- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
مع الحديث النبوي الشريف (8)
أتاكم أهل اليمن... هم ألين قلوباً وأرق أفئدة!!
نَحُيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ المُستَمِعُونَ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ, نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم "مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ" وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ:
رَوَى مُسلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَلْيَنُ قُلُوبًا وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ، وَرَأْسُ الْكُفْرِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ».
مستمعينا الكرام:
"القُلُوبُ" مُفرَدُهَا "قَلْبٌ". مِنهَا القَاسِيَةُ وَمِنهَا اللَّينَةُ قَالَ تَعالَى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةًۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). (البقرة 74) وَقَالَ تَعَالَى: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِاللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). (الزمر 23)
وَ"الأَفئِدَةُ" مُفرَدُهَا "فُؤَادٌ". مِنْهَا الرَّقِيقَةُ وَمِنْهَا غَيرُ الرَّقِيقَةِ. قَالَ تَعَالَى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ). (الملك 23) وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا). (الإسراء 36)
وَالسُّؤَالُ الوَارِدُ فِي هَذَا المَقَامِ: هَلْ هُنَاكَ فَرقٌ بَينَ القُلُوبِ وَالأفئِدَةِ؟ أم أنَّهُمَا اسمَانِ لِمُسَمَّىً وَاحِدٍ؟ لِلإِجَابَةِ نَقُولُ: بَحَثَ هَذِهِ المَسألَةَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ مِنهُمُ الدُّكتُور: "فَاضِلْ السَّامَرَّائِي", وَالدُّكتُور: "حُسَام النُّعَيمِي". وَإِلَيكُمْ بَعضَ مَا قِيلَ فِي هَذَا الشَّأنِ:
قَالَ بَعضُهُم: الفُؤَادُ هُوَ القَلبُ نَفسُهُ, وَقَالَ بعضُهُم: لَيسَ القَلبُ هُوَ الفُؤادُ, وَإِنَّمَا الفُؤَادُ هُوَ غِشَاءُ القَلْبِ؛ لأنَّ لُغَتنَا العَرَبيَّةَ لُغَةٌ دَقِيقَةٌ. فَهِيَ تُسَمِّي أجزَاءَ الأشيَاءِ, تُسَمِّي كُلَّ جُزءٍ بِاسمِهِ. فَالَّذِي يَتَرَجَّحُ لَدَينَا مِنْ ألفَاظِ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ ألفَاظِ القُرآنِ الكَرِيمِ أنَّ الفُؤَادَ هُوَ غِشَاءُ القَلْبِ. لَكِنْ عِندَمَا يُذكَرُ الفُؤَادُ فِي نُصُوصِ القُرآنِ وَالحَدِيثِ النَّبوِيِّ, فَإِنَّ الفُؤَادَ يَعنِي غِشَاءَ القَلْبِ وَمَا فِي دَاخِلِهِ؛ لأَنَّ أصْلَ الفُؤَادِ مِنَ التَّفَؤُّدِ, وَيَعْنِي التَّوقُّدَ وَالاشتِعَالِ وَالحُرقَةِ, فَكَأَنَّ القَلبَ هُوَ مَوضِعُ هَذِهِ الأَشيَاءِ, فَلِذَلِكَ استُعمِلَ هَكَذَا فِي هَذَا المَكَانِ.
لَقَدْ كاَنَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أهْلَ اليَمَنِ وَيَقُولُ: «الإِيمَانُ يَمَانٍ». وَيَقُولُ: «أتاكُمْ أهْلُ اليَمَنِ هُمْ أرَقُ أفئِدَةً وَألْيَنَ قُلُوبًا». وَفِي لسَانِ العَرَبِ: "فأدَ الخُبزَةَ فِي المَلَّة يَفْأَدُها فَأْداً شَوَاهَا". القَلْبُ يَشتَوِي أحيَانًا بِمَا يُسمَعُ وَمَا يُقَالُ لَهُ, وَلَيسَ عَلَى سَبِيلِ الشِّوَاءِ الحَقِيقِيِّ!! وَسُمِّيَ القَلْبُ الفُؤَادَ لِتَفَؤُّدِهِ وَتَوَقُّدِهِ, وَقِيلَ: "الفُؤَادُ وَسَطُ القَلْبِ". وَقِيلَ: "الفُؤَادُ غِشَاءُ القَلْبِ" وَهَذَا الَّذِي اخْتَرنَاهُ. وَلَكِنْ عِندَمَا نَقُولُ: "اخْتَرَنَا هَذَا المَعنَى لا نَعنِي أنَّنا نُلغِي المَعَانِيَ الأُخرَى؛ لأَنَّهَا أقوَالٌ وَآرَأءٌ لِبَعضِ عُلَمَائِنَا تَوَصَّلُوا إِلَيهَا مِنْ خِلالِ اطِّلاعِهِمْ عَلَى لُغَةِ العَرَبِ، وَلَنَا أنْ نَختَارَ مَا يَتَرَجَّحُ لَدَينَا مِنهَا, عِندَمَا يَكُونُ لِلعُلَمَاءِ أكثَرُ مِنْ رَأيٍ. الشَّاهِدُ الَّذِي