الخميس، 17 صَفر 1446هـ| 2024/08/22م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
  •   الموافق  
  • 2 تعليقات
المكتب المركزي: كلمة م. عثمان بخاش في الندوة الحوارية التي نظمها "مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي"

بسم الله الرحمن الرحيم

 

كلمة المهندس عثمان بخاش – مدير المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير


في الندوة الحوارية التي نظمها "مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي"


يوم الثلاثاء 03 كانون الثاني/يناير 2017م


"الخلافة والدولة الحديثة: الإشكالات النظرية والتطبيقية"

 


أود بداية التوجه بالشكر إلى الإخوة القيّمين على مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي على تنظيم هذه الندوة الحوارية التي تتصدى لقضية مصيرية لا تتعلق بمصير المنطقة فقط بل بمصير العالم. فالانتفاضات الشعبية التي بدأت عفوية تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" قرعت أجراس الخطر في العواصم الاستعمارية في أوروبا وروسيا وأمريكا، ما دفع بالرئيس الروسي يومذاك (2011) ديميتري ميدفيديف للتصريح بأن الربيع العربي يوازي في أهميته سقوط جدار برلين (1989) لجهة إعادة رسم المسرح الدولي... هذا الربيع العربي الذي لم ينته بعد، ولا زالت تفاعلاته السياسية والفكرية تتضخم في شتى الساحات من المغرب إلى الخليج ومن اليمن إلى الشام، وسط محاولاتٍ محمومة من القوى الاستعمارية (بشقيها الغربي والشرقي) لإعادة تجديد قبضتها على المنظومة السياسية التي فرضها الاستعمار الغربي بعد هدمه لدولة الخلافة العثمانية، ولو اقتضى ذلك بعض الترقيعات السطحية لامتصاص غضب الشارع المتفجر.


بركان المشهد السياسي طرح جملة من القضايا تتمحور حول التساؤل عن النظام البديل المراد تطبيقه حينما ينجح الشعب بإسقاط المنظومة السياسية القديمة:


• فالعلمانيون (الليبراليون) يرون الدواء الشافي في إقامة الدولة العلمانية المسماة بالدولة المدنية والتي هي محاكاة للدولة "الحديثة"، والتي ولدت ونشأت في المجتمع الغربي حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من مفاهيم ونظام حكم تنظّم علاقة الحاكم (الدولة) بالمجتمع، وحددت منظومة حقوق وواجبات للأفراد والدولة.


• أما المسلمون فقد انقسموا أقساماً:


o منهم من يرى ضرورة مصالحة الإسلام مع "الدولة الحديثة" والخروج بتوليفة تقوم على الحل الوسط، تحت شعارات الإسلام "المعتدل الوسطي" البعيد عن التشدد والتزمّت والتطرف، فاخترعوا مقولة "دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية"، داعين إلى الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى والتي هي، بنظرهم، تجارب إنسانية عالمية.

 

o ومنهم، مثل حزب التحرير، من أصر على أن الإسلام يتضمن نظاماً سياسياً متكاملاً لا يحتاج إلى ترقيع أو تعديل أو استنساخ لتجارب الأمم الأخرى، وما علينا إلا العودة إليه لبلورة صياغته ووضعه موضع التطبيق العملي.

 

في هذه الندوة الحوارية والتي هي بعنوان: "الخلافة الإسلامية والدولة الحديثة: الإشكالات النظرية والتطبيقية" سأتعرض لهذه الإشكالات في النموذجين الإسلامي والعلماني، وأنا على ثقةٍ أن المادةَ غنيةٌ بالمفاهيم والأفكار التي تتباين الآراء تجاهها، فسأحاول الاختصار في الطرح مؤجلاً التفصيل لفترة النقاش مع الحضور الكريم. سأتناول الموضوع تحت العناوين التالية:

 

1- تحرير المصطلحات

 

2- نشأة الدولة الحديثة، وإشكالياتها

 

3- نشأة الدولة الإسلامية

 

4- ما هي الإشكالات التطبيقية لدولة الخلافة

 

 

1- تحرير المصطلحات

 

كثير من الناس في بلادنا، من مثقفين وغيرهم، يتخذون من النظرة الغربية المعاصرة مقياساً للحكم على الأمور، فما كان مقبولاً في النظرة الغربية كان مقبولاً عندهم ومستساغاً، وما كان مرفوضاً مستنكراً في الفكر الغربي فهو كذلك عندهم. هذه الجدلية دخلت في الساحات الفكرية والسياسية في بلادنا نتيجة الصدام الفكري والعسكري والسياسي مع الدول الغربية منذ وطئ جنود نابليون أرض مصر. فالهزيمة العسكرية لجيوش نابليون في مصر لم تُنهِ الصراع ضد الغرب بل طوت مشهداً من مشاهد هذا الصدام الذي استمر لقرون مديدة ولا يزال مشتعلاً حتى اللحظة. ولعل معظم الحضور يتذكرون بعثة الطلاب الشهيرة التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا للتزود من العلوم والمعارف الحديثة الكفيلة بتأسيس دولة "حديثة" قوية، ونتوقف عند الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي الذي رافق البعثة ليكون لهم مرشداً دينياً يعصمهم من الزلل في وحول الحضارة الغربية يومذاك. تلك كانت الفكرة على الأقل، إلا أنه لم ينج من التأثر بما عاشه من واقع الحضارة الغربية فرجع إلى مصر داعياً لها ومبشرا بفضائلها. فكان الطهطاوي أول من أدخل مفهوم "العصبية الوطنية" في بلاد المسلمين، والتي اعترف القنصل الفرنسي في بيروت سنة 1856 أنه ليس لها وجود عند المسلمين. [1]

 

واستمر الغزو الفكري الغربي وتكثف مع امتداد الهيمنة العسكرية والتي توجت بهدم دولة الخلافة العثمانية، ثم تقسيم المنطقة إلى كيانات هزيلة تعتمد في وجودها على دعم الدول الغربية.

 

هذه الهيمنة الغربية على المسرح العالمي بكل تفاصيله حملت الدكتور فيصل القاسم، الإعلامي المعروف، على التساؤل الإنكاري على من يريد تحدي النظام الرأسمالي: ألا ترون أن النظام الرأسمالي لديه مفتاح واحد وباب واحد، وكل من لا يدخل من ذلك الباب يبقى في البرية خارج العالم والزمن؟

 

ومع ذلك فلنلاحظ هنا ما ذكره المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي من أن الموجة الغربية للهيمنة على العالم هي مجرد مشهد عابر أخير في مسيرة البشرية الطويل والممتد آلاف السنين. وقد حذر في كتابه الشهير "محاكمة الحضارة" من أن الحضارة الغربية، برغم كل إنجازاتها المادية الباهرة، مآلها إلى الانحطاط والزوال لأنها لا تستند إلى أسس العقيدة الدينية المتينة، وحذّر قومه، الساهين عن عظمة الإسلام، ألا يغتروا بالتقدم التكنولوجي الخادع لحضارتهم التي ستنهار حتماً، وأن يتعظوا من مصير من سبقهم من الأمم والحضارات التي سادت ثم بادت. ولم يكتف بذلك بل دعا قومه إلى اكتشاف الحضارة الإسلامية التي ستقوم بدور الريادة في المستقبل القادم. وبيّن أن الأمة الإسلامية، برغم ما يعتريها من كبوة مؤقتة، فهي مهيأة لتكرار انتصارها على الحضارة الغربية، تماما كما فعلت من قبل في تحرير الشام ومصر من الهيمنة الهيلينية التي دامت ألف عام، وكما تمكنت تحت قيادة نور الدين زنكي وصلاح الدين والمماليك من دحر الهجمتين الصليبية والمغولية، بل وتوقع توينبي أن مركز الحضارة العالمية القادمة سيكون في القوس الممتد من بغداد إلى وادي فرغانة.[2]

