- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي (ح 62)
الأساس الذي يقوم عليه تقدير الأجرة
الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ لِلنَّاسِ أحكَامَ الرَّشَاد, وَحَذَّرَهُم سُبُلَ الفَسَاد, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيرِ هَاد, المَبعُوثِ رَحمَةً لِلعِبَاد, الَّذِي جَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ الجِهَادِ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطهَارِ الأمجَاد, الَّذِينَ طبَّقُوا نِظَامَ الِإسلامِ فِي الحُكْمِ وَالاجتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقتِصَاد, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ يَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَومَ التَّنَاد, يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العِبَادِ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا إِروَاءُ الصَّادِي مِنْ نَمِيرِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي, وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّانِيَةِ وَالسِّتِينَ, وَعُنوَانُهَا: "الأسَاسُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيهِ تَقدِيرُ الأُجْرَةِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَفحَةِ الثَّانِيَةِ بَعدَ المِائَةِ مِنْ كِتَابِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي فِي الإِسلامِ لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
أمَّا الأسَاسُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيهِ تَقدِيرُ الأُجرَةِ مِنْ قِبَلِ الخُبَرَاءِ، فَهُوَ المَنفَعَةُ، سَوَاءٌ أكَانَتْ مَنفَعَةَ العَمَلِ، أمْ مَنفَعَةَ العَامِلِ؛ لأنَّ عَقْدَ الإِجَارَةِ وَارِدٌ عَلَى المَنفَعَةِ، فَتَكُونُ هِيَ الأسَاسُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيهِ تَقدِيرُ الأُجرَةِ. فَلا تُقَدَّرُ الأُجْرَةُ بِإنتَاجِ الأجِيرِ، وَلا بِأدْنَى حَدٍّ لِمُستَوَى عَيشِهِ بَينَ جَمَاعَتِهِ، فَلا دَخْلَ لإِنتَاجِ الأجِيرِ، وَلا لارتِفَاعِ مُستَوَى المَعِيشَةِ فِي تَقدِيرِهَا، وَإِنَّمَا يَرجِعُ تَقدِيرُهَا لِلمَنفَعَةِ، فَبِحَسَبِ تَقدِيرِ الخُبَرَاءِ لِقِيمَةِ هَذِهِ المَنفَعَةِ فِي المُجتَمَعِ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ، يُقَدِّرُونَ أجْرَةَ الأجِيرِ، وَحِينَ يُقَدِّرُ الخُبَرَاءُ أجْرَةَ العَمَلِ، وَأُجرَةَ العَامِلِ، يَنظُرُونَ إِلَى قِيمَةِ هَذِهِ المَنفَعَةِ فِي المُجتَمَعِ، فَيُقَدِّرُونَهَا بِقِيمَةِ المَنفَعَةِ الَّتِي أدَّاهَا العَامِلُ أو العَمَلُ. فَإِذَا جَرَى الاختِلافُ عَلَى تَقدِيرِ قِيمَةِ المَنفَعَةِ فِي المُجتَمَعِ، فَلا يَجُوزُ أنْ تُقَدَّرَ بِالبَيِّنَةِ وَالحُجَّةِ، بَلْ يُكتَفَى بِرَأيِ الخُبَرَاءِ؛ لأَنَّ المَسألَةَ مَعرِفَةُ قِيمَةِ المَنفَعَةِ لا إِقَامَةُ بَيِّنَةٍ عَلَى مِقدَارِهَا.
هَذَا هُوَ الأَسَاسُ الَّذِي يَجرِي عَلَيهِ تَقدِيرُ الأُجرَةِ، وَهُوَ المَنفَعَةُ حَسَبَ تَقدِيرِ الخُبَرَاءِ. إِلاَّ أنَّهُ حِينَ يُقَدِّرُ الخُبَرَاءُ أجْرَ المِثْلِ لا أُجرَةَ العَمَلِ، أو العَامِلُ فَقَط، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيهِمْ أنْ يَنظُرُوا إِلَى الشَّخْصِ المُمَاثِلِ لِلأجِيرِ لِذَلِكَ العَمَلِ، أي أنْ يَنظُرُوا إِلَى العَمَلِ وَالعَامِلِ، وَأنْ يَنظُرُوا فِي نَفْسِ الوَقْتِ إِلَى زَمَانِ الإِيجَارِ وَمَكَانِهِ؛ لأَنَّ الأُجرَةَ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ العَمَلِ وَالعَامِلِ وَالزَّمَانِ وَالمَكَانِ. وَالأصْلُ فِي الخُبَرَاءِ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَ الأُجرَةَ، أو أجْرِ المِثْلِ، أنْ يَختَارَهُمُ العَاقِدَانِ، أي المُستَأجِرُ وَالأجِيرُ، فَإِنْ لَمْ يَختَارَا الخُبَرَاءَ، أو اختَلَفَا عَلَيهِمَا، فَالمَحكَمَةُ أوِ الدَّولَةُ هِيَ صَاحِبَةُ الصَّلاحِيَّةِ فِي تَعيِينِ هَؤُلاءِ الخُبَرَاءِ.
ونَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ:هَذَا الأَسَاسُ الَّذِي يَجرِي عَلَيهِ تَقدِيرُ الأُجرَةِ، غَابَ عَنِ الوُجُودِ مُنذُ غَابَتْ دَولَةُ الخِلافَةِ, وَحَلَّتْ مَحَلَّهَا دُوَيلاتُ المَسْخِ الَّتِي غَيَّبَتْ شَرْعَ اللهِ تَعَالَى, وَاستَبدَلَتْ بِشَرِيعَةِ الإِسلامِ شَرَائِعَ جَائِرَةً فُرٍضَتْ عَلَيهَا مِنْ قِبَلِ الكَافِرِ المُستَعْمِرْ, فَعَمَّ الظُّلْمُ وَانتَشَرَ الفَسَادُ. فَإِنَّكَ فِي ظِلِّ هَذِهِ الأنظِمَةِ لَتَرَى العَجَبَ العُجَابَ, فَتَسألُ لِمَ هَذَا الحَالَ هَكَذَا؟ فَلا تَجِدُ جَوَابًا شَافِيًا عِندَهُمْ.
إِلاَّ أنَّنا فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ نُدرِكُ السَّبَبَ الحَقِيقِيَّ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيرِهِ, ألا وَهُوَ غِيَابُ تَطبِيقِ أحكَامِ الإِسلامِ عَنِ الأرْضِ, وَغِياَبُ خَلِيفَةِ المُسلِمِينَ الرَّاعِي الحَقِيقِي الَّذِي يُقِيمُ العَدْلَ بَينَهُمْ وَيَسهَرُ عَلَى رَاحَتِهِمْ! فَجَاءَنَا حُكَّامٌ عُمَلاءُ وَمُتَآمِرُونَ وَخَوَنَة, فَلا هُمْ حَكَمُونَا بِالإِسلامِ لِنَسْعَدَ وَيَسعَدُوا بِهِ مَعَنَا فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ, وَلا هُمْ طَبَّقُوا عَلَينَا الأنظِمَةَ الرَّأسمَالِيَّهَ الكَافِرَةَ التِي نَهَضَ أصْحَابُهَا بِهَا بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ صِحَّةِ النَّهضَةِ أو عَدَمَ صِحَّتِهَا, فَسَبَّبُوا لنَا وَلَهُمُ الشَّقَاءَ وَالدَّمَارَ وَخَرَابَ العُمْرَانَ, وَذَلِكَ كَمَا قَالَ ابنُ خَلدُونَ فِي مُقَدِّمَتِهِ: "الظُّلمُ مُؤذِنٌ بِخَرَابِ العُمرَانِ".
فَمِنْ خِلالِ انخِرَاطِي فِي سِلْكِ التَّعلِيمِ وَاختِلاطِي بِالمُعَلِّمِينَ أحْسَسْتُ بِالظُّلْمِ البّيِّنِ الوَاضِحِ الوَاقِعِ عَلَيهِمْ, وَأنَّ مَكَانَةَ المُعَلِّمِ قَدِ انهَارَتْ وَتَرَاجَعَتْ؛ وَمِنْ ثَمَّ انهَارَ مُستَوَى التَّعلِيمِ، وَلِلأسَفِ نَهَضَتْ بِهَذِهِ المَكَانَةِ الدُّوَلُ الأُخرَى المُتقَدِّمَةُ، فَمَا الفَرقُ بَينَنَا وَبَينَهَا إِذَنْ؟ لَو نَظَرنَا إِلَى ألمانيَا مَثَلاً لِنَعرِفَ مَدَى اهتِمَامِهَا بِالمُعَلِّمِ وَمَكَانَتِهِ، نَجِدُ أنَّ لِكُلِّ نَوعٍ مِنْ أنوَاعِ المَدَارِسِ فِي ألمانيَا مُعَلِّمِينَ مُؤَهَّلِينَ تَأهِيلاً خَاصًّا وَمُختَلِفًا، وَنُلاحِظُ أنَّ رَوَاتِبَ المُعَلِّمِينَ فِي ألمَانيَا أعْلَى مِنْ رَوَاتِبِ القُضَاةِ وَالأطِبَّاءِ وَالمُهَندِسِينَ الألمَان!! لِمَاذَا؟ لأنَّ الرَّوَاتِبَ العَالِيَةَ تَجعَلُ المِهْنَةَ مَرغُوبَةً؛ فَيَتَّجِهُ لَهَا الطُّلابُ المُتَفَوِّقُونَ وَالمُتَمَيِّزُونَ؛ وَبِالتَّالِي يَنشَأ جِيلٌ مِنَ المُعَلِّمِينَ العَبَاقِرَةِ وَالمُبدِعِينَ وَالمُتَفَوِّقِينَ، وَهَذَا بِالتَّالِي يُؤَدِّي إِلَى نَقْلِ تَمَيُّزِهِمْ وَتَفَوُّقِهِمْ إِلَى تَلامِيذِهِمْ فَيَتِمُّ بِنَاءُ جِيلٍ مُتَحَمِّسٍ لِلعِلْمِ وَالعَمَلِ مَعًا, قَادِرٍ عَلَى ابتِعَاثِ نَهضَةِ بِلادِهِ. وَقَد تَظَاهَرَ القُضَاةُ فِي ألمَانيَا مُطَالِبِينَ بِمُسَاوَاةِ رَوَاتِبِهِمْ بِمُعَلِّمِي الابتِدَائِي؛ فَرَدَّتْ عَلَيهِمُ المُستَشَارَةُ الألمَانِيَّةُ مِيركِيل قَائِلَةً: "تَأدَّبُوا، كَيفَ تُطَالِبُونَنِي أنْ أُسَاوِيَكُمْ بِمَنْ عَلَّمُوكُمْ؟!!"
