- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي
(ح 54)
أجرة العمل
الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ لِلنَّاسِ أحكَامَ الرَّشَاد, وَحَذَّرَهُم سُبُلَ الفَسَاد, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيرِ هَاد, المَبعُوثِ رَحمَةً لِلعِبَاد, الَّذِي جَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ الجِهَادِ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطهَارِ الأمجَاد, الَّذِينَ طبَّقُوا نِظَامَ الِإسلامِ فِي الحُكْمِ وَالاجتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقتِصَاد, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ يَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَومَ التَّنَاد, يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العِبَادِ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا إِروَاءُ الصَّادِي مِنْ نَمِيرِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي, وَمَعَ الحَلْقَةِ الرَّابِعَةِ وَالخَمسِينَ, وَعُنوَانُهَا: "أُجرَةُ العَمَلِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي فِي الإِسلامِ (صَفحَة 90) لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
"وَيُشتَرَطُ أنْ يَكُونَ مَالُ الإِجَارَةِ مَعْلُومًا بِالمُشَاهَدَةِ وَالوَصْفِ الرَّافِعِ لِلجَهَالَةِ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا استَأجَرَ أحَدُكُمْ أجِيرًا فَلْيُعلِمْهُ أجْرَهُ». وَعِوَضُ الإِجَارَةِ جَائِزٌ أنْ يَكُونَ نَقْدًا، وَجَائِزٌ أنْ يَكُونَ غَيرَ نَقْدٍ، وَجَائِزٌ أنْ يَكُونَ مَالاً، وَجَائِزٌ أنْ يَكُونَ مَنفَعَةً، وَكُلُّ مَا جَازَ أنْ يَكُونَ ثَمَنًا جَازَ أنْ يَكُونَ عِوَضًا، عَلَى شَرْطِ أنْ يَكُونَ مَعْلُومًا. أمَّا لَو كَانَ مُجْهُولاً فَلا يَصِحُّ. فَلَو استَأجَرَ الحَاصِدَ بِجُزْءٍ غَيرِ مَعلُومٍ مِنَ الزَّرْعِ لَمْ يَصِحَّ لِلجَهَالَةِ، بِخِلافِ مَا لَوِ استَأجَرَهُ بِصَاعٍ وَاحِدٍ، أو مُدٍّ صَحَّ. وَيَجُوزُ أنْ يُستَأجَرَ الأجِيرُ بِطَعَامِهِ وَكِسوَتِهِ، أو يُجْعَلَ لَهُ أجْرًا مَعَ طَعَامِهِ وَكِسوَتِهِ. لأنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي المُرضِعَةِ قَالَ تَعَالَى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). فَجَعَلَ لَهُنَّ النَّفَقَةَ وَالكِسْوَةَ عَلَى الرَّضَاعِ. وَإِذَا جَازَ فِي المُرضِعَةِ جَازَ فِي غَيرِهَا، لأنَّهُ كُلُّهُ إِجَارَةٌ، فَهِيَ مَسألَةٌ مِنْ مَسَائِلِ الإِجَارَةِ. وَالحَاصِلُ أنَّهُ يَجِبُ أنْ تَكُونَ الأُجرَةُ مَعلُومَةً عِلْمًا يَنفِي الجَهَالَةَ، حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ استِيفَائِهَا مِنْ غَيرِ مُنَازَعَةٍ. لأنَّ الأصْلَ فِي العُقُودِ كُلِّهَا أنْ تَنفِيَ المُنَازَعَاتِ بَينَ النَّاسِ.
وَلا بُدَّ مِنَ الاتِّفَاقِ عَلَى الأُجرَةِ قَبلَ البَدءِ فِي العَمَلِ، وَيُكْرَهُ استِعمَالُ الأجِيرِ قَبلَ أنْ يُتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى الأُجرَةِ. وَإِنْ وَقَعَتِ الإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ استَحَقَّ العَامِلُ الأُجرَةَ بِالعَقْدِ، لَكِنْ لا يَجِبُ تَسلِيمُهَا إِلاَّ بَعدَ العَمَلِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ تَسلِيمُهَا فَورًا لِقَولِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «ثَلاثَةٌ أنَا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ استَأجَرَ أجِيرًا فَاستَوفَى مِنهُ وَلَمْ يُعطِهِ أجْرَهُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ أبِي هُرَيَرَةَ. أمَّا إِذَا اشتُرِطَ تَأجِيلُ الأجْرِ فَهُوَ إِلَى أجَلِهِ، وَإِنْ شَرَطَهُ مُنَجَّمًا يَومًا يومًا، أو شهرًا شهرًا، أو أقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أو أكثَرَ، فَهُوَ عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيهِ. وَلا ضَرُورَةَ لأنْ يَستَوفِيَ المُستَأجِرُ المَنفَعَةَ بِالفِعْلِ، بَلْ يَكفِي تَمكِينُهُ مِنَ الانتِفَاعِ لأنْ يَجعَلَ الأُجْرَةَ مُستَحَقَّةً عَلَيهِ.