 

إذن فالنموذج الرأسمالي الحالي ليس هو "نهاية التاريخ" بل هو مشهد عابر لا يؤخر دفنه إلا تأخر ظهور النموذج الحضاري البديل، والذي هو الإسلام لا غير. فلنتحرر من عقدة الخنوع للنموذج الغربي وليكن تفكيرنا مستقلاً نابعاً من قناعاتنا الذاتية بعيداً عن التقليد الأعمى، فكما ذكر المفكر القبطي رفيق حبيب: "لا توجد أمة أو شعب حقق النهوض والتقدم والرخاء من خلال تقليد شعب آخر؛ فعملية تقليد الحضارة القوية المتقدمة يمكن أن توفر قدراً من التحسن في الحياة، ولكنها لا تبني حضارةً ناهضة ولا دولةً قوية، فالتقليد شكل من أشكال التبعية، والتقدم يقوم على الاستقلال الشامل، وكل شكل من أشكال التبعية يمنع التقدم الحقيقي الأصيل، ويمنع النهوض الحضاري".

 

 وعليه أدعو الحضور الكريم إلى التحرر من هيمنة الفكر الغربي وعدم اتخاذه مرجعا حين البحث في النظام الإسلامي كما سأفصل قريبا.

 

 

2- نشأة الدولة الحديثة وإشكالياتها


يقول وائل حلاق في كتابه المهم الدولة المستحيلة "إن هناك خمس خواصّ تشكل الصورة التي يستحيل تصور الدولة الحديثة من دونها"؛ وهي:


o الدولة الحديثة نتاج ظرف تاريخي محدد ذي أصل أوروبي في ثقافة محددة؛ أي أن منشأ الدولة الحديثة هي أوروبا بثقافتها وإنسانها وحدودها الجغرافية، وهي - أي أوروبا - المعمل الوحيد الذي أُنتجت فيه الدولة الحديثة وتطورت، وقد أكد هذا المفكر الألماني كارل شميت حين قال: "الدولة لم تكن ممكنة إلا في الغرب".


o تطور مفهوم سيادة الدولة والميتافيزيقيا التي أنتجتها.


o احتكار الدولة التشريع وما يتعلق بذلك من احتكار ما يسمى العنف المشروع


o جهاز الدولة البيروقراطي.


o تدخل الدولة الثقافي المهيمن في النظام الاجتماعي.


يقول كارل شميت في كتابه الشهير اللاهوت السياسي "إن كل المفاهيم البارزة في النظرية الحديثة للدولة هي مفاهيم لاهوتية معلمنة"؛ ولو تتبعنا ذلك لوجدناه غاية في الدقة؛ فقد حلت "سيادة الشعب" محل "سيادة الله"، واحتل "الدستور" موقع "الكتاب المقدس"، وصار الوطن مقدساً عوض الكنيسة، والمقتول في سبيله "شهيداً"، كما استبدلت المواطنة بأخوة الدين! ونبّه إلى أنه، لا يقصد بذلك فقط التحدّر التاريخي لهذه المفاهيم، وكونها انتقلت من دائرة اللاهوت إلى نظرية الدولة، ومن الإله الشارع (المشرّع) إلى المشرّع الوضعيّ كلّي القدرة. بل إنها كذلك من حيث بنيانها المنهجي: ففكرة الدولة الحديثة فرضت نفسها مع "الدين الطبيعي"، أي مع تصور لاهوتي - فلسفي يطرد المعجزات من عالمنا هذا.


فاللحظة التاريخية التي أسست لظهور الدولة الحديثة في الغرب الأوروبي شهدت عملية إعادة صياغة الأساس العقدي لمفهوم النظام السياسي من التصور اللاهوتي الكنسي إلى التصور العلماني القائم على فصل الدين عن الشأن العام.

 

 وأول من دعا إلى تغليب منطق المصلحة القائمة على القوة العارية هو نيقولا ميكيافيللي الذي عاش الحروب التي هددت استقرار الإمارات في إيطاليا، فبنى نظرته على اعتباره أنّ الإنسان عدو الإنسان[3]؛ ويعتقد ميكيافيللي أنّ البشر هم هكذا بطبيعتهم في كل زمان ومكان وهذا شيء من المستحيل تغييره أو إصلاحه "منافقون، جشعون وشرهون للحصول على الربح". وجميع البشر، عنده، هم طغاة، والفرق بين الإنسان العادي والطاغية، هو أنّ الثاني لديه الوسائل بينما الأول لا يملكها كي يصبح طاغية ولكنهما متماثلان في الطبيعة. فالمبدأ الأساس للسياسة الميكيافيلية يقوم على افتراض أنّ الناس خبثاء شريرون و"من يريد تأسيس دولة ويعطيها قوانين لا بد أن يفترض مسبقا أنّ الناس خبثاء"، فعلى الحاكم أن يمضي في تحقيق سياسته (الغاية) التي تبرر استخدام أية وسيلة مهما كانت خسيسة، ودون النظر إلى أية قيمة أخلاقية أو روحية أو إنسانية.


ويعد كتاب توماس هوبر "لفياثان" المؤسس لنظرية سيادة الأمة، حيث دعا إلى منح السيادة الكلية للدولة الحاكمة، وإخضاع الكل لحكمها، بما في ذلك سلطة النص المقدس (الإنجيل)، فلا سلطة تعلو على سلطة الدولة الحاكمة، التي لها وحدها حق الحكم المطلق. واتفق هوبز مع ميكيافيللي بأن السبيل الوحيد لوضع حد لتوحش الإنسان، وإنهاء حرب الكل ضد الكل، يكون بخضوعهم جميعا لسلطان الدولة. ويعود للدولة تحديد المصلحة العامة وتلزم الجميع بالخضوع لها.


وهكذا نجد أن الدولة الحديثة في الغرب ولدت من رحم الصراعات الأهلية، والنضال ضد نظرية الحق الإلهي التي لم يعد بالإمكان فرضها على الناس بعد أن بان عوار السلطة الكنسية، فراح المفكرون يؤسسون لنظريات جديدة تعيد صياغة النظام السياسي على أساس ميتافيزيقي لا يقل بشاعةً عن نظرية الحق الإلهي.


ومع انتشار فكرة الدين الطبيعي تمت إزاحة النظرة الكهنوتية من الشأن العام، وأصبح الإنسان الفرد هو مكان الرب الخالق وله يعود حق التشريع، من خلال ما يسمى بالنظام الديمقراطي القائم على الحكومة التمثيلية (الممثلة للإرادة العامة للناس كما تفرزه صناديق الانتخابات)، أو ما يسمى حكم الشعب بالشعب.

