بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في كتاب: "من مقومات النفسية الإسلامية"
الحلقة العاشرة
الحمد لله رب العالمين, والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى إمامِ المتقين, وسيِّدِ المرسلين, المبعوثِ رحمةً للعالمين, سيدِنا محمدٍ وعلَى آلهِ وصَحبِهِ أجمعين, واجعلنا مَعَهم, واحشرنا في زُمرتهم برَحمتكَ يا أرحمَ الراحمين.
السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: "من مقومات النفسية الإسلامية". ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق:
أيها المسلمون:
إنَّه لحريٌّ بالمسلمينَ بعامَّة، وبحَمَلَةِ الدَّعوةِ بخاصَّة، أن يكونَ القرآنُ رَبيعَ قُلوبهم، ومُلازِمَ دَربهم، يَقودُهم إلى كُلِّ خَير، ويَرتَفِع بهم مِن شَاهقٍ إلى شَاهق، يتعاهدونَهُ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار، تلاوةً وحفظاً وعملاً فيكونُونَ بحقٍّ خيرَ خَلَفٍ لخَيرِ سَلَف.
وهذه أحاديثُ شريفةٌ في فَضلِ تِلاوةِ القُرآنِ، والحثِّ علَى حِفظِه، وتعلُّمِه وتَعليمِه، والتمسك به والعمل به وتطبيقه في معترك الحياة:
رُويَ عَن عَليٍّ كرَّم اللهُ وجهَهُ مَرفوعاً إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «ستكونُ فِتنةٌ, قال علي رضي الله عنه: فمَا المَخرَجُ مِنها يَا رَسُولَ الله؟ قالَ: كتابُ الله, فيهِ نبأ مَن قبلَكُم, وخَبرُ مَا بعدَكُم, وحُكمُ مَا بينَكُم, وهُو الفصلُ ليسَ بالهزل, مَن تَركَهُ مِن جبَّارٍ قَصَمهُ اللهُ, ومَنِ ابتغَى الهُدى في غَيرهِ أضلَّهُ الله, وهُو حَبلُ اللهِ المتين, ونُورُه المُبين, والذكرُ الحكيم, وهو الصِّراطُ المُستقيم, والشفاءُ النافع, عِصمةٌ لمن تمسَّكَ به, ونجاةٌ لمنِ اتَّبعَه, لا يَعوجُّ فيُقوَّم, ولا يَزيغُ فيُستعتَب, وهُو الذي لا تَزيغُ بهِ الأهواءُ, ولا تَلتَبِسُ بهِ الألسُن, ولا تتشعبُ معَهُ الآراء, ولا يَشبعُ منهُ العلماء, ولا يملُّهُ الأتقياء, ولا يَخلَقُ علَى كثرةِ الرَّد, ولا تَنقضي عَجائبُه, وهُو الذي لم تَنتَهِ الجنُّ إذ سَمِعَته أن قالُوا: {إنَّا سَمعنا قرآناً عجباً}. مَن عَلِمَ عِلمَهُ سَبَق, ومَن قَالَ بهِ صَدَق, ومَن حَكَمَ به عَدَل, ومَن عَمِلَ بهِ أجِر, وَمَن دَعَا إليه هُدِي إلى صِراطٍ مُستقيم».
ورَوَى البخاريُّ عَن عُثمانَ بنِ عفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «خَيرُكُم مَن تَعلَّم القُرآنَ وَعلَّمه».
ورَوَى التَّرمذيُّ عَن عبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رَضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن قَرأ حَرفاً مِن كِتَابِ اللهِ فلَهُ بهِ حَسَنة, والحسنةُ بعَشرِ أمثالِها, لا أقولُ "ألم" حَرفٌ، ولكِنْ ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرف». وهو حديث صحيح.
كما رَوَى مُسلمٌ عَن عَائِشةَ أمِّ المؤمنينَ رَضِيَ اللهُ عَنها قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الماهِرُ بالقرآنِ مَعَ السَّفرةِ الكرامِ البررة، والذي يَقرأ القُرآنَ وهُو يَتَعتَعُ فيه وهُو عَلَيهِ شَاقٌ لَه أجرَان».
وَرَوى التَّرمذيُّ في صَحيحِه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الذي ليسَ في جَوفِهِ شَيءٌ مِنَ القُرآنِ كالبيتِ الخَرِب». وهُو حَديثٌ صَحيح.
