- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح84) نظام الإسلام من الله تعالى, والإنسان يسير أعماله بأوامر الله ونواهيه
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الرَّابِعَةِ وَالثَّمَانِينَ, وَعُنوَانُهَا: "نِظَامُ الإِسلامِ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَالإِنسَانُ يُسَيِّرُ أعْمَالَهُ بِأَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الحَادِيَةِ وَالسَّبعِينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: "ولِهَذا كَانَ لِزَامَاً عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يُسَيِّرَ أَعْمَالَهُ بِنِظَامٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ. إِلَّا أَنَّ هَذَا التَسْييرَ بالنِظَامِ إِنْ كَانَ بِنَاءً عَلَى مَنْفَعَةِ هَذَا النِظَامِ، وَلَمْ يَكُنْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللهِ، لا تَكُونْ فِيهِ نَاحِيَةٌ رُوحِيَّةٌ. بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَكَوْنَ تَنْظِيمُ الإِنْسَانِ أَعْمَالَهُ في الحَيَاةِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ، بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِهِ صِلَتَهُ باللهِ، حَتَّى تُوجَدَ الرُوحُ في الأَعْمَالِ. أَيْ لا بُدَّ مِنْ إِدْرَاكِ الإِنْسَانِ صِلَتَهُ باللهِ، وبناءً عَلَىَ إِدرَاكِهِ لهذِهِ الصِلَةِ بِاللهِ يُسَيِّرُ أعمَالَهُ بِأَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيِهِ، حَتَّىَ تُوجَدَ الرُّوحُ عِندَ القِيَامِ بِالأَعمَالِ، إِذِ الرُّوحُ هيَ إدراكُ الإِنسَانُ صِلَتَهُ بِاللهِ. ومَعْنَى مَزْجِهَا مَعَ المَادَّةِ، هُوَ وُجُودُ الإِدْرَاكِ لِلْصِلَةِ باللهِ حِينَ القِيَامِ بالعَمَلِ، فيَسِيرُ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِ هَذِهِ الصِلَةِ باللهِ. فالعَمَلُ مَادَّةٌ، وإِدْرَاكُ الصِلَةِ باللهِ حِينَ القِيَامِ بِهِ هُوَ الرُوحُ، فَصَارَ تَسْييرُ العَمَلِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِ الصِلَةِ هُوَ مَزْج المَادَّةِ بالرُوحِ. ومِنْ هُنَا لَمْ يَكُنْ تَسْيِيرُ غَيْرِ المُسْلِمِ أَعْمَالَهُ بالأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ المُسْتَنْبَطَةِ مِنَ القُرْآنِ والسُنَّةِ تَسْيِيراً بالرُوحِ، ولا مُتَحَقِّقَاً فِيهِ مَعْنَى مَزْجُِ المَادَّةِ بالرُوحِ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بالإِسْلامِ، فَلَمْ يُدْرِكِ الصِلَةَ باللهِ، بَلْ أَخَذَ الأَحْكَامَ الشَرْعِيَّةَ نِظَاماً أَعْجَبَهُ فَنَظَّمَ بِهِ أَعْمَالَهُ، بِخِلافِ المُسْلِمِ فَقَدْ كَانَ قِيَامُهُ بأَعْمَالِهِ وَفْقَ أَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ مَبْنِيَّاً عَلَى إِدْرَاكِهِ لِصِلَتِهِ باللهِ، وكَانَتْ غَايَتُهُ مِنْ تَسْيِيرِ أَعْمَالِهِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ هِيَ رِضْوَانَ اللهِ، لا الانْتِفَاعَ بالنِظَامِ فَقَطْ. وعَلَى ذَلِكَ لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النَاحِيَةِ الرُوحِيَّةِ في الأَشْيَاءِ، ولا بُدَّ مِنَ الرُوحِ حِينَ القِيَامِ بالأَعْمَالِ. عَلَى أَنْ يَكُونَ وَاضِحَاً دَائِمَاً عِنْدَ الجَمِيعِ أَنَّ النَاحِيَةَ الرُوحِيَّةَ تَعْنِي كَوْنَ الأَشْيَاءِ مَخْلُوقَةً لخَالِقٍ خَلَقَهَا، أَيْ هِيَ صِلَةُ المَخْلُوقِ بالخَالِقِ، وأَنَّ الرُوحَ هِيَ إِدْرَاكُ هَذِهِ الصِلَةِ، أَيْ إِدْرَاكُ الإِنسَانِ صِلَتَهُ باللهِ تعالى. هَذِهِ هِيَ النَاحِيَةُ الرُوحِيَّةُ، وهَذِهِ هِيَ الرُوحُ. وهَذَا وَحْدَهُ هُوَ المَفْهُومُ الصَحِيحُ، وما عَدَاهُ مَفْهُومٌ مَغْلُوطٌ قَطْعَاً. والنَظْرَةُ العَمِيقَةُ المُسْتَنِيرَةُ إِلَى الكَوْنِ والحَيَاةِ والإِنسَانِ هِيَ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى النَتَائِجِ الصادِقَةِ، وهِيَ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى هَذَا المَفْهُومِ الصَحِيحِ".