 

وهذا ما عبر عنه المفكر الفرنسي جان جاك روسو الذي يرى أن الدولة وجدت بالاستناد إلى العقد الاجتماعي الذي أبرمه الأفراد. ويُعدّ ذلك العقد مصدر الدولة والسلطة العامة فيها. وبموجب هذا التعاقد يتنازل الفرد عن حريته الطبيعية للجماعة مقابل حصوله على حريات مدنية جديدة؛ وبذلك يضمن له المجتمع حمايتها مع كفالة المساواة بين الأفراد فيما يتعلق بتقرير هذه الحريات. فالدولة تعبر عن الإرادة العامة للأكثرية، وتتمتع بالسيادة المطلقة التي تعلو ولا تعلى، وهذه النظرية وضعت حدا لنظرية الحق الإلهي للكنيسة وللملوك [4]. مع أن روسو[5] نفسه في كتابه "العقد الاجتماعي" لم يذكر أن نظرية "العقد الاجتماعي" حقيقة علمية وصل إليها عن طريق البحث العلمي التاريخي، وإنما هو مجرد افتراض يمكن عن طريقه تحقيق أهداف نبيلة وغايات سامية.[6]


ويفضح الكاتب جوزيف راندال في كتابه تكوين العقل الحديث حقيقة العقد الاجتماعي المزعوم فيقول "تعود أصول فكرة العقد الاجتماعي إلى الفكر الروماني وفكر القرون الوسطى معاً، وقد كانت الإمبراطورية الرومانية – كما ضمنت في مجلة الحقوق المدنية – اعتادت على القول بأن كل السلطة وكل حق في وضع القوانين يعودان للشعب الروماني، غير أن الشعب تنازل بموجب قانون شهير عن هذه الحقوق للإمبراطور، وهو تفسير طبيعي لمجرى التاريخ الروماني فجميع حقوق الشعب الروماني وجميع سلطاته انتقلت إلى الإمبراطور، وله وحـده حـق إصدار القوانين وحق تفسيرها" [7]. وكلام راندال يفضح حقيقة الدولة الحديثة التي لم تفعل أكثر من نقل سلطات الإمبراطور إلى كيان معنوي سمته "الدولة الوطنية" التي تزعم أن السيادة للشعب، وهو آخر من يعلم. وما قام به روسو ليس أكثر من تفسير الماء بعد الجهد بالماء.


طبعا هذا يكشف عن زيف العقد الاجتماعي المزعوم، فباسم الشعب المسكين، يتم التشريع والشعب آخر من يعلم، ولا سلطة له في تقرير التشريع، فالشعب يشارك في لحظةٍ عابرةٍ فيما يسمى بالانتخابات، ثم عليه أن يستسلم لقدره بانتظار الفرصة الانتخابية في الدورة التالية "بعد خراب البصرة"، أي بعد أن تكون الحكومة قد سنّت ما تشاء من السياسات، ومن لم يرض عن سياساتها عليه انتظار الفرصة التالية لإسقاط الحكومة... وفي هذا الخضم كله فلا يوجد معيار ثابت لمعرفة الحق من الباطل، بل الحق والباطل يتم تحديدهما بحسب مصلحة القوى السياسية الحاكمة، كما يعبّر عن ذلك المجلس التشريعي الممثل لأصحاب الرساميل الذين يتحكمون بمفاصل المشهد السياسي، وما على الجسم القضائي إلا الدخول في مهاترات النقاشات الفرعية في تفسير "قانونية" أو دستورية هذا الإجراء أو ذاك. فالسلطة الحاكمة تستطيع العودة إلى المجلس التشريعي لتسنّ ما تشاء من القوانين التي لا يستطيع الجسم القضائي الخروج عنها. ومن الأمثلة الصارخة لهذا الواقع ما جرى من مهازل في المحكمة الدستورية العليا في أمريكا، حيث يميل ميزان مزاج المحكمة من "جمهوري-محافظ" إلى "ديمقراطي-ليبرالي"، أو العكس، بغلبة التصويت 5/4 في كثير من القضايا، فإذا كان الخامس ديمقراطياً مال الميزان لصالحهم، فإذا مات أو تقاعد وجيء بخامس جمهوري قامت المحكمة بإعادة النظر في كثير من القرارات السابقة وغيرت وجهتها بحسب الأكثرية الجديدة...

 

ولا ينحصر هذا في أمريكا فقط بل هو في كل الدول الحديثة التي ما زالت تجادل في "شرعنة" الماريجوانا طوراً، أو في زواج الشاذين طوراً، أو في إباحة الإجهاض وغير ذلك من المسائل التي تفضح عوار الرب الديمقراطي المشرّع الذي لا يستقر على حال، وهذا هو الطبيعي حين تصبح الأهواء والرغبات هي المرجع.


ثم في حال الدولة الحديثة، ما هو شكل النظام الاقتصادي الأمثل؟ ومن يحدد طبيعة الملكية الخاصة والملكية العامة؟ ومن يحدد الحقوق والواجبات من الدولة تجاه الناس ومن الناس تجاه الدولة؟ وما هو دور القطاع العام ودور القطاع الخاص؟ فالنظام الاشتراكي يرى أنه الأمثل، بينما النظام الرأسمالي يتبجح بنجاحه الذي أقصى النموذج الاشتراكي من الواقع، رغم أن الرأسماليين اضطروا مراراً لترقيع نظامهم بإعادة تفسير النظرية لتبرير تدخل الدولة (القطاع العام) في تنظيم حركة السوق المقدسة حسب نظرية آدم سميث صاحب "اليد الخفية"، فحين تُفضح النتائج الكارثية للرأسمالية، يسارع أربابها إلى الترقيع بإدخال سياسات وإصلاحات لمنع ثورات المسحوقين بنيرانها، ومتى تغيرت الرياح وارتاح الرأسماليون إلى ما يرتكبون من جرائم نهب وسرقة في وضح النهار مع غطاء قانوني، رفعت الدولة راية الاستسلام وتركت الناس المسحوقين لمصيرهم البائس؛ ورغم كل ما يعتري النظام الرأسمالي من أزمات متعاقبة يكتوي بنارها الطبقات المغلوبة على أمرها، إن كان في دول الغرب، أو في دول العالم الثالث، فلا زال الغربيون يرددون مع تشرشل مقولته الشهيرة بأن "الديمقراطية هي أسوأ نظام حكم باستثناء كل الأنظمة الأخرى".


وعودة إلى "شميت" الذي يرى أن السياسة نظراً وعملاً لا يمكن أن تخلو من "مسبقات إنتربولوجية - لاهوتية" تتعلق بتصور طبيعة الإنسان ومقتضيات مصيره. والمفارقة التي يؤكدها "شميت" هي أن الدولة الليبرالية الحديثة (التي يطلق عليها أيضاً تسميات أخرى كالدولة البرلمانية والدولة التشريعية والدولة الكلية) تقوم على التصور الحيادي إزاء المقاربات الجوهرية للخير المشترك، وتتبنى مفهوماً إجرائياً صرفاً للشرعية، لكنها تنتهي إلى التجرد من هويتها السياسية بالتدخل في كل مناحي الوجود الإنساني القانونية والاجتماعية والاقتصادية، فتتحول إلى دولة إدارية بيروقراطية واجتماعية من دون مضمون سياسي، ما دامت السياسة غدت مختزلة في الأبعاد التسييرية الإجرائية وفي إدارة المصالح الفردية المتعارضة.


وهكذا فعوضا عن عبادة الإنسان لخالقه الذي خلق السماوات والأرض أصبح عبداً لما يسمى بالدولة، والتي هي ستار رقيق يخفي وراءه الفئة المتحكمة بمصير البلاد والعباد، وهذا ما نسميه بعبودية الإنسان للإنسان. وفي سبيل ملء الفراغ الروحي عند الغربيين اخترع مفكرو الغرب ديناً جديداً تحت مسمى "التقدم" يقوم على عبادة العلم وما ينتج عنه من صناعات. فالعلم عندهم يحل المشكلات كلها. والواقع المشاهد لسياسات النظام الرأسمالي هو خير دلالة على الإفلاس الروحي عند تلك الشعوب، فلم ينفع دين التقدم العلمي المزعوم في تلبية الفطرة الروحية عند أهله وأتباعه، بل جعلهم كالوحوش الضارية تتنافس على المنفعة المادية دون أي وازع ديني أو خلقي أو روحي أو إنساني.


وإشكالية أخرى نختم بها مراجعتنا للدولة الحديثة التي ولدت من رحم معاهدة وستفاليا الشهيرة (1648). فهذه المعاهدة أسست للكيان السياسي القائم على سيادة الشعب ممثلا بالسيادة السياسية للكيان الوطني- القومي الذي يفرض على "المواطن" الولاء التام للوطن، وصولا إلى الاستعداد للتضحية للدفاع عنه.

