فمُمْتَنِع أن يكون الخلاف الذي يطفو على السطح بين الحُكمين استراتيجيا بل هو تكتيكي ضمن الاستراتيجية الواحدة لإدارة ملف قضية الصحراء تحديدا، والمهمة الموكولة بالحكم في الجزائر هي تحجيم واحتواء جبهة البوليساريو ورقة أمريكا في المنطقة، ومن خطة الاحتواء المرسومة تحييد البوليساريو وعزلها عن الصراع عبر تحويل الصراع لصراع بين المغرب والجزائر لتعطيل مفعول الورقة الأمريكية. وفي الظرف الراهن ومع المشاريع الكبرى في الصحراء والأشغال القائمة لميناء الداخلة الأطلسي والطريق السريع، فكل تهديد عسكري لهذه المشاريع يعتبر كارثة جيوستراتيجية، ولمنع أي تهديد أو عمل عسكري للبوليساريو كان لا بد من رفع لمنسوب التوتر بين الحكمين في المغرب والجزائر لقطع الطريق أمام البوليساريو من تهديد أو تعطيل المشاريع القائمة في الصحراء ونزع فتيل أعمالها العسكرية. ثم على الهامش والحواشي لهذا التوتر هناك صراع ونفوذ على الزعامة الإقليمية بين الحُكمين لخدمة المستعمر نفسه واستراتيجيته الاستعمارية المشؤومة.
هي السياسة الاستعمارية الملعونة؛ ما كانت إلا أحابيل شيطان وكيانات الوظيفة الاستعمارية وحكامها خدمه وأعوانه، وفي شؤم صنيعهم وحقارة وظيفتهم الاستعمارية وقبح خيانتهم يُدفع الثمن من مصالح هذه الأمة وقضاياها المصيرية، ومن قوت وكد وجهد أبنائها وثروات بلادهم ومن دينهم وآخرتهم. فالسياسة الأفريقية للحكم بالمغرب ومشاريعها الكبرى المكلفة والمنهكة وبنيتها التحتية الضخمة هي لخدمة الاستعمار في نهبه للدار وإفقار أهلها، واليوم تعداها لأفريقيا ونحن من يدفع الثمن!
هذا عن خفايا وخبايا تلك السياسة الاستعمارية الملعونة التي ما كانت لتنجز لولا تلك البذرة الخبيثة لنبتة العمالة والخيانة، والتي ما كانت لتزرع وتغرس في أرض الإسلام لولا فقد درعها وحاميها وجنتها ووقائها، خليفة المسلمين الذابّ عن حياضهم والحامي لبيضتهم والقاهر لعدوهم. فكما كان زرع وغرس بذرة وجذر تلك النبتة الخبيثة مرتبطاً بالدولة الفاعلة المؤثرة في الموقف الدولي شرا، يجب أن يكون من بديهيات الفقه السياسي الاستراتيجي أن اقتلاع واستئصال ذلك الجذر والبذرة الخبيثة لا يكون إلا بدولة فاعلة ومؤثرة في الموقف الدولي خيرا، وكفى بخلافة الإسلام العظيم فعلا وخيرا. وكفى بحديث المصطفى الهادي ﷺ قولا حقا وفصلا، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ».
بقلم: الأستاذ مناجي محمد
المصدر: جريدة الراية