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: بَعدَ أنْ يُوصِلَنَا الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - إِلَى النَّتِيجَةِ القَائِلَةِ: النِّظَامُ الَّذِي يُشبِعُ الإِنسَانُ غَرَائِزَه وَحَاجَاتِهِ العُضوِيَّةَ عَلَى أسَاسِهِ لا بُدَّ حَتْماً مِنَ أَنْ يَكَوْنَ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ لأنَّ العَقْلَ البَشَرِيَّ غَيرُ قَادِرٍ عَلَى إِيجَادِ تَنظِيمٍ صَحِيحٍ لإِشبَاعِ الغَرَائِزِ وَالحَاجَاتِ العُضوِيَّةِ. يَنتَقِلُ الشَّيخُ بَعدَ ذَلِكَ مُبَاشَرَةً إِلَى مَوضُوعِ وُجُوبِ تَسْيِيرِ الإِنسَانِ أَعْمَالَهُ بِنِظَامٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ. وَيُمكِنُ إِجْمَالُ الأفكَارِ الوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الفَقْرَةِ بِالنُّقَاطِ الآتِيَةِ:
- تَسْيِيرُ الإِنسَانِ أَعْمَالَهُ بِنِظَامٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنْ كَانَ بِنَاءً عَلَى مَنْفَعَةِ هَذَا النِظَامِ، وَلَمْ يَكُنْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللهِ، لا تَكُونْ فِيهِ نَاحِيَةٌ رُوحِيَّةٌ.
- لا بُدَّ أَنْ يَكَوْنَ تَنْظِيمُ الإِنْسَانِ أَعْمَالَهُ في الحَيَاةِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ، بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِهِ صِلَتَهُ باللهِ، حَتَّى تُوجَدَ الرُوحُ في الأَعْمَالِ.
- لا بُدَّ مِنْ إِدْرَاكِ الإِنْسَانِ صِلَتَهُ باللهِ، وبناءً عَلَىَ إِدرَاكِهِ لهذِهِ الصِلَةِ بِاللهِ يُسَيِّرُ أعمَالَهُ بِأَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيِهِ، حَتَّىَ تُوجَدَ الرُّوحُ عِندَ القِيَامِ بِالأَعمَالِ.
- الرُّوحُ هيَ إدراكُ الإِنسَانُ صِلَتَهُ بِاللهِ. وَالرُّوحُ أيضاً مِنَ الألفَاظِ المُشتَرَكَةِ الَّتِي لَهَا عِدَّةُ مَعَانٍ, فَمِنْ مَعَانِيهَا: سِرُّ الحَيَاةِ, وَمِنْ مَعَانِيهَا: جِبرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ, وَمِنْ مَعَانِيهَا: القُرآنُ.
- مَعْنَى مَزْجِ الرُّوحِ مَعَ المَادَّةِ، هُوَ وُجُودُ الإِدْرَاكِ لِلْصِلَةِ باللهِ حِينَ القِيَامِ بالعَمَلِ، فيَسِيرُ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِ هَذِهِ الصِلَةِ باللهِ. فالعَمَلُ مَادَّةٌ، وإِدْرَاكُ الصِلَةِ باللهِ حِينَ القِيَامِ بِهِ هُوَ الرُوحُ، فَصَارَ تَسْييرُ العَمَلِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِ الصِلَةِ هُوَ مَزْج المَادَّةِ بالرُوحِ.
- تَسْيِيرُ غَيْرِ المُسْلِمِ أَعْمَالَهُ بالأَحْكَامِ الشَرْعِيَّةِ المُسْتَنْبَطَةِ مِنَ القُرْآنِ والسُنَّةِ لَمْ يَكُنْ تَسْيِيراً بالرُوحِ، ولا مُتَحَقِّقاً فِيهِ مَعْنَى مَزْجُِ المَادَّةِ بالرُوحِ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بالإِسْلامِ، فَلَمْ يُدْرِكِ الصِلَةَ باللهِ، بَلْ أَخَذَ الأَحْكَامَ الشَرْعِيَّةَ نِظَاماً أَعْجَبَهُ فَنَظَّمَ بِهِ أَعْمَالَهُ.
- قِيَامُ المُسْلِمِ بأَعْمَالِهِ وَفْقَ أَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى إِدْرَاكِهِ لِصِلَتِهِ باللهِ، وَغَايَتُهُ مِنْ تَسْيِيرِ أَعْمَالِهِ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ هِيَ نَيلُ رِضْوَانِ اللهِ، لا الانْتِفَاعَ بالنِظَامِ فَقَطْ.
8- لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النَاحِيَةِ الرُوحِيَّةِ في الأَشْيَاءِ، ولا بُدَّ مِنَ الرُوحِ حِينَ القِيَامِ بالأَعْمَالِ.
9- النَاحِيَةُ الرُوحِيَّةُ تَعْنِي كَوْنَ الأَشْيَاءِ (الكَونِ وَالإِنسَانِ وَالحَيَاةِ) مَخْلُوقَةً لخَالِقٍ خَلَقَهَا، أَيْ هِيَ صِلَةُ المَخْلُوقِ بالخَالِقِ، وأَنَّ الرُوحَ هِيَ إِدْرَاكُ هَذِهِ الصِلَةِ، أَيْ إِدْرَاكُ الإِنْسَانِ صِلَتَهُ باللهِ تعالى.
يَختَتِمُ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ مَوضُوعَ تَسيِيرِ الإِنسَانِ أَعْمَالَهُ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ بِقَولِهِ: هَذِهِ هِيَ النَاحِيَةُ الرُوحِيَّةُ، وهَذِهِ هِيَ الرُوحُ. وهَذَا وَحْدَهُ هُوَ المَفْهُومُ الصَحِيحُ، وما عَدَاهُ مَفْهُومٌ مَغْلُوطٌ قَطْعَاً. والنَظْرَةُ العَمِيقَةُ المُسْتَنِيرَةُ إِلَى الكَوْنِ والحَيَاةِ والإِنْسَانِ هِيَ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى النَتَائِجِ الصادِقَةِ، وهِيَ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى هَذَا المَفْهُومِ الصَحِيحِ.
وَقَبلَ أنْ نُوَدِّعَكُمْ إِخوَانَنَا وَأخَوَاتِنَا, نَذكُرُ لَكُمْ مَوقِفَينِ اثنَينِ مِنَ المَوَاقِفِ الَّتِي تُبَيَّنُ مَدَى التِزَامِ المُؤمِنِينَ بِتَسيِيرِ أَعْمَالِهِمْ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ, المَوقِفُ الأَوَّلُ وَقَفَهُ أحَدُ التَّابِعِينَ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِ, وَأمَّا المَوقِفُ الثَّانِي فَقَدْ وَقَفَهُ أخٌ لَكُمْ فِي اللهِ مِنْ أبنَاءِ العَصْرِ الحَاضِرِ, أعرِفُهُ حَقَّ المَعرِفَةِ, وَهُو لا زَالَ يَعِيشُ بَينَنَا, وَلا يُحِبُّ أنْ يُذكَرَ اسمُهُ؛ وَذَلِكَ كَي يَظَلَّ عَمَلُهُ خَبِيئَةً مُدَّخَرَةً لَهُ عِندَ اللهِ, يَنَالُ جَزَاءَهَا يَومَ يَلْقَاهُ.
الموقف الأول: بَلَغَ مِنْ وَرَعِ التَّابِعِينَ وَتَقوَاهُم بِتَسيِيرِ أَعْمَالِهِمْ بأَوَامِرِ اللهِ ونَوَاهِيهِ أنَّ التَّابِعِيَّ مُحَمَّدَ بنَ سِيرينَ - رَحِمَهُ اللهُ - كَانَ قَدْ قَسَّمَ حَيَاتَهُ أقسَاماً ثَلاثَةً: فَجَعَلَ قِسْماً لِلعِلْمِ: يَأخُذُهُ وَيُعطِيهِ, وَقِسْماً لِلعِبَادَةِ: يَصفُو فِيهِ إِلَى رَبِّهِ, وَقِسْماً لِلتِّجَارَةِ: يَكْسِبُ فِيهِ المَالَ الَّذِي يَسُدُّ بِهِ الحَاجَاتِ, وَيَقضِي بِهِ الحُقُوقَ, وَيَعُودُ بِهِ عَلَى المُحتَاجِينَ. وَفِي ذَاتِ مَرَّةٍ اشتَرَى زَيتاً بِأَربَعِينَ ألْفِ دِرهَمٍ مُؤَجَّلَةً, فَلَمَّا فَتَحَ أحَدَ زِقَاقِ الزَّيتِ - وَهُوَ إِنَاءٌ مِنْ جِلْدٍ - وَجَدَ فِيهِ فَأراً مَيتاً