 

فهذه النظرة الوطنية مكّنت النخب الحاكمة من جر الشعوب إلى سلسلة حروب لم تنته ويلاتها في المسرح الأوروبي برغم الأثمان الباهظة في الحربين العالميتين في القرن العشرين و لم تستثني استعمال القنابل النووية. ومن المعروف أن المد الاستعماري الذي انطلق من أوروبا تزامن مع أوج عصر التنوير المزعوم، فبينما تقاتلت الجيوش الأوروبية فيما بينها في أوروبا، نشرت الموت والدمار حيثما حلت في المناطق المستعمرة في العالم القديم والجديد على السواء. والسجل الكالح للتاريخ الاستعماري للغرب يشهد على همجية الحضارة الرأسمالية، لا يخفف من ذلك الترويج للنظرية الداروينية التي تبرر إفناء الشعوب المغلوبة تحت شعار "البقاء للأصلح".


ولقد اعترف صموئيل هنتنغتون بهذه الحقيقة قائلا:"سيطر الغرب على العالم ليس بتفوق أفكاره أو قيمه أو ديانته، ولكن بتفوقه في تطبيق العنف المنظم. الغربيون غالبا ما ينسون تلك الحقيقة، إلا أن غير الغربيين لا ينسونها أبداً" [8].


ولكننا نتوقف عند التعريف القانوني لنظرية الحقوق: فما الذي يعطي هذا الحق للشخص الفرنسي (مثلا) ويحجبه عن جاره الألماني أو الإسباني؟ وما الذي يجعل الزواج المثلي حراماً في ولاية أمريكية ومباحاً في الولاية التالية لها؟ أو قل مثل ذلك في الإجهاض أو عقوبة الإعدام؟


لا بل إن سياسات الدول الاوروبية تجاه النازحين فضحت كذب السياسة الماكيافيللية ونفاق الغرب ،فقد تحولت تلك الدول إلى قلعة منيعة تصد النازحين الطامعين في جنتها العلمانية الديمقراطية. وكان المفروض بتلك الدول، لو أنها كانت صاحبة مبدأ إنساني يبتغي الخير للعالم أن تبادر إلى إنقاذ الملهوفين وتعمل على "تحضرهم"!!


أفلا يكشف هذا بوضوح عن أن معيار الحق عندهم متعدد، ويقوم على الهوى لا غير؟ وأن المبدأ الرأسمالي القائم على المبدأ الماكيافيللي بأن "الغاية تبرر الوسيلة"، ولا يعرف غير قيمة النفعية المادية، ليس بمبدأ إنساني، ولا يقوم على حجة ولا برهان عقلي، بل هو إلى شريعة الغاب، التي تغلّب منطق القوة، أقرب؟

 


3- نشأة دولة الخلافة


خلق الله البشر في الأرض واستعمرهم فيها ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾. فلا حرج أن نقول إنّ مكان البشر في الأرض هو مكان المستعمر فيها، المسلّط عليها، وإنّ الأرض بما فيها مسخرة لهم، مُذَلَّلَةُ بإذن ربهم، وإن حقوقهم وواجباتهم يحددها الله الذي استعمرهم في الأرض، ومنحهم حق التسلط عليها. والقرآن صريح في أنّ الله - جَلَّ شَأْنُهُ - خلق آدم أبا البشر ليكون خليفة في الأرض ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾.


إلا أن هذا الاستخلاف مقيد بقيود، فلا جدال في أن الله سبحانه أوجب على البشر حين أسكنهم الأرض أن يطيعوا أمره وأن ينتهوا بنهيه، وأنه عهد إليهم ألا يعبدوا إلا إياه، وأعلمهم بأن من اتبع هدى الله فقد اهتدى، ومن كفر بآيات الله وكذب برسله فقد ضل وغوى، ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾.


فاستخلاف البشر في الأرض معناه أن الله - جلَّ شأْنه - أسكنهم الأرض واستعمرهم فيها ومنحهم حق التسلط على ما في الكون للانتفاع بما فيه من خيرات في حدود أمر الله ونهيه، وإذا كان الله قد أسكن عبيده في أرضه وسخر لهم ما في الكون منحة منه فإن ما في أيدي هؤلاء العبيد من ملك الله إنما هو من الناحية الفقهية عارية ينتفع بها البشر، والقيام على العارية في فقه البشر نيابة، وإن كانت نيابة العبد عن ربه والمملوك عن مالكه، وإذن فكل فرد من أفراد البشر يعتبر نائبًا عن ربه - جلَّ شَأْنه - فيما سخر الله للبشر من الكون وما سلطهم عليه وهو مقيد في كل تصرفاته بحدود هذه النيابة.


إن الدولة الإسلامية دولة فكرية تقوم على أساس العقيدة الإسلامية وما انبثق عنها من أحكام ونظام. وهنا موطن الافتراق بين دولة الخلافة وما يسمى بـ"الدولة الحديثة". فشتان بين دولة تقوم على الإيمان بأن للكون والإنسان والحياة خالقاً خلقها جميعا، ووضع لها نظاما تسير بحسبه، وبين دولة تضع الإنسان مقام الرب، والإنسان بما جبل عليه من أهواء وشهوات وقصور في العقل البشري لن يقيم إلا نظاما، أو نظما، مليئة بالتناقض والتخبط. ولا ينفع العلمانيين التبريرُ بأنهم لا يحاربون الدين، ولكن يتركونه للفرد فهذه مسألة شخصية يترك الناس فيها أحرارا يعتقدون ما يشاؤون ويمارسون طقوس عبادتهم كما يريدون.

فالقول بفصل الدين عن الحياة، لا يجيب على السؤال: هل هناك خالق مدبر لهذا الكون؟ وهل هناك حياة بعد الموت؟

 

وعلام سيتم الحساب في يوم الحساب؟ أم أنه لا يوجد يوم الحساب ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾.


وأهداف دولة الخلافة ووظائفها مشتقة من طبيعتها، فما دامت هي دولة فكرية قامت على أساس الإسلام فمن الطبيعي أن تكون أهدافها هي الإسلام ذاته فلا تقف أهدافها ووظائفها عند حد توفير الأمن والطمأنينة للأفراد والمحافظة على حياتهم ورد العدوان الخارجي، بل تمتد أهدافها ووظائفها إلى تنفيذ أحكام الإسلام في جميع شؤون المجتمع وحمل دعوة الإسلام إلى العالم، وأن تُمكّن الأفراد من عبادة الله والعيش وفق العقيدة الإسلامية وحسب المناهج التي وضعها الإسلام، وأن تزيل كل ما يناقض الإسلام وأنظمته الاجتماعية والاقتصادية.


ففي دولة الخلافة لم تكن الأهداف العليا لصيانة المجتمع من وضع الإنسان، بل هي من أوامر الله ونواهيه، وهي ثابتة لا تتغير ولا تتطور، فالمحافظة على نوع الإنسان، وعلى العقل، وعلى الكرامة الإنسانية، وعلى نفس الإنسان، وعلى الملكية الفردية، وعلى الدين وعلى الأمن، وعلى الدولة، أهداف عليا ثابتة لصيانة المجتمع، لا يلحقها التغيير ولا التطور، ووضع الشرع للمحافظة عليها عقوبات صارمة، فوضع الحدود والعقوبات للمحافظة على هذه الأهداف الثابتة؛ ولذلك يعتبر القيام بالمحافظة عليها واجباً، لأنها أوامر ونواهٍ من الله، لا لأنها تحقق قيما ماديةً. وهكذا يقوم المسلم وتقوم الدولة بجميع الأعمال حسب أوامر الله ونواهيه لأنها هي التي تنظم شؤون الإنسان كلها... ومن هنا كانت السعادة عند المسلم ليست إشباع الجسد وإعطاءه متعه، بل هي إرضاء الله سبحانه وتعالى.