فَلَوِ استَأجَرَ أجِيرًا خَاصًّا لِيَخْدِمَهُ فِي بَيتِهِ، وَجَاءَ إِلَى البَيتِ وَوَضَعَ نَفسَهُ تَحْتَ تَصَرُّفِهِ، استَحَقَّ الأجْرَ بِمُضِيِّ المُدَّةِ الَّتِي يُمكِنُ الانتِفَاعُ فِيهَا مِنَ الأجِيرِ؛ لأنَّهُ وَإِنْ كَانَ العَقْدُ عَلَى المَنفَعَةِ، وَلِمْ يَستَوفِهَا بِالفِعْلِ، وَلَكِنَّ تَمكِينَهُ مِنَ استِيفَائِهَا، وَعَدَمَ مُبَاشَرَتِهِ لاستِيفَاءِ المَنفَعَةِ كَافٍ لاستِحقَاقِ الأُجرَةِ؛ لأنَّ التَّقصِيرَ جَاءَ مِنْ جِهَةِ المُستَأجِرِ، لا مِنْ جِهَةِ الأجِيرِ.
أمَّا الأجِيرُ المُشتَرَكُ، أوِ الأجِيرُ العَامُّ فَإِنَّهُ إِذَا استُؤجِرَ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي عَينٍ، فَلا يَخْلُو إِمَّا أنْ يُوقِعَهُ وَهُوَ فِي يَدِ الأجِيرِ كَالصَّبَّاغِ يَصبُغُ فِي حَانُوتِهِ، وَالخَيَّاطِ فِي دُكَّانِهِ, فَلا يَبرَأُ مِنَ العَمَلِ حَتَّى يُسَلِّمَهَا لِلمُستَأجِرِ، وَلا يَستَحِقُّ الأجْرَ حَتَّى يُسَلِّمَهُ مَفرُوغًا مِنهُ؛ لأنَّ المَعقُودَ عَلَيهِ فِي يَدِهِ, فَلا يَبرَأُ مِنهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَى العَاقِدِ. وَأمَّا إِنْ كَانَ يُوقِعُ العَمَلَ فِي مِلْكِ المُستَأجِرِ، مِثْلُ أنْ يُحضِرَهُ المُستَأجِرُ إِلَى دَارِهِ لِيُخِيطَ فِيهَا، أو يَصبُغَ فِيهَا, فَإنَّهُ يَبرَأُ مِنَ العَمَلِ، وَيَستَحِقُّ أجْرَهُ بِمُجَرَّدِ عَمَلِهِ؛ لأنَّهُ فِي يَدِ المُستَأجِرِ، فَيَصِيرُ مُسَلَّمًا لِلعَمَلِ حَالاً فَحَالاً.
وَقَبلَ أَنْ نُوَدِّعَكُمْ مُستَمِعِينَا الكِرَامَ نُذَكِّرُكُمْ بِأَبرَزِ الأفكَارِ التِي تَنَاوَلهَا مَوضُوعُنَا لِهَذَا اليَومِ:
يُشتَرَطُ أنْ يَكُونَ مَالُ الإِجَارَةِ مَعْلُومًا بِالمُشَاهَدَةِ وَالوَصْفِ الرَّافِعِ لِلجَهَالَةِ.
1. عِوَضُ الإِجَارَةِ جَائِزٌ أنْ يَكُونَ وَاحِدًا مِنَ الأربَعَةِ الآتِيَةِ:
أ- نَقْدًا: كأنْ يَكُونَ عِوَضُ الإِجَارَةِ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ.
ب- غَيرَ نَقْدٍ: كأنْ يَكُونَ عِوَضُ الإِجَارَةِ خِدْمَةَ طَبِيبٍ, أو خِدْمَةَ تَعلِيمٍ.
ت- مَالاً: المَالُ كُلُّ مَا يُتَمَوَّلُ للانتفاع بِهِ مَهْمَا كَانَتْ عَينُهُ, كأنْ يَكُونَ عِوَضُ الإِجَارَةِ أثاثًا أو فِرَاشًا.