بَينَ أيدِينَا يُقَوِّي اخْتِيَارَنَا الذي اختَرْنَاهُ: فَفِي قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتاكُمْ أهْلُ اليَمَنِ هُمْ أرَقُ أفئِدَةً وَألْيَنَ قُلُوبًا». ذَكَرَ الفُؤَادَ وَالقَلْبَ, فَوَصَفَ الفُؤَادَ بِالرِّقَّةِ, وَوَصَفَ القَلْبَ بِالِّلينِ. وَالرِّقَّةُ والشَّفَافِيَّةُ لِلشَّيءِ الرَّقِيقِ, وَالِّلينُ لِلشَّيءِ السَّمِيكِ الغَلِيظِ الَّذِي لَهُ بُعْدٌ. فَالقَلبُ لَيِّنٌ, وَالفُؤَادُ رَقِيقٌ. الفُؤَادُ هُوَ الغِشَاءُ الَّذِي يُغَطِّي, وَالقَلْبُ هُوَ الَّذِي يَلِينُ, وَالحَدِيثُ الَّذِي بَينَ أيدِينَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ بِشَكْلٍ لا لَبْسَ فِيهِ؛ لأنَّهُ استَعمَلَ الكَلِمَتَينِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ! استَعمَلَ لِلفُؤَادِ الرِّقَّةَ, وَلِلقَلْبِ الِّلينَ, وَالِّلينُ غَيرُ الرِّقَّةِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا دَلالَةُ قَولِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ القَصَصِ (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)؟ (القصص10) لِلإِجَابَةِ نَقُولُ: تَستَعمِلُ العَرَبُ كَلِمَتَي "القَلْب" وَ"الفُؤَاد" بِمَعنًى وَاحِدٍ, وَلَكِنَّ الحَدِيثَ فَرَّقَ بَينَ الاثنَينِ فَجَعَلَ الفُؤَادَ لِلغِشَاءِ, "أرقّ أفئدة" وَجَعَلَ الِّلينَ لِلقَلْبِ, و"ألين قلوباً". فَأَخَذنَا بِالقَولِ الوَارِدِ فِي لِسَانِ العَرَبِ: "وَالفُؤادُ القَلْبُ, وَقِيلَ: وَسَطُهُ وَقِيلَ: الفُؤَادُ غِشاءُ القَلْبِ" وَهَذَا لا يَتَعَارَضُ مَعَ الآيَةِ, فَفَرَاغُ فُؤَادِ أمِّ مُوسَى يَتَضَمَّنُ فَرَاغَ القَلْبِ أيضًا, وَلَيسَ فَرَاغًا حَقِيقِياًّ, وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الانشِغَالِ, فَهِيَ لَمْ تَعُدْ مُنشَغِلَةً. وَقَولُهُ تَعَالَى (لَولا أنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلبِهَا) أي صبَّرنَاهَا؛ لأَنَّ الرَّبطَ عَلَى القَلْبِ بِمَعنَى التَّصبِيرِ، رَبَطَ عَلَى قَلبِهِ أيْ صَبَّرَهُ. كَذَا فِي المُعجَمْ!!
مستمعينا الكرام:
وَقَالَ بَعضُ العُلَمَاءِ: وَصَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلِينِ الْقُلُوبِ وَرِقَّتِهَا، ثُمَّ نَسَبَ الإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ إِلَيْهِمْ، كَأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ بِنَاءَ الإِيمَانِ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالرِّقَّةِ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ صِفَةَ مَنْ نُسِبَ الإِيمَانُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: "الإِيمَانُ يَمَانٍ". وَالْحِكْمَةُ هِيَ: الإِصَابَةُ لِمَا يَرْضَى بِهِ اللَّهُ وَمَا يُحِبُّهُ، وَتَرْكُ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، وَلا يُنَالُ ذَلِكَ إِلا بِرِقَّةِ الْقَلْبِ وَصَفَائِهِ، فَيَشْهَدُ فِيهِ زَوَاجِرَ الْحَقِّ، لأَنَّ زَوَاجِرَ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ، فَمَنْ كَانَ أَصْفَى قَلْبًا فَإِنَّهُ أَحْسَنُ إِدْرَاكًا لِذَلِكَ الزَّاجِرِ، وَأَشَدُّ إِصَابَةً لَهُ، لِذَلِكَ نَسَبَ الْحِكْمَةَ إِلَى مَنْ رَقَّ قَلْبُهُ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الْقَلْبِ وَالْفُؤَادِ عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفُؤَادُ عِبَارَةً عَنْ بَاطِنِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْحُكَمَاءَ قَالُوا: الصَّدْرُ خَارِجُ الْقَلْبِ، وَالْفُؤَادُ دَاخِلُهُ، فَوَصَفَ الْقَلْبَ بِاللِّينِ، وَالشَّيْءُ اللَّيِّنُ يَنْثَنِي وَيَنْعَطِفُ، وَهُوَ التَّقَلُّبُ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لأَنَّهُ مُتَقَلِّبٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لأَنَّهُ يَتَقَلَّبُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ». وَالْمُتَقَلِّبُ يَتَقَلَّبُ إِلَى كَذَا، فَكَأَنَّهُ وَصَفَ أَهْلَ الْيَمَنِ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ أَلْيَنُ وَأَكْثَرُ تَقَلُّبًا وَتَثَنِّيًا، وَأَنَّ تَثَنِّيَهَا وَانْقِلابَهَا إِلَى الإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ أَكْثَرُ مِنْهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا، لأَنَّ أَفْئِدَتَهُمْ أَرَقُّ فَهِيَ أَكْثَرُ شُهُودًا لِلْغَيْبِ، لأَنَّ الشَّيْءَ الرَّقِيقَ أَنْفَذُ فِي خِلالِ الأَشْيَاءِ الْمَانِعَةِ، وَالْحُجُبِ السَّاتِرَةِ مِنَ الشَّيْءِ الْغَلِيظِ، وَمَنْ خَرَقَ الْحُجُبَ أَدْرَكَ الإِيمَانَ وَحَقِيقَتَهُ، وَالْحِكْمَةَ الَّتِي هِيَ التَكَلُّمُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَشَارَ بِلِينِ الْقَلْبِ إِلَى خَفْضِ الْجَنَاحِ, وَلِينِ الْجَانِبِ، وَالانْقِيَادِ وَالاحْتِمَالِ وَتَرْكِ الْعُلُوِّ وَالتَّرَفُّعِ؛ لأَنَّ هَذِهِ الأَفْعَالَ إِنَّمَا تَظْهَرُ مِمَّنْ لانَ قَلْبُهُ، وَهِيَ أَوْصَافُ الظَّاهِرِ، وَأَشَارَ بِرِقَّةِ أَفْئِدَتِهِمْ إِلَى شَفَقَتِهِمْ عَلَى الْخَلْقِ، وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ، وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ، وَالتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ، وَالنُّصْحِ لَهُمْ، وَأَنْ يُحِبُّوا لَهُمْ مَا يُحِبُّونَ لأَنْفُسِهِمْ، وَهَذِهِ أَوْصَافُ الْبَاطِنِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ أَحْسَنُ أَخْلاقًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» فَقَوْلُهُ: "الإِيمَانُ يَمَانٍ" أَيْ: أَهْلُ الْيَمَنِ أَكْمَلُ النَّاسِ إِيمَانًا، وَتَكُونُ الْحِكْمَةُ مِنْ أَوْصَافِ مَنْ كَمُلَ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُهُ لَهُمْ بِلِينِ الْقُلُوبِ إِشَارَةً إِلَى قَبُولِ الْحَقِّ، لأَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ أَجَابُوا إِلَى الإِسْلامِ بِالدَّعْوَةِ دُونَ الْمُحَارَبَةِ وَالْقِتَالِ، فَقَبِلُوا الْحَقَّ لِلِينِ قُلُوبِهِمْ؛ لأَنَّ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ لا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَإِنْ كَثُرَتْ دَلائِلُهُ، وَقَامَتْ حُجَجُهُ، قَالَ تَعَالَى: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). (البقرة 74)
أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ قَسَا قَلْبُهُ لا يَرْجِعُ إِلَى الْحَقِّ، وَإِنْ ظَهَرَتْ أَعْلامُهُ، وَالآيَاتُ إِنَّمَا يَعْقِلُهَا مَنْ كَانَتْ صِفَتُهُ ضِدَّ صِفَةِ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلِذَلِكَ نَسَبَ الإِيمَانَ إِلَيْهِمْ، لأَنَّهُمْ قَبِلُوهُ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَنَسَبَهُمْ إِلَى الْحِكْمَةِ، لأَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الإِصَابَةُ لِلْحَقِّ، فَأَصَابُوا الْحَقَّ، فَآمَنُوا لِلِينِ قُلُوبِهِمْ وَمُوَاتَاتِهِمْ، وَقَبُولِهِمُ الْحَقَّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "أَرَقُّ أَفْئِدَةً" إِشَارَةً إِلَى أنَّ فِي نَظَرِهِمْ إِلَى أَحْوَالِ الْغُيُوبِ رِقَّةً، وَبِذَلِكَ تَشْهَدُ أَحْوَالُهُمْ، وَيَعْرِفُهَا مَنْ شَاهَدَهُمْ، كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ فِي الأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَقْوَى مِنْهُمْ فِي الأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أعْلَى وَأعْلَمُ.
مستمعينا الكرام: نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي - ولاية الأردن
2014/8/31م