والعقيدة الإسلامية عقيدة سياسية وروحية لأنها تنبثق عنها أفكار وأحكام تتعلق بشؤون الآخرة وتنبثق عنها أحكام تتعلق بشؤون الدنيا، وكذلك الأفكار والأحكام التي تتعلق برعاية الشؤون تنبثق عن العقيدة الإسلامية منها أفكار وأحكام تتعلق بشؤون الآخرة ومنها أفكار وأحكام تتعلق بشؤون الدنيا. فكانت العقيدة الإسلامية وحدها التي جمعت شأن الدنيا مع شأن الآخرة وعالجت الإنسان كله ولم تهمل حاجة لديه... فأوجدت لديه التوازن والانسجام والطمأنينة الدائمة ومزجت بين المادة والروح وبين الإيمان والسياسة وبين العبادة والجهاد. والتشريع في الإسلام لا يخضع لرغبات الناس وأهوائهم ومصالح المتنفذين منهم، بل الجميع يخضع لحكم الشريعة المستند إلى الوحي الرباني المنزه عن القصور البشري وغير الخاضع لأهواء البشر عبر الزمان والمكان. بالإضافة إلى كون التشريع الإسلامي ينسجم مع العقيدة الإسلامية، وهذا يعني خضوع المسلم في كيانه نفسيا وعقليا لعبودية خالقه، وليس هناك الصراع العنيف المخفي تحت قاعدة "فصل الدين عن الحياة"، والتي تقر بوجود الدين ولكنها تعزله عن تسيير مجريات الحياة، ما يخلق انفصاما بين عقيدة الفرد والتشريع المفروض عليه بقوة القانون.


ولذلك فإنّ قبول تشريعات وأنظمة من غير الخالق والأخذ بتشريع يخالف ما أمر به الخالق أو نهى عنه يُعد في الحقيقة عبودية لغير الخالق وتقديساً له، وهذا ما فعله الغرب حين نقل التقديس والاحتياج للخالق إلى تقديس الملوك والأباطرة والأمة والشعب.


فالإسلام قدم للعالم نظاما سياسيا فريدا يجعل تقوى الله تضبط سلوك الفرد والجماعة، ويحدد هذا النظام شبكة العلاقات والحقوق بين الحاكم والمحكومين وفيما بين أنفسهم.


والدولة الإسلامية تقوم على العقيدة الإسلامية، لأن مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقبّلتها الأمّة إنّما تنبثق عن العقيدة الإسلامية اليقينية، فكانت هذه العقيدة هي فكرتها الكلية عن الحياة، وبحسبها كانت نظرتها إلى الحياة ونتجت عنها نظرتها إلى المصالح، وعنها أخذت الأمّة مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات؛ ولذلك كانت العقيدة الإسلامية هي أساس الدولة الإسلامية.


ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام الدولة الإسلامية على أساس معيّن فيجب أن يكون هذا الأساس هو أساس الدولة الإسلامية في كل زمان ومكان. وقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم السلطان في المدينة وتولى الحكم فيها على أساس العقيدة الإسلامية من أول يوم، ولم تكن آيات التشريع قد نزلت بعد، فجعل شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله أساس حياة المسلمين والعلاقات بين الناس، ودفع التظالم وفصل التخاصم، أي أساس الحياة كلها وأساس السلطان والحكم.


والخلافة هي أهم مؤسسة في النظام السياسي الإسلامي، وهذا الاسم قد جاء به النص الشرعي، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوّة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً...» (مسند الإمام أحمد). فقد سمَّى الرسول صلى الله عليه وسلم النظام السياسي الذي قام بعده باسم "الخلافة". وفي الحديث الشريف: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر». قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم».


وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على لزوم إقامة خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وأجمعوا على إقامة خليفة لأبي بكر ثم لعمر ثم لعثمان ثم لعلي رضي الله عنهم جميعا.

 

 وقد تعرضت كتابات العلماء إلى ضرورة تنصيب الإمام أو الخليفة تأسيساً على الوظائف التي يجب أن يقوم بها. فيذهب مؤلف "العقائد النسفية" إلى "إن المسلمين لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم وسد ثغورهم، وتجهيز الجيوش، وأخذ صدقاتهم، وقهر المتغلبة وقطاع الطرق، وإقامة الجمع والأعياد، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، وتزويج الصغار الذين لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم"، وهذا ما يذهب إليه (الشهرستاني) حيث يقول "لا بد من إمام ينفذ أحكام المسلمين ويقيم حدودهم ويحفظ بيضتهم، ويحرس حصنهم ويهيئ جيوشهم، ويراعي فيهم أمور الجمع والأعياد، وينصف المظلوم وينتصف من الظالم، وينصب القضاة والولاة في كل ناحية، ويبعث بالقراء والدعاة إلى كل ظرف". وهذا ما يذهب إليه كذلك (البغدادي) حيث يرى أن "الإمامة فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإمام الذي ينصب لهم القضاة وينتصف لمظلومهم، ويضبط ثغورهم، ويغزي جيوشهم ويقسم الفيء بينهم" [9].


وقد وصف ابن خلدون مكانة الخلافة وأهميتها بقوله: "اعلم أن الملة لا بد لها من قائم عند غيبة النبي يحملهم على أحكامها وشرائعها، ويكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف، والنوع الإنساني أيضاً بما تقدم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري لا بد لهم من شخص يحملهم على مصالحهم، ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر، وهو المسمى بالملك، والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعاً لعموم الدعوة، وحمل الكافة على دين الإسلام طوعاً أو كرهاً، اتخذت فيها الخلافة والملك لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معاً... ثم اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه الملة الإسلامية مندرجة تحت الخلافة لاحتمال منصب الخلافة على الدين والدنيا كما قدمناه، فالأحكام الشرعية متعلقة بجميعها وموجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها، لعموم تعلق الحكم الشرعية بجميع أفعال العباد" [10].


ويتمثَّل دستور دولة الخلافة في المبادئ والأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم، وبيَّنتها السنة النبوية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والعلاقات، شخصية ومدنية، وجنائية وإدارية، ودستورية ودولية. وهي ليست مختارة في الالتزام بهذا الدستور أو القانون، فهذا مقتضى إسلامها ودليل إيمانها ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾. وإذا كانت الدول الحديثة تعتزُّ بأنها تلتزم بسيادة القانون أو الدستور فإن الدولة الإسلامية تلتزم بالشرع، ولا تخرج عنه، وهو القانون الذي يلزمها العمل به والرجوع إليه، وهو قانون لم تضعه هي بل فُرض عليها من سلطةٍ أعلى منها، وبالتالي لا تستطيع أن تلغيه أو تجمِّده.


والشرع هو الذي يتحكم في علاقة الأفراد ببعضهم وينظم علاقة الأمة والأفراد، فيخضع الحاكم والمحكومون لحكم الله، ومن هنا فإن السيادة للشرع وحده. ويقترب من معنى السيادة في الشريعة الإسلامية معنى الحاكمية أو الحكم حينما يراد به تقرير الآمر أي المشرع للمجتمع بتوجيهه الأوامر والنواهي؛ والحاكمية بهذا المعنى لا تثبت إلا لله تعالى وحده. وعليه فالسيادة، بمعناها المعاصر، هي للشرع وليس للشعب أو أي طرف آخر. فالحاكم والأمة يخضعان لسيادة الشرع، ويتعاونان في تطبيق أحكام الشريعة. فالحاكم يسهر على تطبيق الشريعة، وله على الأمة حق الطاعة في غير معصية، والأمة تحاسب الحاكم وتنصح له، فتبقى ساهرة على أدائه لضمان حسن تطبيق الشريعة.