ث- مَنفَعَةً: كأنْ يَكُونَ عِوَضُ الإِجَارَةِ جُهْدًا يَبذُلُهُ المُستَأجِرُ فَيَنتَفِعُ بِهِ الأجِيرُ كَتَبلِيطِ غُرفَةٍ لَهُ.
2. أحكَامُ عِوَضِ الإِجَارَةِ:
أ- كُلُّ مَا جَازَ أنْ يَكُونَ ثَمَنًا جَازَ أنْ يَكُونَ عِوَضًا.
ب- يُشتَرَطُ أنْ يَكُونَ العِوَضُ مَعْلُومًا, وَإِذَا كَانَ مُجْهُولاً لا يَصِحُّ.
ت- يَجُوزُ أنْ يُستَأجَرَ الأجِيرُ بِطَعَامِهِ وَكِسوَتِهِ، أو يُجْعَلَ لَهُ أجْرًا مَعَ طَعَامِهِ وَكِسوَتِهِ.
ث- يَجِبُ أنْ تَكُونَ الأُجرَةُ مَعلُومَةً عِلْمًا يَنفِي الجَهَالَةَ، حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ استِيفَائِهَا مِنْ غَيرِ مُنَازَعَةٍ لأنَّ الأصْلَ فِي العُقُودِ كُلِّهَا أنْ تَنفِيَ المُنَازَعَاتِ بَينَ النَّاسِ.
3. أحكَامُ الأجِيرِ وَالمُستَأجِرِ:
أ- لا بُدَّ مِنَ الاتِّفَاقِ عَلَى الأُجرَةِ قَبلَ البَدءِ فِي العَمَلِ.
ب- يُكْرَهُ استِعمَالُ الأجِيرِ قَبلَ أنْ يُتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى الأُجرَةِ.
ت- إِنْ وَقَعَتِ الإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ استَحَقَّ العَامِلُ الأُجرَةَ بِالعَقْدِ.
ث- لا يَجِبُ تَسلِيمُ الأُجرَةَ إِلاَّ بَعدَ العَمَلِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ تَسلِيمُهَا فَورًا.
4. أحكَامُ استِيفَاءِ الأجِيرِ أجْرَهُ, وَتَسَلُّمِ المُستَأجِرِ عَمَلَهُ:
أ- إِذَا اشتُرِطَ المُستَأجِرُ تَأجِيلَ الأجْرِ فَهُوَ إِلَى أجَلِهِ.
ب- إِذَا شَرَطَ المُستَأجِرُ الأجْرِ مُنَجَّمًا أي مُفَرَّقًا يَومًا يومًا، أو شهرًا شهرًا، فَهُوَ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيهِ.
ت- لا ضَرُورَةَ لأنْ يَستَوفِيَ المُستَأجِرُ المَنفَعَةَ, بَلْ إِنَّ تَمكِينُهُ مِنَ الانتِفَاعِ يَجعَلَ الأُجْرَةَ مُستَحَقَّةً.
ث- لَو وَضَعَ الأجِيرُ الخَاصُّ نَفسَهُ تَحْتَ تَصَرُّفِ المُستَأجِرِ استَحَقَّ الأجْرَ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الإِجَارَةِ.
ج- إذا جَاءَ التَّقصِيرَ مِنْ جِهَةِ المُستَأجِرِ فِي عَدَمِ مُبَاشَرَةِ استِيفَاءِ المَنفَعَةِ استَحَقَّ الأجِيرُ الأُجرَةِ.
5. إِيقَاعُ عَمَلِ الأجِيرِ المُشتَرَكِ أوِ الأجِيرِ العَامِّ أحَدُ احتِمَالَينِ:
أ- إِمَّا أنْ يُوقِعَ الأجِيرُ العَمَلِ وَهُوَ فِي دُكَّانِهِ كَالخَيَّاطِ فَلا يَبرَأُ مِنَ العَمَلِ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لِلمُستَأجِرِ، وَلا يَستَحِقُّ الأجْرَ حَتَّى يُسَلِّمَهُ مَفرُوغًا مِنهُ.
ب- وَإِمَّا إِنْ يُوقِعَ الأجِيرُ العَمَلَ فِي مِلْكِ المُستَأجِرِ كَأنْ يُحْضِرَهُ إِلَى دَارِهِ لِيَخِيطَ فِيهَا، فَإنَّهُ يَبرَأُ مِنَ العَمَلِ، وَيَستَحِقُّ أجْرَهُ بِمُجَرَّدِ عَمَلِهِ؛ لأنَّ الأجِيرَ يُسَلَّمُ المُستَأجِرَ العَمَلَ أوَّلاً بِأوَّل.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الَمولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الراشدة الثانية على منهاج النبوة في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.