وَقَبلَ أَنْ نُوَدِّعَكُمْ مُستَمِعِينَا الكِرَامَ نُذَكِّرُكُمْ بِأَبرَزِ الأفكَارِ التِي تَنَاوَلهَا مَوضُوعُنَا لِهَذَا اليَومِ:
1. عَقْدَ الإِجَارَةِ وَارِدٌ عَلَى المَنفَعَةِ، فَتَكُونُ هِيَ الأسَاسُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيهِ تَقدِيرُ الأُجرَةِ.
2. الأسَاسُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيهِ تَقدِيرُ الأُجرَةِ مِنْ قِبَلِ الخُبَرَاءِ هُوَ المَنفَعَةُ سَوَاءٌ أكَانَتْ المَنفَعَةُ مَنفَعَةَ العَمَلِ، أمْ مَنفَعَةَ العَامِلِ.
3. لا تُقَدَّرُ الأُجْرَةُ بِإنتَاجِ الأجِيرِ، وَلا بِأدْنَى حَدٍّ لِمُستَوَى عَيشِهِ بَينَ جَمَاعَتِهِ.
4. لا دَخْلَ لإِنتَاجِ الأجِيرِ، وَلا لارتِفَاعِ مُستَوَى المَعِيشَةِ فِي تَقدِيرِ الأُجْرَةِ.
5. يُقَدِّرُ الخُبَرَاءُ أجْرَةَ الأجِيرِ بِحَسَبِ تَقدِيرِهِمْ لِقِيمَةِ المَنفَعَةِ فِي المُجتَمَعِ الَّذِي يَعِيشُونَ فِيهِ.
6. يَنظُرُ الخُبَرَاءُ إِلَى قِيمَةِ المَنفَعَةِ فِي المُجتَمَعِ، حِينَ يُقَدِّرُونَ أجْرَةَ العَامِلِ وَأُجرَةَ العَمَلِ، فَيُقَدِّرُونَهَا بِقِيمَةِ المَنفَعَةِ الَّتِي أدَّاهَا العَامِلُ أو العَمَلُ.
7. لا يَجُوزُ أنْ تُقَدَّرَ قِيمَةُ المَنفَعَةِ بِالبَيِّنَةِ وَالحُجَّةِ، بَلْ يُكتَفَى بِرَأيِ الخُبَرَاءِ؛ لأَنَّ المَسألَةَ مَعرِفَةُ قِيمَةِ المَنفَعَةِ لا إِقَامَةُ بَيِّنَةٍ عَلَى مِقدَارِهَا.
8. يَجِبُ عَلَى الخُبَرَاءِ أنْ يَنظُرُوا إِلَى العَمَلِ وَالعَامِلِ، وَأنْ يَنظُرُوا فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ إِلَى زَمَانِ الإِيجَارِ وَمَكَانِهِ؛ لأَنَّ الأُجرَةَ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ العَمَلِ وَالعَامِلِ وَالزَّمَانِ وَالمَكَانِ.
9. الأصْلُ أنْ يَختَارَ العَاقِدَانِ وَهُمَا المُستَأجِرُ وَالأجِيرُ الخُبَرَاءِ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَ الأُجرَةَ أو أجْرِ المِثْلِ.
10. إِنْ لَمْ يَختَر العَاقِدَانِ الخُبَرَاءَ أو اختَلَفَا عَلَيهِمَا، فَالمَحكَمَةُ أوِ الدَّولَةُ هِيَ صَاحِبَةُ الصَّلاحِيَّةِ فِي تَعيِينِ هَؤُلاءِ الخُبَرَاءِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الَمولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الراشدة على منهاج النبوة في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.