والقرآن الكريم يشتمل على الكثير من الآيات القطعية الدلالة على أن السيادة للشرع لا للعقل، أي لله سبحانه الخالق وليس للإنسان المخلوق. "وقد ورد الحكم بمعنى السيادة والحاكمية، أي تقرير الأوامر والنواهي، وإسناد التقرير لله تعالى في أكثر من 30 آية من آيات القرآن الكريم... ولهذا فإن المعنى الأول للفظ "الحكم" أي تقرير الأحكام لا يثبت في النظام الإسلامي إلا لله تعالى، ومن هنا تكون السيادة للشرع وحده." ومن ذلك قوله تعالى:


- ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم﴾.


- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾.


- ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾.


- ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾.


- ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾.


- ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾


- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون﴾.


فالنصوص القرآنية لا تدع مجالاً للشك في أن الشرع وحده صاحب السيادة وأنه المرجع الوحيد لسنّ القوانين والدستور وأنه الحكم الفصل في كل ما يقع من منازعات، فقوله تعالى ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ أي أنّ الله هو الذي يقضي بينكم ويفصل في الحكم، فلا يجوز شرعاً في حال من الأحوال أن يجاز الاحتكام لغير شرع الله، لأن الاحتكام إلى غير الشرع كفر بالله ورسوله، وهذا ما لا يقع فيه المؤمنون الذين قال الله فيهم ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فالاحتكام إلى الشرع، دون سواه، فرض على الأمة.


فهذا يدل على أن تشريعات الدولة محصورة بما ينبثق عن العقيدة الإسلامية، وهي الأحكام الشرعية التي نعتقد أن الله أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء أكان إنزالها صريحاً بأن قال هذا حُكم الله وهو ما تضمنه الكتاب والسنّة وما أجمع عليه الصحابة بأنه حكم الله، أم كان إنزالها غير صريح بأن قال هذه علامة حكم الله، وهو ما يؤخذ بالقياس الذي علّته شرعية.


إن الدين الحق لا يمكن ابتداء أن يكون عقيدة مفصولة عن الشريعة، فالالتزام بالشريعة - في دين الله الحق - هو مقتضى العقيدة ذاتها. مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله... بحيث لا تكون الشهادة صحيحة وقائمة إن لم تؤد عند صاحبها هذا المعنى وهو الالتزام بما جاء من عند الله، والتحاكم إلى شريعة الله، ورفض التحاكم إلى أي شريعة سوى شريعة الله.


فالمسلم يتبع حكم الله في كل شأن من شؤون حياته، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. وقبول المسلم لشرع الله، هو رفض لشرع غيره... وقبوله لأية جزئية من جزئيات شرع غير الله هو رفض لشرع الله في هذه الجزئيات، وهذا يعني رفض شرع الله كله.


ويقوم النظام السياسي في دولة الخلافة على أساس أن السيادة للشرع، وأن السلطان للأمة. فالأمة هي التي تختار الخليفة فتبايعه بيعة رضا. فإنّ قاعدة السلطان أو السلطة للأمة كأحد أسس نظام الحكم الإسلامي، تعني حق الأمة في اختيار الحاكم الذي يباشر تنفيذ الأحكام ويشرف على ذلك، فالسيادة تعني تقرير الأحكام، أما السلطة (الخليفة) فهي التي تباشر تنفيذ الأحكام والأمة هي التي تنصب السلطة لتتولى هذه المهمة.

 

فالحكم والسلطان بمعنى واحد وهو السلطة التي تنفذ الأحكام، أو هو عمل الإمارة التي أوجبها الشرع على المسلمين لتطبيق أحكام الشرع في رعاية شؤون الأفراد والمجتمع في الداخل وفي السياسة الخارجية للدولة الإسلامية في علاقاتها مع الشعوب والدول. والإسلام نظام للحكم والدولة، وللمجتمع والحياة، وللأمة والأفراد، فهو دين ومبدأ والحكم والدولة جزء منه، ولا يوجد الإسلام وجوداً حياً إلا إذا كانت له دولة تطبقه في جميع الأحوال. وهي دولة سياسية بشرية، وليست دولة إلهية روحية، وليس لها قداسة، ولا لرئيسها صفة العصمة.


وما حصل مع الخلفاء الراشدين أنهم إنما أخذوا البيعة من الأُمة، وما صاروا خلفاء إلا بواسطة بيعة الأُمة لهم. فالبيعة من قِبَل المسلمين للخليفة، وليست من قِبَل الخليفة للمسلمين، فهم الذين يبايعونه، أي يقيمونه حاكماً عليهم، وأما جعل الخليفة يأخذ السلطان بهذه البيعة فواضح في أحاديث الطاعة، وفي أحاديث وحدة الخـلافة، روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»، وروى مسلم عن نافع قال: قال لي عبد الله بن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».


وقد عرّف ابن خلدون البيعة بأنها "العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه، وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره". ومن هذا القول يتضح "أن البيعة هي عهد بين الأمة والحاكم على الحكم بالشرع وطاعتهم له"... واصطلاحا "الأصوب أن يقال: البيعة هي حق الأمة في إمضاء عقد الخلافة"، وهذا التعريف يمثل البيعة من جهة أنها وجه من وجوه العمل السياسي الذي تمارسه الأمة وهي تستخدم حقها في السلطان الذي هو أصلا لها، لأن رئيس الدولة لا يمارس أي سلطان إلا بالبيعة، فالبيعة ركيزة أساسية لسلطان الأمة، بمعنى أن الأمة إن لم تمارس حقها في البيعة، يكون السلطان قد انتزع منها، ويتخلخل نظام الحكم في الإسلام، بأن يخرج في بعض صوره عن الشرع.


أما السؤال عن الإشكالات العملية التي قد تعترض التطبيق الكامل لأحكام الشريعة وإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة، فيرد في البال أمور عدة نجملها فيما يلي:


1- عدم الوعي على الأحكام التفصيلية لنظام الحكم في الإسلام، بحيث لا يعي بعض المسلمين واقع النظام السياسي في الإسلام وما يوجبه من حقوق وواجبات على الحاكم وعلى الأمة، وهذا الجهل هو نتيجة إقصاء الإسلام عن التطبيق العملي بعد هدم دولة الخلافة سنة 1924م / 1342هـ. ومعالجة هذا الجهل يكون بتكثيف العمل الدعوي لتوعية الناس عموما على طبيعة النظام السياسي في الإسلام، وهذا أمر ميسور في ظل توافر وسائل الاتصالات الحديثة. إن قوة الفكرة الإسلامية مقرونة بطريقتها كافية لإقامة دولة إسلامية، ولاستئناف الحياة الإسلامية، إذا غرست هذه الفكرة في القلوب، وتغلغلت في النفوس، وتجسدت في المسلمين، فأصبحت إسلاماً حياً يعمل في الحياة.


2- وجود هالة من الإكبار للحضارة الغربية، مما يجعل بعض المثقفين يروج لسمومها بحسن نية أو بسوئها، فكثير منهم يعتبر الحضارة الرأسمالية هي نهاية التاريخ، وهو بهذا يصم آذانه ويكف بصره وبصيرته عن الأزمات المتلاحقة والتي يأخذ بعضها برقاب بعض على كل المستويات: في الاقتصاد العالمي والمحلي، وفي الفكر وفي الثقافة، وفي السياسة الاستعمارية الكالحة التي لا تحتاج لإقامة الدليل عليها.