مُتَفَسِّخاً, فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: "إِنَّ الزَّيتَ كُلَّهُ كَانَ فِي المِعْصَرَةِ, فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ, وَإِنَّ النَّجَاسَةَ لَيسَتْ خَاصَّةً بِهَذَا الزِّقِّ دُونَ سِوَاهُ, وَإِنِّي إِنْ رَدَدْتُهُ لِلبَائِعِ بِالعَيبِ, فَرُبَّمَا بَاعَهُ لِلنَّاسِ". ثُمَّ أرَاقَهُ كُلَّهُ, وَوَقَعَ مِنهُ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ كَانَ يَشكُو فِيهِ ابنُ سِيرِينَ مِنْ خَسَارَةٍ كَبِيرَةٍ حَلَّتْ بِهِ. فَرَكِبَهُ الدَّينُ, وَطَالَبَهُ صَاحِبُ الزَّيتِ بِمَالِهِ, فَلَمْ يَستَطِعْ سَدَادَهُ, فَرَفَعَ أمرَهُ إِلَى الوَالِي, فَأَمَرَ القَاضِي بِحَبْسِهِ حَتَّى يُسَدِّدَ مَا عَلَيهِ, فَلَمَّا صَارَ فِي السِّجْنِ, وَطَالَ مُكثُهُ فِيهِ, أشفَقَ عَلَيهِ السَّجَّانُ لَمَّا عَلِِمَ مِنْ أمْرِ دَينِهِ, وَمَا رَأى مِنْ شِدَّةِ وَرَعِهِ, وَطُولِ عِبَادَتِهِ, فَقَالَ لَهُ: أيُّهَا الشَّيخُ, إِذَا كَانَ اللَّيلُ فَاذْهَبْ إِلَى أهلِكَ, وَبِتْ مَعَهُمْ, فَإِذَا أصْبَحْتَ فَعُدْ إِلَيَّ, وَاستَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُطلَقَ سَرَاحُكَ, فَقَالَ لَهُ الإِمَامُ ابنُ سِيرِينَ: "لا وَاللهِ لا أفْعَلُ", فَقَالَ السَّجَّانُ: وَلِمَ يَا شَيخُ هَدَاكَ اللهُ؟؟ فَقَالَ لَهُ: "حَتَّى لا أُعَاوِنَكَ عَلَى خِيَانَةِ السُّلطَانِ". وَمَكَثَ فِي السَّجْنِ!!
المَصَادِر: (حِلْيَةُ الأولِيَاء, وَسِيَر أعلامِ النُّبَلاء, وَصُورٌ مِنْ حَيَاةِ التَّابِعِينَ)
الموقف الثاني: وَقَفَهُ أَحَدُ شَبَابِنَا شَبَابَ حِزْبِ التَّحرِيرِ, حَيثُ كَانَ يَملِكُ مَصْنَعاً لِلأحذِيَةِ, وَلِكَي تَزدَادَ أربَاحُهُ, فَكَّرَ فِي استِيرَادِ كَمَّيةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ جُلُودِ الحَيوَانَاتِ بِسِعْرِ الجُملَةِ لِيُقَلِّلَ مِنْ تَكلُفَةِ الصَّنَاعَةِ, وَيُوَفِّرَ فِي المَوَادِّ الخَامِّ الأوَّلِيَّةِ اللازِمَةِ لِلصِّنَاعَةِ, فَسَافَرَ إِلَى بِلادٍ بَعِيدَةٍ, وَعَقَدَ صَفْقَةً تِجَارِيَّةً هُنَاكَ لِشِرَاءِ بَاخِرَةٍ مُحَمَّلَةٍ بِالجُلُودِ, وَلَمَّا وَصَلَتِ البَاخِرَةُ وَفِيهَا البِضَاعَةُ, أخبَرَهُ بَعُضُ الخَبِيرِينَ بِجُلُودِ الحَيوَانَاتِ أنَّهَا كُلَّهَا مِنْ جُلُودِ الخَنَازِيرِ, وَسَألَ هَذَا الشَّابُ عَنِ الحُكْمِ الشَّرعِيِّ فِي استِخدَامِ هَذِهِ الجُلُودِ فِي صِنَاعَةِ الأحذِيَةِ, فَأفتَوهُ بِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ شَرعاً, فَمَا كَانَ مِنهُ بَعدَ أنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِلَّا أنْ قَامَ بِإِتلافِهَا جَمِيعَهَا, وَتَحَمَّلَ بِسَبَبِهَا خَسَارَةً فَادِحَةً كَبِيرَةً, تُقَدَّرُ بِمِئَاتِ آلافِ الدَّنَانِيرِ طَلَباً لِلرِّزْقِ الحَلالِ, وَطَمَعاً فِي كَسْبِ مَرْضَاةِ اللهِ جَلَّ فِي عُلاهُ!!
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.