وَرَوَى مُسلِمٌ في صَحيحِه عَن أبي أمامةَ الباهليُّ رَضيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقرءُوا القرآنَ فإنَّه يأتي يَومَ القِيامَةِ شَفيعاً لصاحِبه».
وَرَوى ابنُ حِبَّانَ في صَحيحِه عَن جَابرٍ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما, والبيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عَن جَابرٍ وَعَنِ ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُم قالُوا: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «القرآنُ شَافعٌ مُشفَّع، ومَاحلٌ مُصدَّق، مَن جَعلَه أمَامَه قادهُ إلى الجنة, ومن جعلَهُ خلفَهُ سَاقه إلى النار». وهو حديث صحيح.
وَرَدَ في كِتَابِ "المخصَّص" لابنِ سِيدُه: وفي الحديث: "القُرآن ماحِلٌ مصَدَّق" يَمْحَل بصاحِبه إذا ضَيَّعه. فالقرآن إذا لم يتعهده صاحبه بدوام الحفظ والمراجعة, فإنَّهُ يَضيعُ ويَتفلَّتُ مِن صَاحِبه. رَوَى البخاريُّ ومُسلِمٌ في صَحيحَيهما عَن أبي مُوسَى الأشعري رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تعَاهَدُوا القُرآنَ فَوالذِي نَفسُ مُحمَّدٍ بِيدِه لَهُو أشدُّ تفلتاً من الإبل في عُقُلِها».
وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ يَرفَعُ بهذا الكتابِ أقواماً ويَضَعُ به آخَرين». وأخرَجَ أبو داود والتَّرمَذيُّ في الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «يُقالُ لِصَاحِبِ القرآنِ: اقرأ وارتَقِ, ورتِّل كما كُنتَ تُرتلُ في الدنيا، فإنَّ مَنـزِلَتَكَ عِندَ آخرِ آيةٍ تَقرؤها».
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثلُ المؤمِنِ الذي يَقرأ القُرآنَ مَثَلُ الأترجَّة: طعمُها طَيِّبٌ وريحُها طيِّب، وَمَثَلُ المؤمِنِ الذي لا يَقرأ القُرآنَ مَثَلُ التَّمرة: طعمُها طيِّبٌ ولا رِيحَ لها، وَمَثَلُ المنافِقِ الذي يَقرأ القُرآنَ مَثَلُ الرَّيحانَة: ريحُها طَيِّبٌ وطعمُها مُر، وَمَثَلُ المنافِقِ الذي لا يَقرأ القُرآنَ كَمَثَلِ الحنظلَةِ: طعمُها مُرٌّ ولا رِيحَ لهَا».
وبعد أيها المسلمون:
فإنَّ ما سَبقَ من أحاديثَ شريفةٍ، تبينُ المنـزلةَ العظيمةَ للقرآنِ الكريمِ، والمنـزلةَ العظيمةَ لحاملِ القرآنِ العظيمِ، الذي يحملُه ليتدبَّرَه ويعملَ به، ويتعاهدُهُ في حِلِّهِ وتَرحالِه, فيكونَ طاقةً هائلةً في كُلِّ سُبلِ الخير، لا أن يَضَعهُ على الرَّفِّ حتى يَعلُوَهُ الغُبارُ، أو يُزخرِفَهُ ويُغلِقَ علَيهِ خَزائِنَهُ حتى يطويهِ النِّسيانُ, فيكونَ والعياذُ باللهِ مِنَ الخاسرين.
فتعاهدُوا القرآنَ الكريمَ أيُّها الإخوةُ الأعزاء، وسَارعُوا إلى تلاوتِهِ حقَّ تلاوتِه، وتدبَّروهُ حقَّ تدبُّره، واعملوا به حقَّ العمل، والتزمُوا به حقَّ الالتزام، ليكونَ طعمُكُم طيباً، وريحُكُم طيباً، ومن ثَمَّ تكونُونَ في الصفوفِ الأولى في حملِ الدَّعوةِ في الدنيا، كما تكونُونَ في الصفوفِ الأولى في الجنَّةِ في الآخرة عندما يُقالُ: اقرأ وارتق، بذلكَ تكونُونَ أهلاً للنَّصرِ العظيمِ والفوزِ الكبير، ورضوانٌ مِنَ اللهِ أكبر {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين}.
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, عَلَى أنْ نُكمِلَ تأمُّلاتنا في الحَلْقاتِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعالى, فإلى ذَلكَ الحِينِ وَإلى أنْ نَلقاكُم, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ. نَشكُرُكُم وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.