3- إصرار الدول الاستعمارية والطامعة في بلادنا على المكر المتواصل لمنع تحرر الأمة من قيود التبعية للغرب، فهي تمكر بنا الليل والنهار لإيجاد القلاقل والمشاكل وتسخير الحكام لتنفيذ مخططاتها في تفتيت الأمة، وفي فتح الأبواب على مصاريعها أمام الشركات الغربية لنهب الثروات، والقضاء على الصناعات المحلية بينما تتخذ من المنطقة سوقا استهلاكية لبضائعها، وهذا ينطبق في أمور السلاح كما في أمور الصناعات المدنية، يساعدها في ذلك وجود حكام لا يهمهم إلا الحفاظ على كرسي الحكم وبعض الفتات لمتاعهم هم وحاشيتهم، ومن سولت له نفسه من الأمة المطالبة بالتحرر من التبعية للغرب كانوا له بالمرصاد فأحصوا عليه أنفاسه وعملوا على كتمها بكل الطرق، بمباركة عواصم الحضارة الغربية.


4- ومع ذلك فلا بد لساعة التحرر أن تدق إن عاجلا أو آجلا، فساعة الخطر، كما قال مالك بن نبي، تدق مرتين: تدق في اللحظة التي يفقد فيها المجتمع مسوغاته التقليدية، المسوغات التي أطلقت طاقاته ووحدت جهوده، وتدق في اللحظة التي يبدأ يستعيد فيها مسوغاته المفقودة. ولقد أدرك قادة الغرب أن الأمة قد انطلقت في مسيرتها للتحرر من التبعية الغربية، ولتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس. أو كما قال أحدهم لا يوجد قوة ولا جيوش تستطيع أن توقف فكرة قد آن أوانها.


5- يضخّم البعض من تفاصيل تحكّم الغرب بمفاصل الحياة على الكون، حتى ليكاد يضعه في موضع الرب، يمنح الحياة لمن يشاء ويحرمها من يشاء، ويحذّر من يعمل للتحرر من الهيمنة الغربية بأنه يجازف بالخروج خارج الزمان والمكان المعاصرين. بينما الواقع يشهد أن العنجهية الغربية إلى زوال، وأول ذلك إفلاس الغرب الفكري إذ يعجز عن الدفاع عن حضارته المفلسة فيغطي عورته باللجوء إلى القوة المادية العارية[11] لفرض نظامه على البشرية، ومع ذلك فقد أنبأنا القرآن الكريم عن أقوام سابقين. ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.


وقال القرآن الكريم عن عاد وثمود وفرعون: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ﴾


وعن قوم نوح أنهم كانوا أطغى من عاد وثمود: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى﴾


﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ﴾


6- قد يعترض البعض قائلا كيف لكم أن تواجهوا الغرب بما يملكه من إمكانيات مادية هائلة غير مسبوقة في التاريخ البشري، وأنتم تحتاجون لصناعاته والتكنولوجيا الغربية؟ والجواب يقتضي التمييز بين الحضارة والمدنية، فما كان من شؤون الحضارة، أي المفاهيم والأفكار المتعلقة بالعقيدة فلا يجوز بحال لمسلم أن يقلدها، لتناقضها مع العقيدة الإسلامية،


أما المدنية وهي الأشكال المادية الناتجة عن العلوم والصناعات فما كان منها عالميا لا يرتبط بالعقيدة، فلا ضير في أخذه، فهذه وسائل مادية عالمية لا تختص بملة دون أخرى. فعلوم الطبيعة من فيزياء وكيمياء وطب وهندسة يحوزها المسلم والنصراني والبوذي والشيوعي، فلا داعي لخلط الأمور بالزعم الفاسد أن الإسلام ضد الحضارة وضد المدنية، بل الإسلام ضد الحضارة القائمة على عقيدة فاسدة باطلة، ويجيز الاستفادة من ثمرات المدنية التي هي عالمية بطبيعتها بين الشعوب.


7- وأختصر القول بأنه فيما يتعلق بالسياسة الداخلية لدولة الخلافة فإنها تقوم على حسن تطبيق الإسلام في رعاية شؤون الناس، مسلمين وغير مسلمين، بحسب الأحكام الشرعية؛ وفي العلاقات الخارجية فتقوم على حمل الدعوة للعالم بالجهاد الذي يهدف لتحطيم الحواجز المادية التي تحول دون معرفة الناس بالرسالة الإسلامية، والناس بعد ذلك أحرار في اعتناق الإسلام أو البقاء على دياناتهم، مع خضوعهم لأحكام الإسلام، وهم آمنون على أموالهم وأعراضهم ودياناتهم دون إكراه ولا يفتنون عنها.


فدولة الخلافة التي نسعى لها هي عكس دول الضرار اليوم المفرقة المتشرذمة في أكثر من دولة لا تطبق شرع الله، توحد بلاد المسلمين الممتدة من إندونيسيا شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، وهذا يعني مساحة جغرافية هائلة وثروات هائلة في هذه البلاد، وقوة لا يمكن لدول العالم اليوم أن تفكر بالاعتداء عليها مهما كانت الدول الغربية قوية. عكس دول اليوم في العالم الإسلامي كثيرة العدد، ضعيفة القوة، متناحرة فيما بينها، ثرواتها مبعثرة يستأثر بها الغرب والحكام الموجودون هم وأفراد عائلاتهم، ولشخص أن يتخيل دولا كلبنان والكويت والبحرين وقطر، على سبيل المثال ما القوة التي تمثلها هذه الدول منفردة. وما فائدة السلاح الذي ينفق عليه عشرات مليارات الدولارات حين يسخر لخدمة مصالح الدول الاستعمارية؟ 

 

 8- ولمن يسأل: وما الطريقة التي ينتهجها حزب التحرير لإقامة دولة الخلافة فالجواب أن الطريقة تقوم ببساطة على شقين:


الشق الأول: بناء الرأي العام المنبثق عن وعي عام على الإسلام والخلافة والحكم بالإسلام.


الشق الثاني: طلب النصرة من أهل القوة والمنعة لتطبيق النظام الإسلامي. وهذه الطريقة هي حكم شرعي مستمد من أمر الله سبحانه بالسير على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم.


ولا حاجة لذكر أن الحزب رفض القيام بالعمل المادي من أول يوم تأسس فيه، بل أصر على اتباع سبيل الكفاح السياسي والصراع الفكري. وهناك من يسأل ألم يحن الأوان لإعادة النظر بهذه الطريقة فقد مضى عليكم عقود لا تتزحزحون عنها ولم تثمر في إقامة الخلافة التي تنشدون؟ والجواب أننا مكلفون باتباع الحكم الشرعي، فحين يتغير الواقع يتغير الحكم الشرعي، والواقع اليوم لم يختلف عما كانت الأمة عليه قبل 20 أو 40 سنة، فكيف يتغير الحكم الشرعي؟ فنحن نعيد النظر دوما في مواقفنا وأفكارنا، ومتى اهتدينا إلى فهم جديد لمسألة قديمة بادرنا إلى تعديل الفهم السابق دون حرج، وذلك بحسب آلية الفهم والاجتهاد المنضبط، وليس تحت ضغط الواقع أو الأهواء والمصالح. والأمر لله من قبل ومن بعد، ونحن لا نشك أن علينا الثبات على حكم الله حتى يأتي الله بأمره، فها هو العالم يشهد بأن الدعوة لإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة تتردد أصداؤها في جنبات بلاد المسلمين من الشرق إلى الغرب، وفي هذا ما يبشر بأن فجر الخلافة على منهاج النبوة قد لاح وعسى أن يكون قريبا.

