- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
2024-02-21
جريدة الراية: الاقتصاد العالمي إلى أين؟
لا شك أن القواعد التي يستند إليها النظام الاقتصادي العالمي هي قواعد باطلة لا تستند إلى أفكار صحيحة، وتحوي مقومات دمارها وانهيارها من أساسها، وأهم هذه القواعد تلك المتعلقة بمفاهيم القيمة، والندرة النسبية، والخلط بين علم الاقتصاد ونظام الاقتصاد، وجهاز الثمن والنقد. وقد أدت هذه القواعد بمجموعها إلى حتمية وجود طبقة من الفقراء متزايدة باستمرار، وحتمية التضخم المالي المستمر، وظهور الأزمات المالية والاقتصادية بشكل متكرر ومتزايد من حيث المدة الزمنية وقوة التأثير. وبالرغم من أن القائمين على النظام الاقتصادي العالمي من مالكي الثروات الضخمة ومستشاريهم من حكام الدول الكبرى يعملون بدأب للحفاظ على النظام حفظا لمصالحهم إلا أنهم أصبحوا على يقين أن الحيلولة دون كارثة عظمى تهوي بالاقتصاد العالمي إلى الهاوية لم يعد ممكنا، لذا فقد عمدوا إلى العمل على تأجيل حدوث الأزمات أو الكارثة، والإفادة من الأزمات السياسية والحروب والجوائح إما لمنع حدوث الكارثة أو تأجيلها أو تحويلها إلى أزمة مالية كتلك التي اجتاحت أمريكا ومن يدور في فلكها سنة 1929، ومن ثم خلال الحرب العالمية الثانية، إلى آخر هزة قوية سنة 2008.
ولما بدأت تلوح في أفق العالم الرأسمالي مؤشرات أزمة مالية قوية في أواخر عام 2019 صاحبها ضعف شديد في النمو الاقتصادي وتضخم هائل بسبب ما ضخه البنك الفيدرالي من أموال للتغطية على مخلفات أزمة الرهن العقاري. وقد تنبأ كثير من المحللين الاقتصاديين أن سنة 2020 كانت ستشهد أعظم انهيار اقتصادي عرفه العالم الرأسمالي. فجاءت جائحة كورونا وغطت على شبح الانهيار الذي كان مرشحا أن يكون كارثيا، وعمدت أمريكا وبنك الاحتياط الفيدرالي إلى ضخ أكثر من 15 تريليون دولار خلال أقل من سنتين ما أدى إلى التغطية على ضعف النمو الاقتصادي الذي كان مخيما على العالم. وقد استفادت أمريكا من حرب روسيا وأوكرانيا ومن ثم حرب كيان يهود في فلسطين، للتخلص من كثير من الفائض المالي لديها من خلال تجارة الأسلحة.
إلا أن الحقيقة التي لا يمارى فيها هي أن عجلة الاقتصاد القائم على الإنتاج قد أصابها سرطان لا يزال ينتشر في هذا النظام بشكل متسارع، مرده إلى الاهتمام الفائق بزيادة المال والأرباح المالية بأقل الجهد من خلال التوسع الهائل في أنظمة الأسهم والسندات المالية والقروض الربوية، والتي بكليتها لا علاقة لها بالإنتاج إلا بشكل محدود جدا. فالتباطؤ في النمو الاقتصادي الذي يظهر في معظم الدول الاقتصادية الكبرى ترافقه زيادة هائلة بالرصيد المالي والذي ينعكس بشكل كبير على ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وزيادة نسب البطالة. فأمريكا ومعظم الدول الأوروبية وحتى الصين لا تزال تشهد تباطؤا في عجلة الإنتاج والنمو الاقتصادي.
وقد أدركت كثير من الدول في العالم أن شبح كارثة اقتصادية مدمرة تلوح في الأفق. وقد اعتبرت هذه الدول أن النظام المالي العالمي الذي يتحكم به دولار غير مرتبط بأي علاقة مع اقتصاد الإنتاج هو السبب الرئيس في ما يحدق بالعالم من أخطار مالية واقتصادية. فقامت مجموعة شنغهاي تنادي بالتخلي عن الدولار في المعاملات المالية البينية خاصة فيما يتعلق بشراء النفط بالدولار. ومن ثم جاءت مجموعة بريكس التي انضمت إليها مؤخرا أكثر من 50 دولة تنادي، ولو على استحياء، بإيجاد نقد جديد يكون بديلا أو على الأقل موازيا للدولار. إلا أن الحقيقة هي أن نفوذ الدولار ليس منعزلا عن نفوذ أمريكا السياسي والعسكري. فلا تزال أمريكا تسخر عملاءها ونفوذها السياسي والعسكري في العالم للمحافظة على هيمنة الدولار، سواء من خلال الحروب والأزمات، أو من خلال الإبداع بوسائل الهيمنة كما هو الحال في طرح نظام خطوط التبادل swap lines الذي يهدف إلى منح الدولار قوة تبادلية تزيد عدة أضعاف عن قوة مبادلة النفط بالدولار.
كما أدركت كثير من الدول الحاجة الماسة إلى نظام نقدي ثابت لا يتأرجح صعودا ونزولا دون الاعتماد على قاعدة ثابتة وقوية كالذهب والفضة. إلا أنه ومرة أخرى تصطدم هذه الأفكار بمنظومات قاسية خلقتها أمريكا على عين بصيرة كمنظمة التجارة العالمية والعولمة، والتي تمكن الدول العظمى كأمريكا من استباحة ونهب مقدرات العالم كله من الذهب بما تملك من مخزون من الدولارات لا ينضب. ولما كانت الدول التي تحاول الانفلات من الهيمنة الاستعمارية المالية لا تملك قوة عقدية مبدئية تدفعها للاستقلال التام عن النظام الاقتصادي العالمي، لذا نجدها تتراجع عن أفكارها وأحلامها وتعود لتغرق في حمأة نظام ينذر بالدمار في كل حين. وقد شهدنا في لقاء بريكس الأخير في جنوب أفريقيا ما أفصح عنه رئيس البرازيل ورئيس جنوب أفريقيا أن المنظمة لا تشكل تحديا للنظام الدولي ولا تعمل على إيجاد بديل عن الدولار!
إنه مما لا شك فيه أن إنقاذ البشرية من خطر النظام الاقتصادي والمالي العالمي يقتضي جرأة وقوة في الطرح والتنفيذ، مصحوبة بقاعدة فكرية أصيلة تفرض تحديا ومواجهة للظلم والاستبداد المالي العالمي بغض النظر عن المتاعب والمصاعب التي قد تواجهها. كما تقتضي إيجاد نظام اقتصادي ينسف قواعد النظام الذي لا يزال يعصف بالبشرية كل يوم، فينسف قواعد الندرة النسبية ليحل محلها وفرة الموارد التي أوجدها الله تعالى في الأرض، ويحارب جهاز الثمن الذي يخلط بين القيمة والثمن ويسبب تضخما ماليا بشكل مستمر، ويفرض قاعدة صلبة للنقد لا تستند إلى وفرة الإنتاج أو إلى حاجة السوق أو إلى القوة القانونية لإصدار النقد، بل تستند إلى الذهب وتستطيع أن تحصن نفسها من عمليات استنزاف المخزون الاستراتيجي للذهب، ومن ثم يأتي بقواعد جديدة لتوزيع الثروة وعدم تكدسها بأيدي فئة قليلة يسودها الجشع والظلم والاستعباد، وذلك من خلال تحريم الربا وكنز الأموال، وتعدد أنواع الملكيات، وإيجاد وسائل عملية ودائمة تحول دون تكدس الثروة بأيد معدودة.
ومثل هذا النظام غير متوفر أبدا إلا في الإسلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهو النظام ذاته الذي حين طبق كما أنزله الله تعالى ملأ الأرض عدلا، ورضي عنه ساكن الأرض والسماء، وكان خيرا وبركة على الإنسان والشجر والطير والحيتان في البحر، وجميع هذه تعاني اليوم من شرور النظام المالي والاقتصادي المتحكم في العالم. وما تلك المؤتمرات الدائمة حول البيئة وتلوث الهواء في السماء والمياه في البحار إلا واحدة من آثار هذا النظام البائس. ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوْقِنُونَ﴾.
بقلم: الدكتور محمد جيلاني
المصدر: جريدة الراية