 

 

الهوامش:

 

 


[1]"فللمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوروبا الذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض، يُراد اتخاذها وحدة وجودية، يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر ليكوّنا وحدة متكاملة، ذات شخصية مستقلة، تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين، وللمرة الأولى نجد اهتمامًا بالتاريخ القديم يوجّه لتدعيم هذا المفهوم الوطني الجديد." حسين، محمد محمد، الإسلام والحضارة الغربية، ص 19. وكشف المستشرق اليوناني (بي. جي. فاتكيوتس) بوضوح دور الطهطاوي في قوله: "كان (الطهطاوي) معجباً بعقلية التنوير الأوروبي، وكان أول مـن قـدّم بطريقة منظمة وذكية المبادئ العامة للمؤسسات السياسية الأوروبية، ومن خلال شرحه لأفكار عصر التنوير والثورة الفرنسية وهما عماد هذه المؤسسات، فقد فتح الطريق لتابعيه للهجوم المكثف على كل ما هو تقليدي... أدخل الطهطاوي إلى قرائه، وهو يصف الدستور الفرنسي والمؤسسات السياسية الفرنسـية، فكرة (السلطة العلمانية) ومفهوم (القانون الوضعي)." فاتيكيوتس، بي جي (P.J. Vatikiotis)، تاريخ مصر من محمد علي إلى حسني مبارك، ص 418.


جاء في مذكرة القنصل الفرنسي في بيروت (بلونش) التي قدمها عام 1856م إلى وزير خارجية بلاده قوله: "الحقيقة الكبرى والأبرز التي تحضر في أثناء دراسة هذه البلدان هي المكانة التي يحتلها الفكر الديني في أذهان الناس، والسلطة العليا التي يشكلها في حياتهم. فالدين يظهر حيث كان، وهو بارز في كل المجتمع الشرقي، في الأخلاق وفي اللغة والأدب وفي المؤسسات، وترى أثره في كل الأبواب. الشرقي لا ينتمي إلى وطن حيث ولد، الشرقي ليس له وطن، والفكرة المعبرة عن هذه الكلمة، أي عن كلمة وطن، أو بالأحرى عن الشعور الذي توقظه، غير موجودة في ذهنه، فالشرقي متعلق بدينه كتعلقنا نحن بوطننا..."، محمد السماك، مقال: في معنى استشهاد الإمام الحسين، جريدة المستقبل اللبنانية، الاثنين 29 كانون الثاني 2007 - العدد 2515.


[2] أرنولد توينبي، " محاكمة الحضارة " Civilization on Trial، 84-86، و 187.


[3] "خلقت الطبيعة الإنسان بحيث يمكنه أن يشتهي كل شيء مع أنّه لا يستطيع أن يحصل على كل ما يشتهيه. وهكذا لما كانت الشهوة متفوقة دائما على القدرة على الكسب ينتج من ذلك استياء مما يمتلك وعدم رضا عن الذات. من هنا تولد التبدلات في حظ الناس، لأنّ الناس إذ يرغبون في الكسب ويخشون خسارة مكاسبهم يؤدي بهم ذلك إلى العداوات والحروب".


[4] كانت هذه النظرية أساس حكم الملوك في القرنين السابع عشر والثامن عشر إذ تشبثوا بها خصوصاً في فرنسا، حيث عبّر عنها الملك لويس الرابع عشر (1638-1715م) بقوله: "إن سلطة الملوك مستمدة من تفويض الخالق، فالله مصدرها وليس الشعب، وهم (أي الملوك) مسؤولون أمام الله وحده عن كيفية استخدامها. وقد أخذ غليوم الثاني (1859-1918م) إمبراطور ألمانيا عشية الحرب العالمية الأولى بهذه النظرية، إذ ذكر في إحدى خطبه أنه يستمد سلطته من الله، وأنه مختار من الله، ولذا فليس عليه أن يحفل بالرأي العام أو بمشيئة (البرلمان). ويقول ويل ديورانت في عمله الموسوعي قصة الحضارة، ج 9، ص 143-144. "استطاعت الكنيسة بنفوذها أن تجعل الملوك والأباطرة طوع إرادتها. وأعلن البابا ( نقولا الأول 858-867م) بياناً قال فيه: "إنّ ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها. وإنّ أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل؛ (ولذلك) فإنّ البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاماً كانوا أو محكومين".


[5]جان جاك روسّو، ولد في جنيف في 1712م، وكان جد أسرته الفرنسي هاجر من باريس إليها في سنة 1550م أيام الحروب الدينية، فقد أمه باكرا في حياته، ثم هجره والده فعانى من حياة ضنك وشقاء وتشرد وهو فتى يافع، تنقل فيها بين الكاثوليكية والبروتستانية وخبر فساد رجال الدير فهجره، واتخذ عدة عشيقات، ولدت إحداهن، تريز، له خمسة أولاد دفع بهم إلى ملجأ اللقطاء معتذرا بضيق الحال واضطراره إلى كسب عيشه بكده، وبعد عشرة ربع قرن تزوجها بعد أن طلبت فراقه. فهذا حال النبي المزعوم لـ"العقد الاجتماعي".


[6]وقد أشار الكاتب رونالد سترومبرغ إلى البلبلة التي كان يعيشها روسو، بقوله: "نرى لزاماً علينا أن نلخّص "قضية روسو" المعقدة، ولربما كان أفضل مثل لنا على روسو هو ثنائية القطب لديه أو تناقضاته، إذ يقول روسو إن الإنسان ولد حراً، لكنه يستعبد نفسه، وهو بطبيعته صالح لكنه فاسد طبيعياً، وهو يكره السلطة ولكنه يحتاج إليها، وينبغي أن يكون له دين، ولكنه لن يخضع لأي إله، وإن التاريخ سلسلة من الرعب ولكنه قد ينتهي إلى الطوباوية، وهكذا دواليك". رونالد سترومبرج، تاريخ الفكر الأوروبي، ص 213.


[7] جوزيف راندال، تكوين العقل الحديث، ج1، ص281.


Samuel P Hintington, The Clash of Civilizations, Simon & Schuster, 1997, pp 41- 43 [8]


[9] البغدادي، عبد القاهر بن طاهر، الفرق بين الفرق، ص125.


[10] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، المقدمة، ج 3، 234


[11] يذكر ماك فرو في مقدمته لكتاب "الاستعمار الكتاب الأسود" أن الكتب المدرسية في فرنسا لم تسلم من تعبئة الأطفال على كراهية الشعوب المستعمَرة فيقول "لقد كانت الكتب المدرسية في فرنسا تسرد بابتهاج كيف كان بوجو وسانت أرنو يحرقان القرى خلال احتلال الجزائر، وكيف كان الضباط الإنجليز إبان ثورة 1857 يضعون الهندوس والمسلمين على أفواه المدافع"، "الاستعمار الكتاب الأسود" مجموعة من المؤلفين، ص150. ويلاحظ أن قوة الاقتصاد الغربي نمت تحت القوة والعنف وتلازمت مع الحروب فكلما تطور الاقتصاد احتاج إلى شن الحروب وسن قوانين إخضاع الشعوب واستنزافها، وقد أودت الحروب الغربية في المستعمرات بما يفوق 100 مليون قتيل معظمهم من المسلمين والزنوج والهنود!! عدا ما خلفته من دمار وخراب وتجويع وتخلف واستلاب!!.

 

 

2 تعليقات

  • ام عبدالله
    ام عبدالله الأربعاء، 04 كانون الثاني/يناير 2017م 20:51 تعليق

    جزاكم الله خيرا وبارك جهودكم

  • محمد شامي
    محمد شامي الأربعاء، 04 كانون الثاني/يناير 2017م 20:12 تعليق

    ما شاء الله على هذا الجهد الرائع وهذا الفكر الذي يعبر عن الارتقاء الفكري والسياسي
    بارك الله بجهودكم وجعله في ميزان حسناتكم

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع